أثار قرار منع الدكتورة ميشيل دُن (الدبلوماسية الأمريكية السابقة والمسئولة عن ملف دراسات الشرق الأوسط بمعهد كارنيجي بواشنطن) من دخول البلاد- الشكوك في القوى العقلية عند كثير ممن يعملون مع المشير السيسي.
متابعة دقيقة للموقف تعرفنا أن بعض المحيطين بالسيسي، لا يسيئون إليه فقط، بل يدفعون به إلى حلبة السياسة، بعد سقيه سمًّا ناقعًا، حتى إذا ما بدأ العراك سقط قتيلًا، فإنْ تحمّل يظل مريضًا، بينما هم يحركون الأمر من خلف الستار.
فهؤلاء يعلمون أن السيسي لن يموت بسهولة، بعد أن احتمى بمؤسسته العسكرية، التي تدير البلاد، منذ 60 عامًا، وليس لديها استعداد أن تقسم بالولاء والطاعة لأي رئيس مدني آخر، ولا يوجد مصري حقيقي راغب في مواجهة أو كسر هذه المؤسسة، بل يعلي الجميع شأنها رغم ما يقع منها من أخطاء. ولن يسقط السيسي أمام مظاهرات الإخوان المسلمين المستمرة منذ 18 شهرًا، وأنهكت التنظيم العتيق وأودت بخمسين ألف منهم خلف الأسوار وخلفت آلاف القتلى والأرامل والأيتام، فهم حقيقة لا يملكون مشروعا ثوريا يمكنه إسقاط السلطة الحالية، وأعلى ما في خيلهم، الحشد لمظاهرة أو حرق بضع سيارات. ولن تتمكن قوى " داعش" أو غيرها من التنظيمات الهلامية التي ترفع شعارات إسلامية أو غيرها من كسر شوكة السيسي، بل ستصبّ أعمالهم الإرهابية في يد السيسي وتحولها إلى قبضة حديدية، يضرب بها الجميع، تحت ستار حماية الأمن القومي ومنع الفوضى في البلاد.
وبالطبع لن يسقط المشير أمام المعارضة السياسية المتشرذمة، التي تتحارب على الكراسي البرلمانية ويديرها من خلف ستار بقايا الفلول ورجال أعمال مبارك وحفنة ضعيفة من بقايا شباب ميدان 25 يناير وما بعدها من تقلبات.
إذن من سيقتل المشير؟.. بمراجعة مشهد طرد الدبلوماسية الأمريكية السابقة، ميشيل دُن، سنعرف من سيكون القاتل. فالباحثة التي هاجمت السيسي خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، وكتبت وظهرت في أجهزة الإعلام، تطالبه الالتزام بمسار ديمقراطي واضح، طلب منها المجلس المصري للشؤون الخارجية، الذي يضم وزراء ومساعدي وزير الخارجية الحالي والسابقين، وأساتذة جامعات ومفكرين وإعلاميين مصريين أن تحضر للقاهرة في اجتماع موسع.
استهدفت الدعوة التي حصلت عليها الباحثة الأمريكية، تقديم معلومات واقعية عن مصر وزيارة المؤسسات التي يمكنها أن تقنع أو تعمل لها غسيل مخ، بما يدفعها إلى تغيير رأيها في نظام السيسي. ولم تأت الدعوة من فراغ؛ فالمجلس المصري الذي يديره فعليًا منذ سنوات السفير عبد الرؤوف الريدي والدكتور محمد شاكر المساعدان السابقان لوزراء الخارجية، وعملا في الأمم المتحدة لسنوات، يعلم قدر هذه المسئولة الأمريكية ومدى تأثيرها على قرار البيت الأبيض وأجهزة الإعلام ومراكز البحوث الكبرى في واشنطن والغرب.
فالدعوة جاءت في محلها، وستصب حتما في مصلحة النظام والسيسي مباشرة، فإذ بجهة سيادية ما تمنع السيدة من دخول البلاد، وتحتجزها في المطار 6 ساعات متصلة، حتى أعادتها مشحونة على أول طائرة متجهة نحو الغرب. يعتقد هؤلاء الجهابذة أن المشكلة انتهت بشحن المسئولة الأمريكية السابقة، فإذ بها تحيل الأزمة إلى المجتمع الأمريكي والأوربي بأسره، وتظهر النظام بأنه في حالة رعب من دخول باحثة استدعت لمناقشة المسار السياسي في مصر، مع نخبة من الشخصيات التي تدور كلها في فلك النظام.
