( تابع الجزء الأول بقلم حسين المعاضيدى )
وصلت إلى أرض الخلافة وقبل أن اُقبّل ترابها ألتفت خلفي، وكان يجول في خاطري أن ابصق على كل ما هو خلفي، لولا بعض الناس الذين لا يزالون يسيرون ورائي ممن كانوا يقصدون وجهتي، لكني وضعت حقيبتي من على ظهري، وألقيت بكاميرتي والـ(لابتوب) بجانب الحقيبة، وأخذت اُقبّل الأرض، وأعفر وجهي بتراب أرض الخلافة..!
نهضت بعد طول إحتضان لتلك الأرض التي طال عودتي إليها، وأخذت الموبايل لأتصل على زوجتي، التي تركتها مع طفلاي خلفي، إذ لم استطع إصطحابهم معي إلى أرض الخلافة لصعوبة الإجراءات، وتعقيدات ما قبل الوصول، فأبلغتها أني دخلت الآن لأخطر أرض، كما يصفونها، ولن يكون بالإمكان التواصل، فلا إتصالات هناك ولا إنترنت، ولا أية وسيلة أخرى، لهذا عليكِ، كما أخبرتها، أن تربي لي اُسوداً جائعة، لا أغنام مدجّنة، قاصداً بذلك طفلاي اللذين تركتهما خلفي..!
حينما اتصلت على زوجتي كانت تلك الكلمات هي آخر ما سمعتها مني، واردفتها بـ( إن كتب الله لي العيش، فسأعود يوماً، وإن لم أعد فأصبري واحتسبي، فما خرجت بطراً، ولا بحثاً عن مجدٍ زائل، إنما هي حقيقة وواقع مغيب يجب أن أقف عليه بنفسي واستكشف خفاياه، حتى لا أكون كمن يهذي بما لا يدري، ويكتب عما يسمعه من أفواه الآخرين، فلابد أن أقف على مكامن وبواطن الأمور، بعيداً عن التعصب والتحزب الأعمى، والكذب المفضوح، والنقل اللا أمين، وفبركة القنوات ودجلها!
بجواري، وعلى بعد أمتار من آخر نقاط التفتيش لآخر موقع تابع لسلطة (الشيعة والأكراد)، كانت هناك مجموعة سيارات أجرة، بعض سائقيها ينادي: (حويجة.. حويجة)، وبعضهم الآخر يعلو صوته بـ (گيارة.. گيارة)، وبعضها ينادي باسم مدن آخرى، فيما شدني صوت سائق ينادي (موصل.. موصل)!
يا لوقع هذا الاسم.. لم يكن في بالي أن اتجه إلى هذه المدينة، فلم أكن قد حددت وجهة لي بعد، فكل ما كان يهمني حينذاك كيفية الوصول إلى أرض الخلافة.. لكن وقعُ إسم الموصل سحرني، كيف لا، وهي التي إنهارت فيها جموع الضلال في سويعات، فتحررت على أيدي المجاهدين بلمح البصر..!!
لبرهة عادت بي الذاكرة لأيام وساعات تحرير هذه المدينة الإسطورية لحظة بلحظة، حينها كنت على تواصل مع القنوات الفضائية، وأزوّدهم بأخبار المعارك أولاً بأول، فكنت على تواصل مع كثير من أبناء هذه المدينة، ممن كانوا يزودوني بالأحداث العاجلة حال وقوعها وقوعها، حتى بدى لكثير من وسائل الإعلام التي كانت تعتمد أخباري إنني كنت في أرض المعركة، وهكذا كنت أحسب نفسي!
سرت بعد ذاك نحو مصدر ذلك الصوت وهو ينادي: (موصل موصل).. وقفت أمام السائق بحقائبي، خاطبته بحماس:
أين سيارتك؟!
أجابني:
هناك، في تلك السيارة، مشيراً إلى سيارة نوع (كيا)، تتسع لأحد عشر راكباً، اتجهت إليها، وكانت على بُعد قرابة العشرين متراً، قطعتها بخطوتين، أو هكذا خُيّل إليِّ!
كانت تلك اشبه ما تكون بالأرض الحرام في المعارك، كانت أرضيتها غارقة بالنفايات، فلا أحد من الطرفين المتحاربين يدخلها، باستثناء المدنيين المتنقلين بين الدولتين بحدودهما الجديدة المؤقتة، لهذا كانت أرضها أشبه ما تكون ببرميل نفايات، إذ ينتظر الناس على أديمها أياماً وأسابيع قبل أن يُسمح لهم بالمرور من قبل مناوئي الدولة الإسلامية، فهؤلاء المناوئون ينظرون إلى من يدخل أراضي الدولة الإسلامية على إنه إرهابي، أياً كان عمله، أو مهنته، أو حجته، أو إنتمائه القومي، ما دام مسلماً سنياً، أو عربياً موحداً، والحال ذاته ينطبق على كل من يخرج من أرض الخلافة حيث يُعامل هو الآخر على إنه إرهابي، لا تزال يداه تقطر من دماء جنود الشيعة والكرد ومليشياتهم والمتعاونين معهم أياً كان عمره أو جنسه!
6_small.jpg
وضعت الكاميرا والـ(لابتوب) بجانبي، حيث المقاعد التي تقع خلف مقعد السائق، ثم وضعت حقيبتي في صندوق السيارة الصغير، الذي بالكاد اتسع لبضعة حقائب، من على شاكلة حقيبتي، فيما تم وضع بقية الحقائب فوق قمرة السيارة بعدما رُبطت بالحِبال، ثم جلستُ منتظراً إنطلاق السيارة نحو المدينة الأكثر رعباً في نظر العالم، الموصل!
اكتمل العدد، إلا واحداً، وما هي لحظات حتى جاءت سيدة تكاد تبلغ الخمسين، أو أقل من ذلك، أو ربما تزيد بعام أو عامين، لتصبح السيارة على أهبة الإنطلاق بعد تمام العدد..
جلست تلك السيدة في المقعد الذي يليني، ويجاورها شابين في العشرينات من العمر، وخلفهما عائلة مكونة من رجل وسيدتين، أما أنا فكان بجواري شابين، كنت أنا الأقرب إلى باب السيارة منهما، فيما جلس رجلان في المقعد الأمامي بجوار السائق، أحدهما كان اُستاذاً جامعياً، كما تبين لاحقاً، والآخر رجلٌ في الثلاثينات من العمر..!
انطلق السائق، بعدما طلب خمس وعشرين ألف دينار عن كل شخص كإجرة، فوافق الجميع بلا تردد، فهي تسعيرة معقولة، بل ومخفضة، للذهاب إلى مدينة اسمها كحد السيف!