كانت القوات المصرية الموجودة ببورسعيد عند صدور الإنذار الأنجلو ـ فرنسي يوم 30 أكتوبر، عبارة عن سرية مشاة من الكتيبة الرابعة المشاة، وكتيبتين من جيش التحرير الوطني، وبطاريتي مدفعية ساحلية، وبطارية ثقيلة مضادة للطائرات، وتروب خفيف مضاد للطائرات، بإجمالي لا يزيد عن ألف فرد من مختلف الأسلحة والإدارات.
مهام ضخمة وقوات ضئيلة
وتجدر الملاحظة أنه عندما بدأ القتال في بورسعيد، كانت القوات المدافعة، لا تتناسب إطلاقاً مع ضخامة المهام المطلوب إنجازها. وفضلاً عن ضآلة حجمها، فقد كانت غير مدربة على القتال في المدن. كما كانت تفتقر إلى الأسلحة والمعدات الميدانية والأدوات الهندسية لإقامة الموانع على الساحل المعرض للغزو، وما يلزمها من تحصينات وحقول ألغام بحرية وبرية. كما أنها جاءت من أماكن بعيدة وتعرضت لضرب جوي شديد، ووصلت بورسعيد قبل أن يبدأ القتال بمده وجيزة، لم يتح لها التعرف على المدينة أو إحكام خطط الدفاع عنها، الأمر الذي جعل بعض القوات البريطانية التي رحلت عن المدينة منذ أشهر قليلة، أكثر معرفة بها من القوات المصرية التي تدافع عنها.
ويثير هذا الاستعداد الضعيف الذي تم في اللحظات الأخيرة الدهشة من موقف القيادة الشرقية والقيادة العامة، اللتين لم تزودا منطقة بورسعيد بقوة، تستطيع إبداء مقاومة حقيقية في مواجهة قوات الغزو، تتمتع بالتفوق الجوي والبحري والعددي والنوعي، فتكتفيان بدفع تلك القوات القليلة للدفاع عن ساحل الغزو، وفي آخر لحظة قبل نزول القوات الأنجلو ـ الفرنسية فيه.
أول اقتحام رأسي في التاريخ العسكري
انقضت اقوات المظلات الفرنسية ، صباح يوم 5 نوفمبر على خزانات المياه الرئيسية جنوب مدينة بورسعيد، وكباري الرسوة لتحتلها،
وفي الساعة الثامنة والثلث وصلت الموجات الأولى من طائرات النقل التي أقلعت بنحو 600 جندي مظلي بريطاني من نقوسيا إلى مطار الجميل، بينما كانت الطائرات الفرنسية التي أقلعت من تايمبو تلقي بالخمسمائة مظلي جنوب كباري الرسوة.
القتال في منطقة مطار الجميل
كانت القوات المصرية المكلفة بالدفاع عن مطار الجميل وقت إنزال المظليون البريطانيون عليه صباح 5 نوفمبر، سرية من جنود الاحتياط، أعيد تشكيلها يوم أول نوفمبر من سريتين تعرضتا لقصف جوي فتك بهما، وهما يتقدمان داخل عنق الزجاجة إلى بورسعيد. كما كانت هناك كتيبة من الحرس الوطني، وأربع دشم خرسانية في أركان المطار، تضم كل واحدة منها مدفع رشاش.
وكان المدافعون قد نشروا على أرض المطار عدداً كبيراً من البراميل الفارغة لمنع طائرات العدو من الهبوط فيه، إلا أن تلك البراميل نفسها وفرت سواتر جيدة للمظليين البريطانيين.
وراح البريجادير "بتلر"، والمقدم "بول كروك" قائد كتيبة المظليين، يستحثان الجنود الذين هبطوا معهما على سرعة السيطرة على المطار، وعندما حلت الساعة التاسعة صباحاً، كان البريطانيون قد استولوا على مطار الجميل، كما احتل الفرنسيين كباري الرسوة، ومستودعات المياه المجاورة، وقطعوا المياه عن المدينة.
وكتب الجنرال "كيتلي" في يومية الحرب يصف المقاومة المصرية، صباح ذلك اليوم بالشدة، وخاصة مدافع الاقتحام الأربعة ذاتية الحركة طرازS.U.100، والتي سببت لجنوده كثيراً من المشاكل، كما ذكر أنها أتقنت الانتقال من مربض نيران إلى آخر، بما دفع بعض ضباطه إلى الظن بأن القوة المدافعة تملك 30 أو 40 مدفعاً، وليس مجرد أربعة.
