تسليم الإنذار الأخير للملك فاروق
وطلب ألملك ، مقابلة ألسفير الأمريكي
وصول علي ماهر إلى بولكلي ومباحثاته مع الفريق محمد نجيب
في الساعة 9,10 صباحاً، وصل رئيس الوزراء إلى مقر الحكومة، في بولكلي، وكان قد سبقه إليها القائد العام، في موكب تحيط به عدة سيارات، من سيارات البوليس الحربي، وكانت الجماهير على جانبي الطريق، تهتف: "يحيا نجيب حامي الشعب، يحيا نجيب محطم الطغيان". ودخل القائد العام إلى مكتب رئيس الوزراء، لحين عودته من القصر، وكان بصحبته ضابطان هما: جمال سالم وأنور السادات. وبعد عشر دقائق، عاد علي ماهر، ودام الاجتماع نحو الساعة.
كان القائد العام، وأعضاء القيادة بالإسكندرية، عاكفين، منذ الليلة السابقة، على إعداد إنذار إلى الملك، يطلبون فيه تنازله عن العرش لابنه أحمد فؤاد، وقيل كان الإنذار في صورته الأولى يتضمن إشارات محددة إلى عدد من الانحرافات الفردية مما لا يجوز أن تتضمنها وثيقة تاريخية.
أما كيف تلقى علي ماهر المفاجأة، فتقول رواية الفريق محمد نجيب، التي تتفق مع رواية الكاتب أحمد عطية الله: "في التاسعة صباحاً، قابلت علي ماهر، في مقر الحكومة، في بولكلي، وكان معي جمال سالم وأنور السادات. وبمجرد أن رأيته، أخرجت ورقة كبيرة، عليها الإنذار الموجه للملك، فأخذها أنور السادات، وقرأ ما فيها بصوت مرتفع. وطلبت منه أن يوقع الملك وثيقة تنازله عن العرش، قبل الثانية عشرة ظهراً. ومغادرة البلاد، قبل السادسة مساء. وارتجفت شفتا علي ماهر وشحب وجهه، وقال:
ـ هل قدرتم كل شيء؟
قلت: نعم!
ـ قال: زي ما تشوفوا!
وغادر مقر الحكومة إلى قصر رأس التين، ليعرض على الملك مطلبنا في تنازله عن العرش، وتسليم الإنذار الأخير له، وكان نصه (انظر ملحق نص الإنذار الموجه إلى الملك من الفريق أركان حرب محمد نجيب باسم ضباط الجيش ورجاله إلى الملك فاروق الأول):
"من الفريق أركان حرب محمد نجيب: باسم ضباط الجيش ورجاله، إلى جلالة الملك، إنه نظراً لما لاقته البلاد، في العهد الأخير، من فوضى شاملة، عمت جميع المرافق، نتيجة سوء تصرفكم، وعبثكم بالدستور، وامتهانكم لإرادة الشعب، حتى أصبح كل فرد، من أفراده، لا يطمئن على حياته، أو ماله، أو كرامته، ساءت سمعة مصر، بين شعوب العالم، من تماديكم في هذا المسلك، حتى أصبح الخونة والمرتشون يجدون في ظلكم الحماية، والأمن، والثراء الفاحش، والإسراف الماجن، على حساب الشعب الجائع الفقير.
ولقد تجلت آية ذلك في حرب فلسطين، وما تبعها من فضائح الأسلحة الفاسدة، وما ترتب عليها من محاكمات، تعرضت لتدخلكم السافر، مما أفسد الحقائق، وزعزع الثقة في العدالة، وساعد الخونة على ترسم هذا الخطأ، فأثرى من أثرى، وفجر من فجر. وكيف لا والناس على دين ملوكهم؟
لذلك قد فوضني الجيش، الممثل لقوة الشعب، أن أطلب، من جلالتكم، التنازل عن العرش لسمو ولي عهدكم، الأمير أحمد فؤاد، على أن يتم ذلك في موعد، غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر اليوم، السبت الموافق 26 يوليه 1952، الرابع من ذي القعدة 1371، ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه. والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج".
فريق أركان حرب
محمد نجيب
الإسكندرية في: 26 يوليه عام 1952 4
من ذي القعدة عام 1371
وعدنا إلى ثكنات مصطفى كامل، في انتظار رد الملك، الذي سيحمله لنا علي ماهر. وترقبا لما يمكن أن يحدث من الملك. وتحادثت مع زكريا محيي الدين، للتأكد من استعداد قواتنا لفرض إرادتها بالقوة، إذا احتاج الأمر. واطمأننت لما سمعته منه، وخاصة بعد أن سمعت أزيز الطائرات في سماء الإسكندرية، يلفت نظر الناس، ويصل بالتأكيد إلى سمع فاروق، في قصره.
