رواية أنور السادات
رواية أنور السادات
وربما كانت أكثر الروايات غرابة، وبعداً عن الحقيقة، هي الرواية التي ذكرها أنور السادات، عن معركة رئاسة الجيش، والتي وردت في كتابه "قصة الثورة كاملة" في الصفحات (98، 102، 103)، يقول: "لم يقل لي عبدالحكيم، في تلك اللحظة، أنه هو الذي قاد معركة رئاسة الجيش، وأنه هو الذي احتلها بجنوده، أو هو الذي قاد الجنود، ثم تقدمهم واقتحم بهم المبنى، وهو يحمل طبنجته تماماً مثلما فعل، ذات يوم في فلسطين، إنه في يوم نيتساليم (بفلسطين) بمسدسه وعساكره خلفه، وفي يوم رئاسة الجيش بمسدسه وعساكره من خلفه. وانطلقت رصاصات جنود عبدالحكيم عامر حول مبنى رئاسة الجيش وسقطت القلعة المنيعة في ثوان، وبقوادها. لقد وفر لنا كشف المخابرات لخطتنا وقتاً طيباً، كما وفر علينا جهوداً ضخمة، في الوقت نفسه، بعد أن علم جمال عبدالناصر باجتماع قواد الوحدات، لمواجهة الثورة، وإخمادها، قرر القبض على هؤلاء القادة في مبنى رئاستهم، وبهذا يوفر التنظيم جهوداً ضخمة في الرجال والوقت، كانت ستبذل للقبض على هؤلاء القواد، في منازلهم، كل على حده. لقد اصطاد جمال عصافير عديدة بحجر واحد. أما الحجر فكان عبارة عن مجموعة من الجنود، فوجئ جمال بهم ليلة الثورة، وهم يتقدمون تحت رئاسة ضابطهم، النقيب محمد شديد نحو مراكز تجميع قوات الضباط الأحرار. ويعرف جمال أن النقيب شديد جاء بتلك القوة، التي تعمل تحت رئاسته، من تلقاء نفسه وبلا أوامر من أحد، عندما علم بأنباء الثورة؛ فقرر أن يشترك بجنوده في المعركة؛ قبل موعد بدئها بساعة".
"واتُخذ القرار في الحال، بعد وصول قوة الضابط شديد، بأن نتوجه بالقوة نفسها، برئاسة عبدالحكيم عامر وتحتل مبنى رئاسة الجيش، وتلقى القبض على القادة، أثناء اجتماعهم العاجل. وفعلاً قاد عبدالحكيم عامر، وهو يشهر مسدسه، وتقدم الجنود ثم اقتحم بهم مبنى الرئاسة، وانتصر التنظيم، في المعركة الأولى، وكانت أول معركة حاسمة تكسبها الثورة"!
يقول جمال حمد معلقاً على رواية السادات: "ولا يحتاج الأمر، إلى عناء كبير، لإثبات مدى بعد هذه الرواية عن الحقيقة إذ يكفي إغفالها لاسم يوسف منصور صديق، وطمس معالم دوره طمساً تاماً، رغم ما يعلمه الجميع من أنه قائد العملية، بل وبطلها دون منازع. والذي يستلفت النظر، هو إقحام اسم عبدالحكيم عامر في هذه العملية إقحاماً، لا شك أن عبدالحكيم عامر قد خجل منه، إذ نسبت إليه بطولة لا يستحقها، إذ كيف يرضى أن يُكتب عنه أنه هو، الذي قاد المعركة، وهو يحمل مسدسه، على رأس جنوده واقتحم مبنى الرئاسة، وألقى القبض على حسين فريد، والقادة الذين معه، في الوقت الذي كان فيه عبدالحكيم عامر أول من يعلم، أنه لم يشترك، في هذه المعركة، إطلاقاً؛ لأنه كان واقفاً، مع عبدالناصر، يراقبان الموقف، من موقع مجاور لمبنى رئاسة الجيش، كما أن عبدالحكيم عامر لم يكن يحمل مسدساً، في تلك الليلة، فقد كان مسدسه في مخزن السلاح، برئاسة الفرقة الأولى برفح، التي كان يعمل بها، وكان في القاهرة، وقتئذ، في إجازة ميدان.