القتال يوم الإثنين 5 نوفمبر 1956 في بورفؤاد
قفزت كتيبة من المظليين الفرنسيين بقيادة الكولونيل "فوسي فرانسوا" في منطقة الجلاء، جنوب بورفؤاد ـ والمقابلة لمنطقة الرسوة ـ وذلك في الساعة الثالثة والربع من بعد الظهر، حيث قابلتها مقاومة عنيفة للغاية، قبل أن ينجح الفرنسيون في الاستيلاء على المدينة خلال ساعات الليل، وفي ذلك الوقت كانت الطائرات البريطانية تحمل 100 آخرين من المظليين، لتعزيز مطار الجميل، وتزويده بالذخائر والمطالب الإدارية الأخرى.
وكانت القوات المدافعة عن بورفؤاد قد خُفّضت إلى حد كبير، بعد سحب جزء منها، للقيام بالهجوم المضاد في منطقة الرسوة. وقد ظلّت قوات بورفؤاد تتشبث بمواقعها بعناد حتى استشهد قائد الكتيبة 275 الاحتياط المقدم "حسين توفيق إسماعيل"ومعظم أفرادها، بعد أن أبلوا بلاءً حسناً.
وصول قوات الغزو البحري الأنجلوـ فرنسية فجر ألثلاثاء 6 نوفمبر إلى شاطئ بورسعيد وبداية ألغزو البرمائي
في الساعة الرابعة والربع فجر يوم 6 نوفمبر، انتظمت مائتان وسبعون سفينة من مختلف الأنواع في تشكيل المعركة على مسافة 3500 متر من شاطئ بورسعيد.
وبعد أن اتخذت أوضاع الاشتباك تقدمت سفن الإبرار التي كانت تقف خلفها، ثم انقسمت إلى مجموعتين،
- اتجهت أولهما نحو شرق شاطئ بورسعيد، تحمل اللواء 3 فدائيين بحريين من ثلاث كتائب،
- بينما اتجهت الثانية نحو غرب الشاطئ، تحمل اللواء 19 فدائيين بحريين من كتيبتين، وراحت كل مجموعة منهما تُفّرِغ حاملات الجنود البرمائية وعائمات الدبابات من جوفها وفوق سطحها.
- وفي الساعة الخامسة والربع فجراً، اكتسحت الطائرات الأنجلو ـ فرنسية شاطئ بورسعيد على امتداد 4500 متر، وأمطرته بالقنابل والصواريخ ومدافع الماكينة لمدة 10 دقائق، فأشعلت النيران في أكشاك الاستحمام والمنشآت القريبة.
- ولم تكد الطائرات ترحل في الساعة الخامسة وخمس وعشرين دقيقة، حتى فتحت 12 مدمرة و15 فرقاطة نيرانها على المدينة، فدمرت معظم المباني المطلة على البحر، كما امتدت آثارها للداخل، فاشتعلت الحرائق وقتلت كثيرين تحت أنقاض منازلهم.
- استمرت قذائف الأسطول تنهمر على المدينة لمدة 45 دقيقة، وعندما توقفت في الساعة السادسة وعشر دقائق، كانت سحب الدخان تنعقد فوق مدينة بورسعيد تتخللها ألسنة اللهب الصاعدة للسماء.
- وأثناء هذا القصف البحري العنيف، كانت الموجات الأولى للإبرار البحري المشكلة من الكتيبتين 40و42 الفدائيين البحريين، وآورطة دبابات سنتوريان من 16 دبابة تقترب من الشاطئ. وقبل وصولها إليه بخمس دقائق، توقفت نيران الأسطول فجأة، واستأنفت الطائرات القصف الجوي بالصواريخ لمدة 3 دقائق.
- في الساعة السادسة والربع صباحاً، وصلت المركبات البرمائية وحاملات الدبابات إلى شاطئ بورسعيد، حيث انتشرت يميناً ويساراً لتقتحم الدفاعات المرابطة فيه، والتي لم تكن تملك سوى مدفعين ضد الدبابات عيار 75مم، علاوة على مدفعي هاون 81 مم لتقابل بهم الغزو البحري.
- وفتح المدفعان نيرانهما المصوبة، فأصابا دبابتين، قبل أن تدمرهما نيران الدبابات التالية، ثم زحف الفدائيون حتى وصلوا إلى سلسلة المباني الخرسانية على امتداد الشارع الموازي للبحر، وهم يطلقون قذائف البازوكا ومدافع الدبابات والقنابل اليدوية في كل اتجاه، ويغمرون المنطقة بالرشاشات ونيران المدافع 106مم.
