لماذا تمثال ديليسبس ؟؟
أصبح تمثال "ديليسبس" شعارا للمدينة حتى وصل الأمر أحيانا الى تسمية الأجانب للمدينة بأسم بورديليسبس" أى ميناء ديليسبس"، وليس بورسعيد، وكم تمنينا فى طفولتنا أن يكون لمصر تمثال مشابه حتى ولو كان تمثال الملك الفرعوني رمسيس، مشابهة للقاهرة، تعبيرا عن وطنيتنا وانتمائنا الى مصريتنا، ولكن النفوذ الأحنبى وتسلط البريطانيين وشركة قناة السويس الفرنسية والجاليات الأجنبية فى بورسعيد والأسماعيلية والسويس أبوا أن تكون المدن على امتداد مجرى الملاحة مدنا مصرية أصيلة بالأخص مدينة بورسعيد التى يرجع سبب وأساس نشأتها الى حفر قناة السويس لا يمكن الفصل بينها وبين قناة السويس وتمثال ديليسبس يكفى نظرة الى الصور
المرفقة والتى يمكن بواسطتها المقارنة بين ضخامة التمثال والحجم البشرى حتى نستنتج الشعور الذى كان يحس به البورسعيديون, لا بد أن يواجهوه خلال دقائق السير الطويلة كل مرة يذهبون فيها للتمشية على الكورنيش الموازى للميناء والمؤدى الى تمثاله الضخم المرتفع لكى يشاهد فى النهاية فرديناند ديليسبس واقفا بتعال وتعاظم كبيرين وهو يمسك فى يده وثيقة فرمان حفر القناة, بينما ترحب يده اليمنى للسفن القادمة بالدخول الى القناة، وكان التوجه الى هذا الرصيف الطويل وفى نهايته التمثال الضخم، مشابهة للتوجه للعبادة الكافرة والتعبير عن الشكر اليه، وهو أمر كان قد ناقشه
البورسعيديون قبل العدوان أكثر من مرة ولم يكن يدرون كيفية التخلص منه,
ثم لعب ثمثال ديليسبس دورا مهما فى تحديد نقطة الأبرار الجوى لطائرات الهليوكوبتر البريطانية للهجوم والغزو الجوى لاقتحام بورسعيد، اذ كن لطائرات الهليوكوبتر، العلامة الطبوغرافية التى إعتمدوا عليه فى تحديد مناطق الأبرار الرأسى الجوى المحمول ، كما كانت الأرض الفضاء فى ناحيته الغربية، مكانا ومعسكرا هاما لتخزين المعدات فور انزالهم من السفن الحربية، ووقفت أمام رصيفه خلال أيام تواجد البريطانيين والفرنسيين ، كافة السفن الحربية والبوارج والمدمران، علاوة على أن رصيف التمثال اصبح طريق النزول الى المدينة وكان الرصيف، آخر نقطة غادرها البريطانيون من بورسعيد للأبد
وكان هبوط الطائرات الهليوكويتر ومروحيات مهاجمة كتيبة الفدائيين البحريين البريطانيين"كوماندو رويال مارين" لبورسعيد وهبوطهم بجانب تمثال ديليسبس قبل حوالي سبعة أسابيع وحيث تم نزل إنزال الدبابات من سفن حمل الدبابات والمعدات ورسو الطرّادات والفرقاطات والمدمرات وسفن حمل الجنود على جانب الرصيف المشهور وهبوط عشرات الآلاف من الجنود وأسلحتهم الإضافية القاتلة لمهاجمة واحتلال المدينة وتقدمها من هناك جنوبا لمهاجمة بقيّة مصر. أصبح التمثال رمزا للعدوان وللاحتلال وممثلا للحرب على المدينة معاناتها.