روايـة سليمان حافــظ
عندما وصل الفريق محمد نجيب إلى بولكلي، الساعة التاسعة صباحاً، أبلغه سليمان حافظ، وكيل مجلس الدولة، الذي استدعي لمجلس الوزراء لاستشارته في الشؤون القانونية، أن مستر سباركس، مستشار السفارة الأمريكية، قد حضر منذ مدة. وأنه في حالة اضطراب، وانفعال شديدين، ويقول أنه موفد من مستر كافري للتحري عن حقيقة إطلاق الرصاص على قصر رأس التين، ومدى ما يترتب على ذلك من أضرار، قد تسيء إلى مصلحة البلاد.
وهدَّأ محمد نجيب مستر سباركس، قائلاً له، إن هذه القوات قد وزعت في الإسكندرية، كإجراء روتيني لحماية الأمن، وإنه أصدر أوامره بوقف الضرب، الذي بدأ على أساس تصور خاطيء، من الحرس الملكي، بأن هذه القوات تريد أن تقتحم القصر. وانصرف مستر سباركس وقد خف اضطرابه، وهدأت حدة انفعاله.
جدير بالذكر أن رواية أنور السادات عن هذه الأحداث بها بعض الاختلافات (انظر ملحق رواية السادات عن الأحداث).
علي ماهر يعود إلى قصر رأس التين مرة أخرى
في الساعة 10,25 صباحاً، عاد علي ماهر، إلى قصر رأس التين، للمرة الثانية، ليقدم مطالب الجيش، التي تتضمن تنازل الملك عن العرش لابنه، ومغادرة البلاد في اليوم نفسه، وظل مجتمعاً بالملك، نحواً من نصف ساعة، وبدأ بالتمهيد شفهياً بمضمون الإنذار، بأسلوب دبلوماسي رفيق، وبيَّن للملك جميع الظروف المحيطة به، وأن لا فائدة من المواجهة العسكرية، التي قد تتحول إلى حرب أهلية، إذ أن حركة الجيش مؤيدة من الشعب كله، وذلك قبل أن يقدم إليه الإنذار، وبدا، على الملك، التجهم، ولكنه ظل متماسكاً، وفي النهاية اقتنع بجدية الموقف، ووافق على ما جاء بالإنذار من التنازل عن العرش، ومغادرة البلاد، في الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه، على أن يكون رئيس الوزراء، والسفير الأمريكي، في وداعه، وأن يتم ذلك، بالتكريم اللائق، الذي يقتضيه البروتوكول، في حالة تنازل رئيس الدولة عن منصبه، إذ يقضي القانون العسكري، في حالة تنازل الملك، القائد الأعلى للقوات المسلحة، عن عرشه أن يودع وداعاً عسكرياً، إلى النهاية، ويراعى إتمام هذا المراسم كاملة .
أنهى رئيس الوزراء المقابلة، قائلاً أن وثيقة التنازل سوف ترسل إلى جلالته، لتوقيعها، فأبدى الملك ملاحظة أخيرة، بأن يكتب التنازل على ورق لائق، وبصيغة تحفظ كرامة رئيس الدولة، كما وافق رئيس الوزراء على أن يكون سفر الملك، على يخت المحروسة، إلى الجهة، التي يقررها، بصحبة زوجته وأبنائه، وبعض خدمه الخصوصيين، واستثنى، من هذه المطالب، طلب الملك في أن تصحب المحروسة حراسة، من المدمرات، حتى المياه الإقليمية، (وهو ما رفضه القائد العام).
ويذكر أحمد بهاء الدين
توجه علي ماهر باشا إلى قصر رأس التين، ودخل إلى حجرة في السلاملك، المطل على الميناء، كان فاروق ينتظره فيها. ووجد علي ماهر أن فاروق ما يزال في حالة قلق شديد؛ فقال له: "يا مولاي، الشعب ثائر، والجيش متحفز، وأنا شايف إن جلالتك تضحي، وتتنازل عن العرش، فتتحاشى أي اشتباك، وتضمن العرش لابنك".
وفكر فاروق لحظة. ثم قال، بعد لحظات: "طيب"، ثم طلب أن يصحب معه ولى عهده، فوعده علي ماهر بذلك. وأخرج علي ماهر، من جيبه، الإنذار الموجه من الجيش، وقرأه فاروق وهو يرتجف، وقال: لكن دي لهجة عنيفة قوي، وما تصحش في موقف زي ده".
فقال علي ماهر: أنه لم يحمل إليه الإنذار الأول، وأنه بذل جهده، في إقناع الجيش، بتخفيف الصيغة، حتى جاءت على هذا النحو.
وأذعن فاروق مرة أخرى. وقال: "لازم الإنذار الأول كان فظيع جداً".
