سابعاً: عمر والفتوح ورفع الحصار عن القسطنطينية:
عندما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كان من أول أعماله إيقاف التوسع في المناطق النائية في أطراف الدولة، ومحاولة سحب القوات الإسلامية من مناطق القتال، وأول أعماله في هذا المضمار كان في القوات التي عُني الخليفة سليمان بحشدها وإنفاذها بقيادة أخيه مسلمة لفتح القسطنطينية وظلت تحاصرها مدة سنتين لاقت فيها مصاعب كثيرة دون أن تفلح في تحقيق هدفها،
فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة: كتب بقفل مسلمة بن عبد الملك من القسطنطينية وقد كان سليمان أغزاه إياها برّاً وبحراً. فأشتد عليهم المقام وجاعوا حتى أكلوا الدواب من الجهد والجوع، حتى يتنح الرجل عن دابته فتقطع بالسوق .. ولجّ سليمان في أمرهم، فكان ذلك يغم عمر، فلما ولي، رأى أنه لا يسعه فيها بينه وبين الله عز وجل شيء من أمور المسلمين ثم يؤخر فعله ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب[1][562]، وقد وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، فوجه إليهم خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً وحث الناس على معونتهم، فكان الذي وجه إليه الخيل العتاق فيما قيل خمسمائة رأس[2][563].
ويروي خليفة أنه في سنة 99هـ حمل عمر بن عبد العزيز الطعام والدواب إلى مسلمة بن عبد الملك إلى بلاد الروم وأمر من كان له هناك حميم أنه يبعث إليه وبعث معه بعثاً فأغاث الناس، وأذن لهم بالقفول[3][564]،
وفي الأندلس ولىّ عمر بن عبد العزيز السمح بن مالك الخولاني، وعهد إليه: بإخلاء الأندلس من الإسلام إشفاقاً عليهم، إذ خشى تغلب العدو عليهم .. لانقطاعهم من وراء البحر من المسلمين[4][565].
غير أن السمح لم ير الانسحاب الكامل في الأندلس، وكتب إلى الخليفة يقول: إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فاضرب عن ذلك، وأزال الأندلس عن عمالة أفريقية[5][566].
وفي المشرق، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الرحمن والي خراسان يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم، فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو (قاعدة خراسان). فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر، اللهم إني قد قضيت الذي عليّ فلا تغزُ بالمسلمين، فحسبهم الذي فتح الله عليهم[6][567]
ويقتصر خليفة بن خياط على القول بأن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي: ((لا تغزُ، وتمسكوا بما في أيديكم[7][568]))
وفي جبهة بلاد السند: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه، فأسلم جيشه والملوك، وتسموا بأسماء العرب وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل عمر على ذلك الثغر[8][569].
إن إيقاف عمر بن عبد العزيز التوسع القائم على استخدام المُقاتلة في الأطراف النائية للدولة وعمله على إحلال الحوار السلمي في إخماد الحركات المسلحة للمعارضة، لا يعني أنه أراد إلغاء المؤسسة العسكرية التي تمتد جذورها إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لها الدور الأكبر في حماية الدولة وتوسيعها وتثبيت الأمن والاستقرار فيها،
والواقع أن التنظيمات المتصلة بالمُقاتِلة كانت تمسُّ صميم الحياة المدنية، ولا غنى لأي دولة عن مؤسسة الجيش في حفظ حدودها والمخاطر التي قد تتعرض لها لذلك كان لا بد من إبقاء الجند والمؤسسات المتصلة به، فظلت الأمصار، وهي مراكز إقامة المقاتلة العرب، قائمة دون أن يلغيها، أو يبدلها، أو يدخل تعديلات في تنظيماتها السكانية والإدارية وقضت الأحوال أن يتابع خلال مدة خلافته القصيرة، استمرار الحركات العسكرية المحدودة النطاق في عدد من الجبهات.
ففي أذربيجان أغار الترك على المسلمين: فقتلوا من المسلمين جماعة ونالوا منهم، فَوَجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة خمسون أسيراً[9][570].
وفي سنة 100 هـ أغارت الروم في البحر على ساحل اللاذقية، فهدموا مدينتها وسَبَوْا أهلها، فأمر ببنائها وتحصينها[10][571].
وفي 101 هـ: أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص، الصائفة[11][572].
وأمر بترحيل أهل طرندة[12][573]وهم كارهون، وذلك لإشفاقه عليهم من العدو[13][574].
وأراد أن يهدم المصيصة لتعُّرضها لغارات الروم، ثم أمسك عن ذلك وبنى لأهلها مسجداً جامعاً من ناحية كفرييا واتخذ فيه صهريجاً وكان اسمه عليه مكتوباً[14][575]. وجعلها مركزاً متقدماً لدرء الخطر عن انطاكية من غزوات الروم المتكررة[15][576]،
ورغم أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان قد حد من النشاط العسكري مع الروم وسحب الجيش الذي كان يحاصر القسطنطينية وبعض الحصون المتقدمة في بلد الروم، إلا أنه كان حازماً شديداً في أخذ الحق والدفاع عنه، وهذا ما تشير إليه رواية ابن عبد الحكم، حيث يذكر أنه عندما أرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز رسولاً إلى ملك الروم، وقص عليه قصة رجل أسير في بلد الروم ـ وقد مرت معنا ـ أجبر على ترك الإسلام وإعتناق النصرانية، قائلين له: إن لم تفعل سملت عينك، فاختار دينه على بصره فسملت عيناه، فأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى ملك الروم وقال له: أقسم بالله، لإن لم ترسله إلي لأبعثن إليك من الجنود جنوداً يكون أولهم عندك وآخرهم عندي[16][577]، فاستجاب ملك الروم لطلبه، وبعث بالرجل إليه[17][578].
وكان سياسة عمر بن عبد العزيز المرحلية تقوم على ضبط الثغور وحدود الدولة الإسلامية والإهتمام بفتح العقول، وأحياء القلوب وتطهير النفوس للشعوب الجديدة التي دخلت في الإسلام ولذلك بدأ يرسل سرايا الدعاة والعلماء للبدو القاطنين داخل الدولة الإسلامية وللشعوب التي كانت في أشد حاجة لتعاليم الإسلام.
-------------------------------------
ابن عبد الحكم صـ32 .[1][562]
تاريخ الطبري نقلاً عن عمر بن عبد العزيز للعلي صـ140 .[2][563]
تاريخ خليفة صـ326 ، تاريخ الإسلام للذهبي نقلاً عن العلي صـ140 .[3][564]
تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية صـ12 ـ 13 [4][565]
فجر الأندلس لحسين مؤنس صـ136 ـ 137 ، عمر بن عبد العزيز، صالح العلي صـ140 .[5][566]
تاريخ الطبري نقلا عن عمر بن عبد العزيز للعلي صـ141 .[6][567]
تاريخ خليفة صـ326 ، عمر بن عبد العزيز عمر بن عبد العزيز للعلي صـ141 .[7][568]
فتوح البلدان صـ42 .[8][569]
تاريخ خليفة صـ326 ، عمر بن عبد العزيز للعلي صـ142 .[9][570]
فتوح البلدان صـ20 .[10][571]
تاريخ الطبري نقلا عن عمر بن عبد العزيز للعلي صـ142 .[11][572]
طرندة : من الأماكن القريبة من الدولة الرومانية .[12][573]
فتوح البلدان صـ220 .[13][574]
المصدر نفسه صـ163 .[14][575]
العلاقات العربية البيزنطية صـ119 .[15][576]
المصدر نفيه صـ131 .[16][577]
المصدر نفيه صـ131 .[17][578]