محمد البيلى يقترح نسف تمثال ديليسبس
لم تكن هناك أوامر من القاهرة لنسف التمثال ، بل على العكس كما ستبين سطورى فيما بعد، ولكن محمد البيلى مراسل جريدة الشعب (غير جريدة الشعب الخاصة بحزب العمل) ومستشار وكالة أنباء الشرق الأوسط حاليا كان قد ناقش مع سمير غانم القيام بعملية ذات صدى كبير فور مغادرة القوات الأنجلوفرنسية وجلاء قواتهم عن المدينة للتعبير عما يدور فى أنفسنا من الرغبة فى انقلاب السكان على السيطرة والنفوذ الأحنبى، تنفيثا لشعورهم المكبوت ضد النفوذ والضغط الأحنبى وتأييدا للسلطات المصرية الوطنية تنبه
اليها كافة الأجهزة الإعلامية والصحافية فى العالم بسبب أهميتها الدعائية. اقترح محمد البيلى على اليوزباشى سمير محمد غانم، نسف تمثال ديليسبس كتعبير عن التحرر الأبدى من السيطرة الأجنبية وخاصة أن التمثال كان يمثل الغدر وعذاب الشعب فى القناة ، وبعد مناقشة طويلة لفوائد ومضار هذه الفكرة لجأ سمير الى الصبر المؤقت ولم يود سمير أن يعطى أى رأى دون الرجوع الى تعليمات مكتب الرئاسة، نظرا لأن عملياتنا اليومية كانت تحظى بالأهمية الأولى، وأن الأهم لنا كان تحميل العدو الخسائر الجسيمة، قبل أن ننسف تمثالا ورغم ذلك، فقد اختمرت الفكرة فى رأس سمير غانم، ويؤكد سمير
غانم بتعليقه بخط يده الذى وقعه يوم 9 مارس 1997 بأن محمد البيلى مراسل جريدة الشعب كان قد اقترح عليه وناقش معه فكرة ضرورة نسف تمثال ديليسبس كتعبير عن التحرر الأبدى من السيطرة الأجنبية
طلب التصريح من السلطات والرئاسة فى القاهرة
بعد انسحاب البريطانيين الى الشريط الضيق على طول الشارع المواجه للميناء استعدادا لإخلاء المدينة، توجه سمير الى منزلنا فى الساعة الحادية عشرة صباح يوم الأربعاء 19ديسمبر، وسلم الى الملازم فرج محمد فرج رسالة لأرسالها باللاسلكى الى رؤسائه فى ادارة المخابرات العامة اقترح فيها عليهم الموافقة على نسف التمثال المذكور, كما طلب فيها السماح له باصدار الأوامر لتشكيلاتنا بالقيام بالنسف بأسرع ما يمكن فى اليوم التالى لمغادرة القوات المحتلة النهائية عن المدينة "الأحد 23 ديسمبر 1956" ,
حيث أن أنظار العالم كلها سوف تتوجه الى بورسعيد انتظارا لرد الفعل المصرى على جلاء القوات المعادية وبناء على طلب اليوزباشى سمير، قام الملازم فرج محمد فرج باعداد الرسالة وتحويلها الى الشفرة المعينة ليوم السبت 22 ديسمبر ثم جلس أمام الجهاز وفتحه للاتصال بالقاهرة فى ، وكان جهاز اللاسلكى قد اصبح مفتوحا وعلى اتصال 24 ساعة مع المخابرات فى القاهرة وفى الاسماعيلية وأرسل فرج طلب سمير لاسلكيا بإشارات المورس الى القاهرة , بينما أخفى سمير نيته عن الصاغ أ ح سعد عبدالله عفرة، الذى كان يتولى قيادتنا منذ مغادرة البكباشى عبدالفتاح ابوالفضل كما لم يكن أحد غيره يعلم بهذا الطلب وهذه الرسالة سواه وسوى فرج. وانتظر سمير غانم أن
يتم الرد على الرسالة فى المساء عند بداية نشرة الأخبار المسائية عند بدء نشرة الأخبار المسائية