أما تلك المجموعة المجهولة من الجنود، التي كان يقودها النقيب محمد شديد، والتي فوجئ جمال عبدالناصر بوصولها إلى مراكز تجمع الضباط الأحرار، والتي أحضرها قائدها، من تلقاء نفسه، وبلا أوامر من أحد، عندما علم بنبأ الثورة فهذه عبارة بعيدة عن الحقائق التاريخية، فإن الضابط، المقصود في العبارة، اسمه النقيب عبدالمجيد شديد محمد رضوان، وليس محمد شديد، ولم يحضر هذا الضابط، من تلقاء نفسه، وبلا أوامر، بل جاء ضمن طابور قوة مدافع الماكينة، من الهايكستب، بأمر من قائده يوسف صديق، وكان هدف القوة التقدم إلى مبنى رئاسة الجيش، وليس إلى مراكز تجمع الضباط الأحرار؛ لأنه لم يكن في الخطة ذكر لأية مراكز بهذه الصفة.
تحرك باقي قوات المشاة
كانت قوات المشاة المتوفرة والمضمونة، للقيام بالانقلاب[9]، هي كتيبة المشاة رقم (13)، وكان معظم ضباطها، من تنظيم الضباط الأحرار، وحتى قائدها الرسمي، القائمقام أحمد شوقي، فقد انضم، ليلة الانقلاب، للضباط الأحرار. وكذلك كانت مقدمة كتيبة مدافع ماكينة، عبارة عن سرية الرئاسة، وسرية أخرى، تحت قيادة يوسف منصور صديق، ومعه النقيب عبدالمجيد شديد. وكلا القوتين كانت من دون سيارات، أو ذخائر كافية، ولذلك فقد تم استكمال احتياجاتهما، من ضباط أحرار خدمة الجيش، بعد غروب شمس يوم 22 يوليه، ومن مركز تدريب المشاة.
قامت قوة سرية يعاونها تروب دبابات، بالتحرك ساعة الصفر، تحت قيادة صلاح سعدة، إلى مبنى سلاح الحدود، في كوبري القبة، لمحاصرته، ومنع أي تحرك منه، خشية إمكان سيطرة اللواء حسين سري عامر مدير السلاح، واستخدامه لقوات الحدود ضد الانقلاب، كما قامت سرية مشاة، بقيادة اليوزباشي عمر محمود علي، ومعه ثلاثة ملازمين، بالتحرك إلى رئاسة أركان حرب الجيش، (بمبنى القيادة العامة)، ولكنه وصل بعد أن تمكن القائمقام يوسف منصور صديق من اقتحامه، وساعد في السيطرة عليه، وبخاصة أن جانباً من المدرعات كان يتعاون معه.
توجهت قوة فصيلة إلى مبنى الإذاعة، وسيطرت عليها، بالتعاون مع قوة المدرعات. كما قامت سرية أخرى بتوزيع فصائلها على بوابات معسكر العباسية، لمنع دخول، أو خروج، أي أفراد عسكريين، لا ينتمون إلى الضباط الأحرار، وكانت تحركات واستعدادات جنود الكتيبة (13)، بحجة أن الإنجليز يتحركون، من منطقة القناة، وأن الكتيبة مكلفة بواجب دفاعي عن البلاد، وتقبل الجنود هذا التفسير بحماس.
وصلت السيارة الجيب، التي تقل أحمد شوقي، وزكريا محيي الدين وجمال حماد إلى بوابة معسكر العباسية، من ناحية كلية البوليس، فساد الاطمئنان لنجاح الفصيلة المشاة، المعينة من الكتيبة 13، في احتلالها. واتجه أحمد شوقي، بعد ذلك بالعربة، إلى البوابة الرئيسية للمعسكر، وأشد ما كانت دهشة راكبي السيارة، عندما وجدوا رجال البوليس الحربي مازالوا يحتلونها، بقوة كبيرة، أي أن قوة الكتيبة (13)، التي أُرسلت لاحتلالها لم تصل إليها بعد.
