خطواته ومجهوداته في هذا الشأن:
1 ـ كتب إلى الإمام الثبت أمير المدينة وأعلم أهل زمانه بالقضاء، أبي بكر بن حزم، يأمره بذلك، ففي صحيح البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبه، فإن خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم ما لم يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً[1][352]، وروى ابن سعد عن عبد الله بن دينار ـ قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنّة ماضية أو حديث عمرة بن عبد الرحمن، فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله[2][353].
2 ـ كذلك وجه كتاباً بهذا الشأن إلى الإمام الحجة ابن شهاب الزهري، فقد ذكر ابن عبد البر عن ابن شهاب قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز، بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً[3][354]، وروى أبو عبيد أن عمر أمر ابن شهاب أن يكتب له السنّة في مصارف الزكاة الثمانية، فلبى الزهري أمره، وكتب له كتاباً مطولاً يوضح ذلك بالتفصيل[4][355]. ومن هنا قال ابن حجر: وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد[5][356].
3 ـ بل إن عمر وجه أوامره إلى أهل المدينة جميعاً يأمرهم ويحثهم على جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشارك في هذا كل من لديه علم، ولو كان بضعة أحاديث، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله[6][357].
4 ـ ولم يقف عمر عند ذلك، بل عمَّمَ أوامره إلى جميع الأمصار في الدولة الإسلامية، ليقوم كل عالم بجمع وتدوين ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سمعه من أصحابه الكرام[7][358]، وروى: انظروا حديث رسول الله صلى اله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه، فإني أخاف دروس العلم وذهاب العلماء[8][359].
وقد اهتم عمر رضي الله عنه باللغة العربية: فشجع أهل البلاد المفتوحة على تعلمّها وإتقانها، وكان يغدق عليهم ـ لذلك ـ العطايا، كما أنه يعاقب من يلحن بالعربية وينقص من عطائه، لما يعلم من أهمية العربية في فهم كتاب الله والسنة النبوية الشريفة[9][360].
* ـ منهج عمر بن عبد العزيز وطريقته في التدوين:
اتبع عمر في جمع الحديث النبوي وتدوينه منهجاً سديداً قويماً وسلك فيه شروطاً صارمة ووضع له أبعاداً هادفة مفيدة.
ويتجلى ذلك في أربع أمور:
1 ـ حسن اختياره للقائمين بهذا الأمر:
فأبو بكر بن حزم هو أحد أوعية العلم ومن أعلام عصره
قال فيه الإمام مالك: ما رأيت مثل ابن حزم أعظم مروءة ولا أتمَّ حالاً، ولا رأيت من أوتي مثل ما أوتي: ولاية المدينة، والقضاء، والموسم. وقال: كان رجل صدق، كثير الحديث.
وقال ابن سعد: كان ثقة عالماً كبير الحديث توفي 120هـ[10][361].
وأما الزهري، فهو العالم العَلَم، حافظ زمانه، وشهرته ملأت الآفاق،
قال فيه الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب، محدث في الترغيب والترهيب، فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدَّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا. وإن حدّث عن القرآن والسنة، كان حديثه
وقال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابن شهاب، فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه[11][362].
2 ـ أنه طلب ممّن يدوّن له السنة جمع الأحاديث مطلقاً وتدوينها، وتتبع أناس مخصوصين لما امتازوا بتدوين أحاديث معينة لأهميتها:
فقد أمر ابن حزم بتدوين حديث عًمْرَة بنت عبد الرحمن لأنها من أثبت الناس بأم المؤمنين عائشة والسيدة عائشة هي أعلم الناس بأحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشؤونه الخاصة داخل بيته ومع أهله[12][363]،
وعمرة هذه هي: عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصارية النّجارية المدينة الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها، وجدّها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة،
ذكرها ابن المديني فضخَّم أمرها وقال: عمرة إحدى الثقات العلماء بعائشة، الإثبات فيها[13][364].
وقال الزهري: أتيتها فوجدتها بحراً لا يُنْزَف[14][365].
توفيت عام 98هـ وقيل 106هـ[15][366].
وذكرت إحدى الروايات أنه أمر ابن حزم بجمع التدوين حديث عمر بن الخطاب. وذلك لما يقصده ابن عبد العزيز من تتبع سيرة الفاروق وأقضيته وسياسته في الصدقات، وكتبه إلى عماله فيها وقد طلب ذلك أيضاً من سالم بن عبد الله بن عمر.
وكل ذلك واضح من النهج الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في الإقتداء بجده رضي الله عنهما[16][367].
كذلك كتب إلى آل عمرو بن حزم أن ينسخوا له كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الصدقات، كي يسير عليه في خلافته وفي تسيير أمور رعيته[17][368].
3 ـ أنه ألزم من يدوّن السنة النبوية أن يميز الصحيح من السقيم، ويتحرى الثابت من الحديث، وذلك واضح في رواية الدارمي حيث يقول عمر لابن حزم: اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحديث عمر.
وعند الإمام أحمد في العلل: أكتب إلي من الحديث بما ثبت عندك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث عَمْرَة[18][369].
وهذه نقطة عظيمة الأهمية في تأسيس منهج التدوين على أسس راسخة، ثابتة صحيحة، قويمة مستقيمة[19][370].
4 ـ تثبته من صحة الحديث والتحديث:
فعمر من كبار العلماء، وليس بأقل شأناً في العلم ممن أمرهم بالتدوين، لذلك قام بمشاركة العلماء في مناقشة بعض ما جمعوه، زيادة في التثبيت[20][371]،
من ذلك ما رواه أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء، فجمعوا له أشياء من السنن، فإذا جاء الشيء الذي ليس العمل عليه قال: هذه زيادة ليس العمل عليها[21][372].
----------------------------------------
فتح الباري (1/194 ـ 195) .[1][352]
الطبقات ، أصول الدين صـ177 ـ 179 .[2][353]
جامع بيان العلم (1/91 ـ 92) .[3][354]
الأموال صـ231 ـ 232 .[4][355]
فتح الباري (1/208) ، أصول الحديث صـ178 ، 180 .[5][356]
سنن الدارمي (1/137) .[6][357]
عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ79 .[7][358]
فتح الباري (1/195) ، أصول الحديث صـ178 .[8][359]
عمر بن عبد العزيز للشرقاوي صـ178 .[9][360]
سير أعلام النبلاء (5/313 ـ 314) .[10][361]
سير أعلام النبلاء (5/328) ، عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ80 .[11][362]
عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ81 .[12][363]
المصدر نفسه صـ81 تهذيب التهذيب (12/466) .[13][364]
سير أعلام النبلاء (4/508) نساء لها تاريخ صـ155 .[14][365]
المصدر نفسه (4/508) .[15][366]
عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ81 .[16][367]
المصدر نفسه صـ81 .[17][368]
نقلاً عن مقدمة المسند صـ20 ، 23 .[18][369]
عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ82 .[19][370]
المصدر نفسه صـ82 .[20][371]
أصول الحديث صـ82 .[21][372]