فتح الملازم فرج محمد فرج أبواب دولاب ملابس والدتى حيث كان جهاز اللاسلكى مازال مخبأ هناك، وجلس على الأرض أمام الجهاز كعادته التى كان يفضلها وبسبب مكان الجهاز المنخفض على القاعدة الأدنى فى الدولاب ، وبدأ فرج الاتصال مع القيادة حسب النظام المتبع عليه، ومضت مدة طويل تم فيها انهاء مهام الاستقبال والارسال للرسائل المورس الشفرية قبل أن يغلق فرج جهاز الاتصال، ثم انتقل فرج الى المكتب كعادته حيث أخذ فى هدوء وتركيز واضح فى التفريق بين نوعيات الرسائل الشفرية الواردة وتنسيقها تبعا لمستقبليها وبدأ فى ترجمة الرسائل تبعا للشفرة المخصصة لهذا اليوم ولهذا الاتصال ويحول محتوياتها الى نص مفهوم يقرأ بينما أعدت والدتى للحاضرين
فى الغرفة أكواب الشاى, وبدأت تعد وتجهز وجبة العشاء لنا. نسق فرج الرسائل الواردة وأعدها لتسليمها تبعا لأوامر القاهرة، ونظرا لكمية الرسائل الكبيرة التى وصلت هذا مساء فقد استغرق فرج بعض الوقت، وكانت هناك رسالتان معينتان لكل من الملازم أول فرج محمد فرج علاوة على البرقيات العديدة الموجهة الى جبل "الصاغ سعد عفرة " وياسر "يحيى الشاعر" نيابة عن اليوزباشى كمال الصياد" فى قيادة المقاومة السرية بالاضافة الى بعض الرسائل لليوزباشى سمير غانم
أولا: التعليمات الشفرية العديدة الموجهة الى الصاغ أ ح سعد عفرة الذى كان ما يزال متواجدا معى ومع شقيقى محمد هادى الشاعر فى الغرفة يجهز الأوامر المحددة لمواجهة الغد بعد جلاء البريطانيين ويعد تقريرا معينا عن وضع المدينة بعد مغادرة القوات
الأنجلوفرنسية وللاجابة الفورية على الرسائل الشفرية التى كانت توجه اليه بشكل متزايد
ثانيا: الأوامر الشفرية لفرج بإنهاء مهمته فى بورسعيد وتفكيك الجهاة وإعداده للنقل مساء يوم 26 ديسمبر 1956والرجوع الى القاهرة يوم 27 ديسمبر 1956 وبينت البرقية أن سيارة ستأتى من الادارة لنقله وبعض الأفراد لآخرين الى الاسماعيلية ومن هناك الي القاهرة
ثالثا: أوامر شفرية موجهة لسمير غانم تتعلق بالتصرف مع أفراد تشكيلاتنا وتعليمات علاة على بعض التعليمات للاتصال بملازم البوليس سامى خضير فى المحافظة واليوزباشي جلال الهريدى قائد مجموعة الصاعقة
اعتقد اليوزباشى سمير غانم بأن القاهرة سوف توافق على طلبه بالموافقة على
نسف التمثال، مشابهة للموافقة سابقا على اقتراحه للادارة فى القاهرة بخطف الضباط والجنود البريطانيين للتحفظ عليهم كرهائن لأسرانا من القوات المسلحة، ولذلك فلم يوال تتبع رد القاهرة على طلبه أى اهتمام واستمر فى الاستعداد فكريا لما يجب حدوثه وما يجب اتمام عمله فى اليوم التالى لمغادرة البريطانيين لبورسعيد، اذ أن القاهرة كانت مشغولة بما يعتبر أهم من طلب نسف تمثال برونزي فقط كان أكثر من تمثال رمزي كان يعبر عن جزء من تاريخ مصر وآلامها تحت النفوذ الأجنبى واعتبرت القاهرة الطلب غريبا فى حد ذاته وان الوقت لم يكن مناسبا لأننا ما زلنا مشغولين في الهجمات الليلية
ضدّ البريطانيين، الذين ما زالوا يحتلون جزء بورسعيد.