ومرت بالضباط الثلاثة، لحظات رهيبة فقد، خشوا إذا هم عادوا بالعربة، أن يثيروا شكوك رجال البوليس الحربي، فيتعرضوا لإطلاق النار عليهم، كما قدروا، إذا هم تابعوا السير، فسوف يتعرضون حتماً لإلقاء القبض عليهم. وتمهل أحمد شوقي، على مقربة من البوابة، وإذا بالبكباشي حسن عبدالوهاب قائد البوليس الحربي، يتقدم نحو العربة، مبتعداً قليلاً عن رجاله. وأسرع زكريا في اقتناص الفرصة، التي سنحت أمامه، عندما رأى حسن عبدالوهاب زميله، ودفعته بالكلية الحربية، فصاح بلهجة أخوية، مليئة بالحفاوة والترحيب: "أهلاً يا حسن، أنا زكريا، تعالى اركب معانا". وتأثر حسن بدعوة زميله الحارة، وسرعان ما وجد نفسه، بحركة لا شعورية واقفاً على سلم العربة، التي انطلق بها أحمد شوقي يسابق الريح. ومرت السيارة بنطاق البوليس الحربي، من دون أن يعترضها أحد، بعد أن رأوا قائدهم بنفسه واقفاً على سلمها. وكان قائد البوليس الحربي لا يكف، طوال تحرك السيارة، عن الصياح "يا اخوانا بس فهموني إيه الموضوع"، ولكن العربة استمرت في سيرها، من دون توقف، حتى وصلت إلى قرب بوابة سلاح الفرسان. ونزل حسن عبدالوهاب ليفاجأ بركاب السيارة، وليذهله مشهد الدبابات والسيارات المدرعة، التي كانت منتشرة بجوار البوابة. ولما استفسر منه زكريا عن سر وجوده، في هذه الساعة، عند مدخل معسكر العباسية، أجاب في اضطراب، أنه علم من الفريق حسين فريد، أن هناك دوشة من بعض الضباط الصغار، ولكنه لم يطرأ على باله، أنها بكل هذه القوة والتنظيم، وأنه بناء على الأوامر الصادرة إليه، أرسل قوات كبيرة من البوليس الحربي إلى سراي عابدين، التي كانوا يتوقعون أن تحرك المتمردين سيكون إليها، ولما أحسوا أخيراً، أن الحركة ستكون قريباً من رئاسة الجيش، بكوبري القبة، أصدروا الأمر لقواته بالتوجه، من عابدين إلى مدخل معسكر العباسية، حيث كان واقفاً هناك، في انتظار وصول القوة. وعندما أبدى حسن عبدالوهاب استعداده للتعاون مع الضباط الأحرار قال له زكريا أن خير معاونة يسديها للحركة هو أن يسرع بالاتصال بقواته في سراي عابدين، ويصدر لها الأمر بالبقاء في مكانها.
ويبدو أن قائد البوليس الحربي أصابته الحيرة، بشأن الموقف الذي يتخذه، والجانب الذي ينضم إليه، فاستقر رأيه على أن أحسن الحلول، هو أن يتوجه إلى بيته، ويبتعد عن جميع هذه المشاكل. ولو كان حسن قد أطاع نصيحة زكريا، وأمر قواته بالبقاء في عابدين، لجنب هذه القوة ما حاق بها، بعد ذلك، حينما تقدمت، بقيادة المقدم عبدالهادي ناصف، في اتجاه رئاسة الجيش، حيث أوقفتها قوة من السيارات المدرعة، بالقرب من بوابة سلاح الفرسان وجردت أفرادها من أسلحتهم، واحتجزتهم أسرى، في عنابر الفرسان.
ولم يغب عن بال زكريا محيي الدين أمر اللواء السابع، الذي كان قائده يعده للقضاء على الحركة، ولا توجد قوة كافية، من المشاة لصده؛ فطلب من ثروت عكاشة، تخصيص وحدة من السيارات المدرعة، لهذا الغرض، على أن تكون جاهزة، في مدى نصف ساعة، للتحرك فوعد ثروت عكاشة بإعدادها في الموعد.
واستمرت السيارة الجيب في طريقها إلى مبنى رئاسة الجيش، حتى وصلت إلى البوابة الرئيسية للمبنى، ونزل الضباط الثلاثة، حيث التقوا بمجموعة كبيرة من الضباط الأحرار، ومنهم جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، والبغدادي وحسن إبراهيم وبعض ضباط قوة مدافع الماكينة. ولم يكادوا يصافحون زملاءهم، حتى شاهدوا الفريق حسين فريد، رئيس هيئة أركان حرب الجيش، يهبط سلم المبنى الرئيسي، في خطوات ثابتة، وبجواره الأميرالاي حمدي هيبة، مدير كلية أركان الحرب، والبكباشي نائب أحكام حسن سري، الضابط العظيم المنوب لرئاسة الجيش، في تلك الليلة، وخلفهم بقليل كان يسير البكباشي، يوسف صديق، وبعض الجنود شاهرين السلاح. وعندما وصل الفريق حسين فريد ورفاقه، إلى الباب الخارجي، اصطف جميع الضباط الأحرار الموجودين، وأدوا له التحية العسكرية، في آخر لحظة من رئاسته، والتفت الفريق حسين فريد إلى الضباط، ورد التحية العسكرية.
د. يحي الشاعر