- ولم يصادف عملية الغزو البحري في بورفؤاد مقاومة تذكر، إذ كانت المقاومة قد توقفت في البلدة في الليلة الماضية، وأصبحت خالية من المدافعين.
- في الساعة السابعة صباحاً، بعد تأمين رأس الشاطئ في بورسعيد، أصبحت الإمدادات تتدفق بحراً وجواً على قوات الغزو
- ثم صدرت الأوامر في الساعة السابعة بأن تستعد الكتيبة 45 فدائيين بحريين، لاقتحام الشاطئ بالحوامات من فوق حاملتي الطائرات.
وحلق قائد تلك الكتيبة بحوامته فوق منطقة الاقتحام الرأسي، إلا أن سحب الدخان الكثيفة جعلته يخطئ في مكان النزول، فيتجاوزه غرباً حيث حاول الهبوط في ملعب البلدية، الذي تدافع عنه سرية مشاة، قابلته بنيران أسلحتها الصغيرة، فلاذت الحوامات بالفرار، بعد أن أصيب بعضها برصاصات المدافعين. - في الساعة التاسعة والنصف صباحاً، هبطت 22 حوامة من طراز هوير لويند وسيكا مور فوق المنطقة المحددة لها شرق بورسعيد، وخلال 90 دقيقة تم إنزال 415 جندياً و23 طناً من المعدات الحربية.
- في الساعة العاشرة صباحاً، كان الجنرال "ستوكويل"، والجنرال "بوفر"، ومارشال الجو "بارنت"، يستقلون لنشاً، لمقابلة الكونت "فينشتي ماريري"، قنصل إيطاليا ببورسعيد، الذي أقترح عليهم الحضور إلى القنصلية، للبحث عن مخرج، يجنب المدينة المزيد من الخراب، وصادف اقتراحه هوى في نفوسهم، خاصة عندما أخبرهم أن محافظ المدينة والقائد العسكري العميد "صلاح الدين صادق الموجي"موجودان معه.
وباقتراب اللنش من مبنى هيئة قناة السويس، جنوب الميناء، انهالت عليه طلقات المدافعين التي أصابت اللنش، بينما لم يتعرض ركابه لأية إصابات. واستدار اللنش بعيداً عن المنطقة، وعندما وصل إلى ميناء الصيد عند الطرف الشمالي للقناة، وجدها آمنة فأنزل "ستوكويل" وصاحباه، واتجهوا مباشرة إلى مبنى القنصلية الإيطالية تسبقهم دبابة لتأمين الطريق. - جلس "ستوكويل" يكتب شروط الاستسلام، التي عرضها على المحافظ والقائد العسكري، وقد اهتم بأن يضمنها شرطاً بضرورة إذاعة مراسم الاستسلام بمختلف وسائل الإعلام، ولكن المحافظ و"الموجي" رفضا التوقيع، فانفض الاجتماع.
- الساعة الحادية عشرة صباحاً، تحركت الكتيبة لاحتلال شرق المدينة، بينما كانت بعض السفن الحربية تقتحم مدخل البوغاز، وتحاول الوصول إلى أرصفة الميناء، وهي تحمل جنود الآلاي السادس المدرع، عدا الأورطة التي اشتركت في اقتحام الشاطئ فجراً.
وجاء في الموجات التالية باقي اللواء الثالث المظلات، وهو على أهبة الاستعداد لاستغلال النجاح والاندفاع جنوباً، خلال عنق الزجاجة، للوصول إلى مخرجها على مسافة 40 كيلومتراً جنوب بورسعيد. - في الساعة الثانية عشرة ظهراً، أصبح إجمالي القوات الأنجلو ـ فرنسية، التي تم إبرارها، جواً وبحراً على شاطئ الغزو، هي: "لواء من المظليين، ولواء من الفدائيين البحريين، و2 ألاي فرنسي مكون من 6 كتائب، و3 كتائب فدائيين بحريين فرنسيين، وألاي وأورطة دبابات خفيفة". مقابل ثلاث كتائب مصرية قد فقدت أسلحتها الثقيلة، وحرمت من المعاونة الجوية، وتعرضّت للضرب الجوي العنيف، وسقط العديد من جنودها ما بين جريح وشهيد.
|