المفاجـأة
أصر فرج فى هذا الصباح على النزول بنفسه الى سوق الحميدى وأحضارالفلافل
والفول الطازجين من محل أبوسمرة فى شارع الحميدى وكانت يبدو علي ملامح
وجه أثار الحزن ، حيث كنا نعلم جميعا أن وقت الفراق قد حان وأن فرج سيرجع
الى القاهرة فى الأيام التالية بعد إقامته فى منزلنا ليس ضيفا فقط ولكن كأخ أكبر
لى وانسان عزيز علينا وصديق حميم لشقيقى محمد هادى, وانتظرت مع والدتى
رحمها الله حضور أشقائى لمشاركتنا فى الفطور .فقد كان شقيقى محمد هادى قد
التقى فى الصباح المبكر مع الصاغ أ ح سعد عبدالله عفرة وغادرا المسكن معا ، أما شقيقى عبد المنعم فقد كان مازال يتواجد خارج المنزل، وسمعت صوت جرس الباب فأسرعت لأفتحه متوقعا أشقائى الاثنين وكانت أيام الكفاح قد جمعت بينهما بشكل يدعو الى السعادة
سمير غانم والحقيبة السوداء وتمثال ديليسبس
كانت الساعة قد بلغت الثامنة والربع صباحا من صباح هذا اليوم الأحد 23 ديسمبر 1956 وكانت والدتى رحمها الله والملازم فرج محمد فرج يجهزان مائدة الفطور, ولما فتحت الباب فوجئت باليوزباشى سمير غانم أمامى دون موعد محدد فى اليوم السابق كعادته وكان يحمل فى يده حقيبة مكتب سوداء صغيرة ، وكان وجه سمير غانم يمتلئ بالسعادة ، وما كاد سمير يرانى حتى قام على غير عادة سمير المتحفظة بمعانقتى فور مشاهدتى ، فطلبت منه الدخول وأعلنت حضوره لوالدتى ولفرج، الذى استعجب أيضا لظهور سمير فى هذا الوقت المبكر من الصباح، وخاصة أنه لم يعد هناك داع للقلق بعدما غادر آخر جندى مدينتنا تحت ظلام مساء الأمس، فعلق فرج بمرح، قائلا "... خير إن شاء الله، هما غيروا رأيهم ورجعوا تانى ...؟؟؟"
فضحك الضابطان بمرح وطلبت والدتى رحمها الله من سمير مشاركتنا فى الفطور الطازج الذى له قيمة معينة، فقد خرج فرج من مخبئه واشتراه ووضع سمير يده فوق كتفى محثا على التحرك، فاعتذرت للموجودين وغادرت مسكننا فى صحبة سمير بسيارتة التى كانت قد أحضرت من مكتب الاسماعيلية بعد دخول قوات البوليس للمدينة فى الأيام السابقة
وما كدت أدخل السيارة وأغلق بابها حتى سلمنى حقيبة مكتب سوداء ثقيلة كان يحملها فى يده قائلا "..على بركة الله يايحيى ...الى تمثال ديليسبس وانسفه..." وبدأ يحرك السيارة فى اتجاه شرق بورسعيد ناحية رصيف ديليسبس حيث أخبرنى سمير بأنه شاكر جدا لشجاعتى ونشاطاتى ووطنيتى خلال الأسابيع الماضية، وأنه يفتخر بى وبالشباب أمثالى، كما أخبرنى سمير بأنه قد اختارنى لكى أقوم بهذه العملية التاريخية اعترافا منه لى ولعائلتى, ووالى سمير حديثه مشجعا, انتفخ صدرى انبهارا وافتخارا به وسارت السيارة بينما كانت الأحداث على رصيف ديليسبس تتوالى بشكل سريع
العلمان البريطانى الفرنسى وبيريه مظلات فرنسى فوق الرأس
كاد الشعب يفتح عيونه فى الصباح المبكر ويتوجه الى منطقة رصيف ديليسبس