عندما اتصلنا بالجهة الداعية كان من العجب أن يرد الدكتور محمد شاكر نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الخارجية، بأننا أجبنا "دعوة الباحثة، ولكن الجهة الأمنية أدرى بمصلحة الأمن القومي ولها الحق أن تتخذ ما تراه مناسبا لحماية الوطن"!!. هكذا كان الردّ من رجل عمل في السلك الدبلوماسي لنصف قرن ونيف، يعلم خطورة الموقف الذي ستخلفه على النظام والدولة والمصلحة العليا للبلاد. فهو لم يوجه الدعوة للسيدة لأنها فقط مؤثرة في الغرب، بل لأن السيسي نفسه طلب من مستشاريه ورجاله وكل من يرتبط بنظامه في كل مكان أن يشاركوا في حملة علاقات عامة، تستهدف شرح موقف نظامه في المحافل الدولية. بل لم يتورع هؤلاء أن يستأجروا شركة علاقات عامة يديرها إسرائيلي لتحسين صورة النظام في الولايات المتحدة، وطلبوا من الدكتور أحمد زويل وإسماعيل سراج الدين وغيرهم كتابة مقالات في جرائد " واشنطن بوست " و" نيويورك تايمز" لتشرح وجهة نظرهم فيما يحدث بعد 30 يونيو، خاصة أن مصر خسرت دعمًا سياسيًا وماليًا غربيًا كبيرًا، في وقت تحتاج فيه إلى كل دولار لمواجهة أزمتها الاقتصادية الخانقة.
هكذا يظهر بعض الرجال حول المشير، خائفين غير قادرين على الدفاع عن وجهة نظرهم، وإن كانت تصب في مصلحة النظام ورئيسه، لأنهم مرتعشون دوما مهزومون من الداخل، خائفون، تماما مثل بعض المصريين الذين وضعوا البيادة فوق رؤوسهم ورقصوا في الميادين ابتهالاً بإزاحة أول رئيس مدني منتخب لأنهم خائفون من الديمقراطية، فهم يخشون حرية لم يمارسوها، وإن كانت ستأخذهم بعيدًا عن حارات لا يحكمها المماليك ولا الفتوات الذين نقرأ سيرتهم في "حرافيش" نجيب محفوظ.
بالتأكيد خسر النظام الدور الذي كانت ستقوم به ميشيل دُن مجانًا، ولا نعرف كم ستتحمل الموازنة العامة للدولة لإصلاح هذا الخطأ الذي ارتكبه رجال حول المشير، في حقه وحق كل المصريين. ومن المصادفة أن تأتي الخسارة مع باحثة تعمل مع الدكتور مروان المعشر نائب رئيس وزراء الأردن الأسبق ومدير مركز كارنيجي بواشنطن حاليًا، والذي قابلته في مؤتمر مؤسسة " أريج" في مؤتمرها السابع حول " معركة الاستقلالية للإعلام العربي". تحدث الرجل بحسرة عن تدني مستوى الإعلام والحريات في العالم العربي ومصر بصفة خاصة، لدرجة أصبحت تخجله كباحث عربي في المحافل الدولية. وأبدى الرجل رغبته في أن يهدأ النظام المصري ويبدأ في فتح حوار موضوعي لبناء مستقبل سياسي قائم على التعددية السياسية والدينية والثقافية، والمساواة الكاملة بين المواطنين والرجل والمرأة، ووقف حملات الترويع والشتائم للخصوم. عندما سألته ألا تخشى أن يضعك المصريون في قائمة الخونة أو المدافعين عن الإخوان المسلمين، قال يا أخي: أنا الليبرالي العلماني المسيحي اتهمت بأنني إخوان مسلمين في الأردن ومصر، لأنني دعوت بأن يكون الحوار غير مشروط مع كافة المواطنين بمن فيهم المنتمون لجماعة الإخوان المسلمين، وهم من كفروني في الأردن من قبل ولكني على استعداد لأن أدافع عنهم اليوم بما أملك لأن الحرية الحقيقية ليست إلا معركة تدافع فيها عن حرية الآخرين. وها هو ذا المسؤول العربي الليبرالي يضطر إلى اصدار بيانات تدافع عن الباحثة الأمريكية التي تعمل معه في مركز " كارنيجي" بواشنطن، فخسر السيسي الاثنين معا.
