حسابات الرئيس.. وحساباتنا!
مقالات حازم حسني 2015-08-27 05:21:08 طباعة
لم أكن أسعى لهذا الموقف الثقيل على نفسى، ولا أنا سعيد به.. أعنى أن أجد نفسى مضطرا لمناظرة الرئيس فى حساباته الاقتصادية، وفى أسلوب إدارته المالية، فليس هذا مقام الرئيس، وما كان ينبغى له أن يكون، أما وقد ارتجل الرئيس كلماته أمام الندوة التثقيفية التى عقدها الجيش يوم 16 أغسطس، وقرر وهو فى نشوة الارتجال أن يعطينا دروسا فى الحسابات المالية، فإنه يكون واجبا علينا أن نصحح له -ولجمهور المصريين- هذه الحسابات؛ فبقاؤها بغير تصحيح إنما يكون إقرارا منا بصحتها، وتفويضا لصاحبها باعتمادها فى التخطيط للمستقبل الاقتصادى والمالى للبلاد!
مضطرون للمناظرة إذن بعد ما لاحظناه من أن الرئيس لا يكف فى أكثر خطبه وأحاديثه عن التأكيد على عمق هذه الحسابات الاقتصادية، وعلى ما حبا الله صاحبها من قدرة استثنائية على
الإدارة المالية، مطالبا الشعب -وأحيانا كبار المسؤولين فى الدولة- بأن يطمئنوا لهذه الحسابات؛ فقد رأيناه وسمعناه فى أكثر من مناسبة يوجه حديثه إلى الشعب -وأحيانا إلى الحكومة- مؤكدا معرفته الكاملة بمشكلات مصر، حتى إنه يراها كما يرانا، ويعرف حلولها كما لا يعرفها أحد غيره، لكن المسألة كلها -من وجهة نظره- مسألة تمويل، فإذا توفر التمويل اختفت المشكلات!… هكذا ببساطة، وكأن توفير وتخصيص الموارد المالية ليس فى ذاته أصل المشكلة التى تواجه أى مخطط اقتصادى!
هذا التوجه لدى الرئيس، وأعنى اعتقاده فى استثنائية قدراته الاقتصادية، وفى مهارته فى
الإدارة المالية للبلاد، إنما يحتاج إلى المراجعة، ولوقفة صادقة مع الرئيس، قبل أن يستفحل الأمر وننتهى إلى كارثة اقتصادية ومالية لن تستأذن أحدا إذا ما اكتملت شروط تحققها! فلا خير فينا -والحال هذه- إن لم نقلها، ولا خير فيه إن لم يسمعها ويتدبرها!
دعونا نبدأ مراجعتنا لحسابات الرئيس، التى لا تتفق مع حسابات المنطق الاقتصادى والمالى، مما قاله أمام الندوة التثقيفية فى تبريره لقرار تقليص مدة حفر تفريعة قناة السويس إلى سنة واحدة، بأننا كنا سندفع فائدة على مبلغ العشرين مليار جنيه -تكلفة المشروع- عن كل سنة إضافية يستغرقها التنفيذ، وأنه باختصاره مدة التنفيذ قد قام بتوفير ما كانت ستتحمله الدولة مقابل سعر الفائدة عن هذه السنوات الإضافية!! الشىء الغريب حقا هو أن أحدا من الحضور أو المراقبين لم يعلق على هذا التبرير الغريب الذى يفتقر إلى أبسط قواعد المنطق والحساب الاقتصادى والمالى، على الرغم من أنه كان بين الحضور حائز على جائزة نوبل يحثنا دائما على التفكير العلمى وعلى عدم إهدار قيمة العقل!!
دعونا هنا نفند منطق السيد الرئيس، فبديهيات
الإدارة المالية تقول بأن تحدد دراسة الجدوى أولا المدة الزمنية اللازمة لتنفيذ المشروع بأقل تكلفة ممكنة، فى ضوء ما هو متاح من إمكانات مالية وقدرات تنفيذ هندسية وما هو متوقع من عائدات، ثم استنادا إلى دراسة الجدوى هذه يتم الاقتراض -إن كانت ثمة ضرورة للاقتراض- بدفعات متتالية حسب التقدم فى مراحل التنفيذ، ومن ثم تتوالى التدفقات المالية اللازمة فى وقتها لا قبل الحاجة إليها، فلا يكون السؤال عن «كم تكون قيمة القرض؟» منفصلا عن سؤال «متى نحصل على دفعة القرض، ومتى نسددها؟»، وبذلك ينتفى سداد الفائدة على قروض غير مستغَلة!