ليتأكد من مغادرة آخر السفن وعدم تواجدها على خط الأفق، حتى صدمته رؤية ما تركه خلفهم جنديان فرنسى وبريطانى فوق التمثال مما زاد من غضبهم الفورى، فقد قام آخر الجنود البريطانيين والفرنسيين الذين كانوا يحرسون مقر الجنرال ستوكويل فى مبنى فندق وكازينو بالاس فى مساء اليوم السابق، وسمحا لنفسهما بربط علمين بريطانى وفرنسى متوسطي الحجم على يد تمثال ديليسبس اليمنى, وعلاوة على ذلك فقد وضعا على رأس التمثال غطاء رأس بيريه من وحدة مظلات فرنسية ولزيادة الأمر سوءا ، قاما بدهن التمثال بطبقة شحم كثيفة، كما وضعا الشحم على ذراعه الممتدة والمثبت فيها العلمان البريطانى والفرنسى المذكوران لمنع الأفراد من التسلق وانتزاعهما دلالة على استمرار سيطرتهم المعنوية على المدينة
ولما شاهدت مجموعات الشعب هذا المنظر المستفز، حاول العديد من الأفراد التسلق على التمثال وقاعدته، الا أن طبقة الشحم التى دهن بها التمثال ومنصة قاعدته منعا من التسلق، ولم يتمكنوا منه، فلم يتوان المواطنون وطلبوا مساعدة المطافئ بإمدادهم بإحدى السلالم الطويلة من معداتهم حتى يتسلقوا الى قاعدة التمثال ويتمكنوا من نزع العلمين الأجنبيين، وفى الحال، تجاوب رجال المطافىء فأسرعوا ومعهم السلم الطويل على عجلتين وتقدما على الرصيف وضعاه على الجهة الجنوبية حيث أمدوه ولما استكملت درجاته انتشارها، تسلق أحد المواطنين وانتزع العلمين وألقا بهما للجماهير
الشعب المتجمعة حول القاعدة الضخمة وفى الأرض الفضاء بجانب قاعدة التمثال، وماكاد العلمان يصلان للأرض حتى داس المتجمعون عليهما فى غضب بأقدامهما وبصقوا عليهما وبدأوا فى تمزيقهما الى قطع صغيرة وأخيرا اشعلوا فيهما النار تعبيرا عن الغضب وبدأت السماء تمتلىء بالهتاف " الله أكبر، تحيا مصر، يعيش جمال عبدالناصر"
الى رصيف ديليسبس بالسيارة
دون تعليق نظرت الى اليوزباشى سمير، ثم شكرته على ثقته فى شخصى وقلت له
بأننى سأفعل ما يمكننى لتحقيق هذا الطلب، ثم أخبرته بأننى أود أن يصاحبنى شقيقى عبد المنعم لكى نتشارك فى هذه العملية, حيث أننى كنت أود أن يدخل اسمه أيضا فى سجلات التاريخ وطلبت من سمير التوجه الى منزل تواجد شقيقى عبد المنعم لأخذه معنا، ولما شاهدت النظرات الاستفسارية على وجه سمير، أكدت له بأن هذه رغبتى فى أن يشاركنى شقيقى عبد المنعم، ففكر سمير للحظات قصيرة ثم أجابنى موافقا بقوله "... زى ماإنت عايز يا يحيى ، دى عمليتك وأنت حر تتصرف فيها زى ما تشوف... "، ثم أضاف سمير "منبها لى بأن شقيقى محمد هادى لن يمكنه الاشتراك فى هذه العملية وقال " ... بس أنا مش عايزك تاخذ هادى دلوقت لأنه بيعمل لنا حاجة مهمة فى الأفرنج.." وكان محمد هادى فى صحبة الصاغ أ ح سعد عبدالله عفرة حيث ينفذان إحدى العمليات فى منطقة الأفرنج، وسألنى سمير عن عنوان المنزل حيث يتواجد شقيقى
عبدالمنعم ، فشرحته له ولم يتباطأ سمير وقاد سيارته بسرعة متوجها الى شارع أبوالحسن وعبادى لكى اصطحب شقيقى معى لمشاركتى فى هذه العملية
الشعب يحاول تحطيم التمثال