الملك فاروق يــرفــض
وفي رواية أخرى (وهي الأقرب إلى الواقع)، أبلغ علي ماهر الملك فاروق، شفاهه، بإنذار الجيش، لقسوة بعض كلماته، مشفوعاً برأيه، ونصيحته في النزول عن العرش لابنه أحمد فؤاد الثاني، استبقاء للعرش في ذريته.
ولكن الملك قال أنه ليس جباناً، وأن عنده قوات موالية أكثر مما عند الثائرين، ولكن علي ماهر أوضح له مخاطر تعريض مصر لحرب أهلية لا يعلم مداها إلا الله، واقتنع الملك من دون نقاش طويل، وعندما سأله علي ماهر إذا كان يفضل، السفر جواً. أجاب بأنه يفضل السفر بحراً على الباخرة (المحروسة) وهي يخته الخاص مشترطاً الآتي:
أن يصحب معه زوجته ناريمان، وابنه الطفل أحمد فؤاد، وسائر أولاده.
أن يودَّع على الصورة، التي تليق بملك نزل عن العرش، باختياره.
أن تشترك الحكومة في وداعه، ممثلة برئيسها، وكذلك القوات المسلحة ممثلة، بقائدها الفريق محمد نجيب.
أن يُمكِّن من مقابلة السفير الأمريكي، جيفرسون كافري، قبل سفره.
أن تقوم قطع الأسطول المصري بحراسة الباخرة، التي سيستقلها، حتى وصوله إلى إيطاليا.
وهذه الرواية هي نفسها رواية اللواء محمد نجيب التي قال، في آخرها:
وافقت فوراً على كل هذه الطلبات عدا الطلب الأخير، الذي عدلته، لتكون حراسة الأسطول المصري للمحروسة حتى نهاية المياه الإقليمية المصرية فقط. وقد أيقنت، في هذه اللحظة، أن اختياري لعلي ماهر، رئيساً للوزراء، في هذه الفترة، كان موفقاً تماماً؛ لصلته القديمة بالملك ولأنه موضع ثقته، مما جعل عملية النزول عن العرش تتم، في سهولة مطلقة.
علي ماهر يعود مرة أخرى إلى بولكلي
في الحادية عشرة صباحاً، عاد رئيس الوزراء إلى دار الرئاسة، وفي الطريق، تقدم بعض الشباب، وفتحوا باب السيارة وحاولوا حمله فوق رؤوسهم، واتصل بالقائد العام، ودعاه للاجتماع به، وحول هذا الوقت، وصل السفير الأمريكي، جيفرسن كافري، واجتمع بالملك، لفترة قصيرة،
وذكر شاهد عيان أن الدموع كانت تترقرق في عينيه، بعد خروجه، وعاد بعدها السفير إلى الرئاسة ببولكلي، واجتمع برئيس الوزراء، لمدة ربع ساعة، وكان ذلك بناء على طلب السفير، وعلى أثره حضر المقابلة الرئيس، والوزير المفوض البريطاني، مستر كرزويل (لغياب السفير في فرنسا)، وفي الوقت نفسه، استقبل القائد العام، قبل مغادرته، في ثكنات مصطفى باشا، مستر سمسون، مستشار السفارة الأمريكية، حاملاً رسالة خاصة من السفير.
وأثناء اجتماع محمد نجيب بعلي ماهر، بدار الرئاسة ببولكلي، اتفقا على كتابة صيغة التنازل، بما تتناسب مع مخاطبة ملك يرحل، تلبية لرغبة فاروق. وقد اعتذر علي ماهر عن القيام بعملية تسليم الملك وثيقة التنازل عن العرش، بسبب ارتباطه، عاطفياً، بالدور، الذي كان قد سبق ولعبه، بوقوفه بجانب فاروق، عند توليه العرش، عام 1937، بعد وفاة والده، الملك أحمد فؤاد الأول. ولذا فقد كلف، بدلاً منه، المستشار سليمان حافظ، للقيام بتلك المهمة. وغادر محمد نجيب مكتب علي ماهر، في بولكلي، متوجهاً إلى ثكنات مصطفى كامل، حتى ينتهي سليمان حافظ من إنجاز مهمته.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ومصطفى صادق كان ضابطا بسلاح الطيران ثم شغل منصب مدير شركة طيران سعيد.
[2] وقد انتحر الأميرالاي محمد وصفى بك فيما بعد.
[3] الكلفوات عبارة عن آنسات تركيات. يختارهن القصر وهن صغيرات السن من اللقيطات من ملاجىء تركيا!..وفى مصر يربين تربية خاصة لكي يصبحن رفيقات وخادمات خصوصيات للملكة والأميرات. وكان عدد الكلفوات الموجودات في قصر رأس التين يوم التنازل ستة.
د. يحي ألشاعر