ما حدث فى مشروع حفر التفريعة هو أن إشارة البدء فى المشروع، وتكليف شركات المقاولات بالبدء فى العمل، قد سبقا حتى أى قرار يتعلق بشكل التمويل، وكان تعليق الرئيس ساعتها هو أن «مصر أمانة فى أعناقنا جميعا»، فلا يطالبنه أحد بأى استحقاقات مالية! ولأن هذا الأسلوب التطوعى لا يصلح فى إدارة المشروعات العامة، خصوصا إذا كانت بحجم مشروع حفر تفريعة لقناة السويس، ولأن شركات المقاولات قد عبرت وقتها عن انزعاجها من هذا التوجه، فقد تمت تسوية الأمر لاحقا بطرح شهادات استثمار قناة السويس، وتم تجميع 64 مليار جنيه فى نحو أسبوع، مما هلل له الجميع رغم عدم حصافته المالية، فالمبلغ لم يكن مطلوبا كله دفعة واحدة لتمويل المرحلة الأولى من المشروع التى تكلفت -وفقا لحديث الرئيس- 20 مليار جنيه فقط من أصل 64 مليارا تم تجميعها، وهو ما يعنى أن هيئة قناة السويس قد تحملت مبلغ خمسة مليارات و280 مليون جنيه قيمة سعر الفائدة على 44 مليار جنيه لم يكن المشروع بحاجة إليها فى مرحلته الأولى!
منطق الرئيس إذن فى حكمة اختصار مدة الحفر لسنة واحدة إنما يدينه فى تبديد هذه المليارات دون ضرورة! لكن دعونا من هذا كله فهو استغراق فى تفاصيل لا صلة لها بالواقع المالى للمشروع، وتفترض -كما قال الرئيس- أننا لن نتحمل قيمة سعر الفائدة عن العشرين مليار جنيه الأولى خلال السنوات القادمة؛ بيد أننا سنتحمل فى الحقيقة سعر الفائدة عن هذا المبلغ -وللمبلغ الذى لم يستخدم بعد- لمدة أربع سنوات قادمة حتى لو كنا قد انتهينا من الحفر فى شهر لا سنة! فسعر الفائدة لا تتحمله هيئة قناة السويس عن مراحل تنفيذ المشروع، وإنما عن مجمل شهادات الاستثمار المكتتب بها! ففى كل الأحوال ستتحمل الهيئة مبلغ سبعة مليارات و680 مليون جنيه سنويا لمدة خمس سنوات قيمة الفوائد وحدها دون أصل الدين، أى مبلغ 38 مليارًا و400 مليون جنيه خلال السنوات الخمس، وهى مدة استحقاق الشهادات، بغض النظر عن تكلفة المرحلة الأولى، وبغض النظر عن مدة التنفيذ!!
حسابات الرئيس إذن التى برر بها اختصار مدة التنفيذ إلى عام واحد بدلا من ثلاثة أو خمسة أعوام هى حسابات خاطئة بكل أسف، ولم يكن من الملائم أن يقع فيها الرئيس لولا إصراره على ارتجال كلماته ظنا منه أنها ستمر مرور الكرام على خاصة الناس كما مرت على عامتهم! ويبقى ما لم يتحدث عنه الرئيس وهو أن اختصار مدة التنفيذ إنما اضطر المسؤولين عن المشروع للاستعانة بشركات عالمية، وبكراكات يبلغ عددها ثمانية أمثال عدد الكراكات التابعة لهيئة قناة السويس، مع ما فرضه هذا -طبقا لقوانين العرض والطلب- من زيادة التكلفة، ومن نزيف للعملة الصعبة أثر سلبا -ولا شك- على احتياطى النقد الأجنبى للبلاد، فضلا عن أن الإنجاز قد صار يُنسَب عالميا إلى الشركات الأجنبية التى نفذته لا الشركات المصرية كما تدندن بعض وسائل الإعلام!... ومع ذلك يبقى العمل الهندسى والإشرافى الذى قامت به القوات المسلحة المصرية حاضرا ومقدرا كما سبق أن كتبت فى مقال سابق أشاد بحضور العضلات الهندسية ونبه إلى غياب العقل الاقتصادى!
ملاحظة أخيرة تتعلق بحديث الرئيس عن أن عدد السفن التى تعبر القناة قد زاد بنحو 45% منذ اليوم التالى لافتتاح المشروع، وأننا نكون بذلك قد استرددنا ما دفعناه فيه!! لن أكذب الرئيس فى ما يتعلق بزيادة أعداد السفن من كذا وأربعين سفينة إلى كذا وستين، فربما كان هذا صحيحا، لا أدرى، لكن فهم هذه الزيادة -إن كانت قد حدثت- إنما يتطلب علما بتحليل السلاسل الزمنية، خصوصا ما يتعلق بالمعاملات الموسمية... فهطول الأمطار فى فصل الشتاء هو زيادة موسمية فى حجم الأمطار التى تهطل على مصر، لكنها لا تؤثر على المتوسط العام لها، وهكذا عدد السفن التى تعبر القناة، فهى قد تزداد فى بعض المواسم وقد تنخفض فى غيرها، لكن يبقى المتوسط العام سنويا هو المعيار، وأى مراقب يتحلى بالعلم كان عليه الانتظار حتى نهاية العام لمعرفة متوسط أعداد السفن العابرة، لا أن يتهور فيعتقد أن هذه الأعداد قد زادت بنسبة 45% لمجرد أن أحد الأيام كان ممطرا بالسفن أكثر من غيره!!