بعد لحظات طويلة من فرح وتهليل الجماهير المتجمعة حول قاعدة تمثال ديليسبس، أحضر خلالها إحدى البانبوطية حبل ربط سفن سميك , ثم تسلق على السلم الى القاعدة المدهونة بالشحم الزلق، وربط الحبل حول عنق تمثال ديليسبس فى ربطة عقدة بحرية مشابهة للمشنقة، فلم يكن من الامكان غير ذلك، نظرا لأن العبئة التى كان يلبسها ديليسبس، كانت جزءا من التمثال قد شابهت حائطا قويا لتثبيت التمثال الضخم الثقيل ، ولما شاهدت التجمعات الهائجة ما يحدث لم يتوقف هتافهم وحماسهم عندما رأوا البامبوطى ومحاولته التى تفهموها فورا، فتسابق العديد من الممواطنون وأمسكوا بالطرف الآخر للحبل وبدأوا يسحبونه من الناحية الشمالية بقوة وشدة أملا فى جذب التمثال الى الأرض، ولكن دون جدوى فازداد غضبهم وبدأوا يلعنون وازدادت محاولاتهم فى جذب الحبل حتى بلغوا العشرات من المواطنين بينما استبعد جنود المطافىء
السلم الى شارع كتشنر وثبتوه الى إحدى سياراتهم تمهيدا لسحبه الى قاعدتهم، وصاحبت محاولاتهم الهتافات التى تردد صداها الى السماء فوق المدينة، بحيث سمعناه يصل إلينا الى داخل سيارة سمير فى طريقنا الى رصيف ديليسبس رغم نوافذها المغلقة
"احضر معى معى ننسف ديليسبس ...!! "
وصلنا امام مبنى تواجد شقيقى عبد المنعم، فطلب منى سمير الاسراع وعدم التباطؤ، فتركت فى حوزته الحقيبة السوداء وهرعت إلى السلم الى الدور الأول وطرقت على باب مسكن تواجد شقيقى، ولما فتح أقاربه الباب لى رحبوا وبدأوا يزغردون ، فهروع شقيقى من الداخل مستفسرا، ليجدنى أطلب مقابلته، وأفهمته بأننى أود التنحى به جانبا لموضوع هام، فابتسم، لأنه كان يعلم بأننى أنوى شيئا ما، فدخلنا غرفة صالون المسكن وافهمته باختصار, بل كان أمرا وليس طلبا، بضرورة مرافقتى فورا والحضورمعى لمشاركتى فى نسف ديليسبس
ظهرت على سماء وجههه علامات استفهام عديدة، وبدأت مناقشة بسيطة، أفهمته
خلالها بأن هذه فرصة حياته للدخول فى سجلات التاريخ، وإنه عليه مصاحبتى دون مناقشة، كما أفهمته بأن اليوزباشى سمير ينتظرنا فى السيارة أمام باب البناية، فأراد عبدالمنعم أن يدعو سمير الى شرب الشاى قبل مغادرة المكان، ولكننى جاوبت شقيقى وأفهمته بطريقة يعرفها منى جيدا بأن الوقت قصير ولا بد أن يهرول، وبالفعل استجاب عبدالمنعم وأسرع بمغادرة المكان
هرولنا الى السيارة، وجلس عبدالمنعم على المقعد الخلفى بينما جلست بجانب سمير ،وقادنا سمير فى اتجاه رصيف ديليسبس وهبط على جو السيارة سكون عميق لم يقاطعه أى منا فى طريقنا الى رصيف التمثال المشئوم، وفى خلال هذا الوقت فتحت الحقيبة السوداء وشاهدت فيها اثنى عشر قالب مفجرات تي أن تي T N T دون فتيل الأمان أو كابسولات التفجير كما كان فى الحقيبة أربعة صوابع متفجرات جليجانيات، وكان شقيقى يتطلع عما أفعل ، وبهره مشهد القوالب البيضاء العديدة، فقد كانت هذه أول مرة له فى حياته، ليشاهد هذه المفجرات، وحام عليه سكون عميق سألت سمير عن فتيل الأمان والكابسولات ، حيث أنه لا يمكن التفجير دونها، فأشار لى لفتح درج السيارة فى مواجهتى، لأجد فيه علبة كارتون صغيرة بها لفة فتيل أمان واثنتى عشرة كبسولة انفجار بينما نقصت مطوة أو سكينة لقطع وتقسيم الفتيل فاستفسرت من سمير عنها، فمد سمير يده الى جيب قميصه وأعطانى ما طلبته، وفى هذا الوقت كنا قد وصلنا أمام رصيف ديليسبس وكانت اصوات ونداءات وهتافات المتجمعين تدخل الى السيارة بشكل عال
حبل المشنقة حول رقبته