جاءت ثالثة الأثافي كالعادة من أشاوس النظام، أو ما يحلو للمشير أن يطلق عليهم " الأذرع الإعلامية" حيث شن المذيع خيري رمضان حملة على السيدة رنا صباغ مدير مركز " أريج" الذي احتضن مؤتمرا شارك فيه 400 صحفي من كافة الدول العربية، في الأردن الأسبوع الماضي. اتهم المذيع الإعلامية الشهيرة بأنها تعمل لحساب الإخوان المسلمين، لمجرد استضافتها لشخصيات إعلامية دولية بارزة مثل "د. مروان معشر" و"تيم سبستيان" كبير المراسلين في هيئة الإذاعة البريطانية سابقا، وسيمور هيرش الكاتب الأمريكي الشهير، ويسري فودة وريم ماجد اللذين توقفا عن بث برامجيهما في قناة "أون تي في" بعد أن واجها تعنتًا في استضافة الشخصيات التي يريدونها، تحقيقا للمصداقة ونزاهة العمل. لم يكن يعلم المذيع أن السيدة رنا الصباغ مسيحية علمانية ليبرالية، يلاحقها الإسلاميون في الأردن وغيرها لأنها تدعو إلى الحرية والديمقراطية على غرار الغرب، ولكنها تتصدى لهم ولأنصارهم داخل النظام الحاكم، بشجاعة ورَوِيّة. وهذه السيدة التي تخصص 20% من مواردها المالية سنويا لتدريب الصحفيين المصريين، بكت حينما طلبت منها أن تنظم مؤتمراتها في مصر حتى يستفيد منها أكبر عدد من شباب الإعلاميين، لأنها تذكرت عندما أوقفها المصريون لساعات في مطار القاهرة، في عهد الرئيس محمد مرسي تحت دائرة الاشتباه، لأنها ستنظم مؤتمرًا حول حريات الإعلام بل منعت الجهات السيادية إياها، دخول عشرات الخبراء والصحفيين من أوربا والأردن والعراق ولبنان وتونس تحت هاجس حماية الأمن القومي المصري. وبذلك خسرنا ثقة منظمات دولية، تدفع الدولة ملايين الدولارات لجذب أي منهم للكتابة عن مصر في الصحف العربية والدولية.
حقا هنا أذرع إعلامية صنعت على أعين المشير، ولكنها تتحرك كـ "الأرجوزات"، أو كما يصفها شاعرنا الكبير فاروق شوشة؛ هم كالقرود، مستعدون للقفز على الكراسي والقنوات والمشاهد، لمن يدفع أكثر ومن يضمن لهم استمرار القفز فوق رؤوس العباد، ولكن أدمغتهم جماجم فارغة من المضمون وقيمة الحياة. وهذا هو الفارق بين الأذرع الإعلامية التي تثير الفتنة بين الدول والناس وتستعمل أقذر الشتائم بل تسبّ الشعب علنًا، تارة باسم السلطة وأخرى باسم الحاكم، فلا تخشى إلا سطوة النظام، ومن يدفع لها الشيكات، وأخرى تحرك دولاً بعقولها النَّيِّرة وقدراتها الشخصية التي صقلتها في سنوات، عبر خبرات وتدريبات شاقة، لا يقدر عليها الأراجوزات. الفارق بين الاثنين أن الذين يدعون أنهم رجال المشير هم أول من يسيئون إليه بل يقتلونه معنويًا وسياسيًا ويُجَرجون آخرين إلى شهوة الانتقام، فإذا لم يستطيعوا قتل النظام، فهم بالتأكيد يفكرون في اليوم الذي سيقلتونه جسديًا تمامًا كما فعل الإعلام في الرئيس الراحل أنور السادات، حيث صنع منه زعيمًا ففرعونًا وبرر له أفعال الديكتاتور حتى تحول إلى شخص مطلوب للمعارضة فقتله ضابط من أمهر الشباب الذين تدربوا على حمل السلاح.
عادل صبرى