كنت أحترق من اللهفة، فقد طغى على شعورا بالاعتزاز، لاختيارى للقيام بهذه المهمة، كتقدير من سمير لكفاءتى ونشاطاتى خلال الأسابيع الطويلة السابقة, وماكدنا نصل الى الرصيف الطويل وكانت هذه أول مرة لى اطىء فيها الى الرصيف منذ عملية وتجسسى على القوات البريطانية يوم الخميس 8 نوفمبر لجمع المعلومات للقاهرة وشاهدت آثار التشويه العديد من طلقات المدافع الرشاشة التى وجهتها الطائرات والجنود البريطانيون ضد المدافعين المصريين الذين ربضوا دفاعا عن الميناء خلال يومى الاثنين والثلاثاء 5 و 6 نوفمبر ، كما شاهدت آثار تحطيم جنازير الدبابات والسيارات الثقيلة لحائطى الرصيف عندما عبرته بعد انزالها فى ميناء ميناء الصيادين القديم
ما كادت تصل السيارة أمام درجات السلم االخمسة المؤدية للرصيف وكنت احترق لهفا، وبعدما هدأ سمير من سرعته للتوقف، ودون أن انتظر ، فتحت بابها وقفزت منها قبل أن تقف تماما قد كان صبرى نفذ ، وهرعت وانا أحمل الحقيبة السوداء وعلبة كارتون الكبسولات فى اتجاه جموع المواطنين الذين تزايد عددهم ليتراوح بين 20 الى 30 شخصا يجذبون مشنقة الحبل حول رقبة تمثال ديليسبس ، وشاهدنى بعضهم فى الطريق اليهم
حسنى عوض جاويش المظلات
لحق بى شقيقى، وهرولنا، بينما بقى سمير فى سيارته لمراقبة ما يحدث من بعد، ولما شاهدنى المواطنون وكان منهم العديد الذين تعرفوا على شخصيتى لأنهم كانوا قد شاهدونى فى الاستعراضات العسكرية التى كنا نقوم بها فى المدينة فى الماضى وقيادتى لطوابير تدريب الطلبة العسكرى التى كنا نقوم بها اليومية فى ميدان المحافظة ، كما كان منهم العديد من أفراد الحرس الوطنى، وبعض أفراد مجموعاتنا ،
ماكادوا يشاهدون الحقيبة السوداء فى يدى والعلبة الكرتون فى اليد الأخرى، حتى استنتجوا نيتى فى القيام بنسف التمثال، فارتفعت هتافاتهم وتردد صوت "الله أكبر" كالرعد ، وهامت على الحاضرين هيستيريا فرح لا يمكن وصفها فى سطور، وفجأة تركوا الحبل الذى كانوا يشدونه وهرعوا الى ليحملونى على أكتافهم ويسرعون بى الى قاعدة التمثال ، وواجهت أول مشكلة ، وهى التسلق الى قاعدة التمثال على ارتفاع حوالى خمسة أمتار، وكانت المشكلة الثانية، هى سلامة المواطنين الذين تجمعوا حولى لمشاهدة ما يحدث...وفجأة أحسست بيد تطرق على كتفى منادية باسمى، فلما استدرت مستطلعا، شاهدت حسنى عوض جاويش المظلات وموظف المخابرات الذى تعاون معنا بشكل كبير خلال المقاومة وفى يده حقيبة سوداء أخرى مشابهة لتلك التى كانت فى يدى، واستنتجت بأن محتوياتها أيضا من قوالب انفجار الديناميت ت ن ت T N T وعرض على حسنى مساعدته، فرفضتها وأفهمته أن هذه عمليتى لمدينتى التى ولدت فيها ولا أود أن يشاركنى فيها أحد ونظرت اليه والى شقيقى عبدالمنعم بما يعنى تصميمى على القيام بالنسف لوحدى دون مساعدة، فابتعد باحترام وأظهر إعجابه وبأنه
سيراقب من بعيد اذا احتجت أى مساعدة فقد كان حسنى يعلم أن هذا يومنا ولم يتدخل
................
..........
...
د. يحى الشاعر
مقتطف من سطور كتابى
" الوجه الآخر للميدالية، حرب السويس 1956 ،
أسرار المقاومة السرية فى بورسعيد"
بقلم يحى الشاعر
الطـبعة الثـانية 2006
طبعة موسعة
رقم الأيداع 1848 2006
الترقيم الدولى ISBN 977 – 08 – 1245 - 5