صحيفة الوطن الكويتيه الثلاثاء 20 ربيع الأول 1430 – 17 مارس 2009
حرب لا صمدنا فيها ولا تصدَّينا – فهمي هويدي – المقال الاسبوعي
في حرب الأفكار نحن لا صمدنا ولا تصدينا، وانما استسلمنا بسرعة غريبة، جعلت أغلب الصحف العربية تحمل إلينا كل صباح أنباء انكسارنا وهزيمتنا.
(1)
في الرابع من شهر يناير الماضي نشرت «الأوبزرفر» البريطانية تقريرا لم ننتبه اليه في حينه، ذكر انه مع بداية الحرب على غزة بادرت الحكومة الإسرائيلية الى إنشاء إدارة خاصة للتاثير في وسائل الإعلام المختلفة، رأسها دان جيلرمان السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، وعاونه في مهمته ممثلون عن وزارتي الخارجية والدفاع ومكتب رئيس الوزراء إضافة الى الأجهزة الأمنية التابعة للجيش والشرطة. اضافت الصحيفة انه ما ان بدأت الحرب حتى بادر فيض من الدبلوماسيين ومجموعات الضغط والمدونات الالكترونية ومختلف العناصر المؤيدة لإسرائيل باغراق وسائل الإعلام المختلفة بسلسلة من -الرسائل- التي تمت بلورتها بدقة مسبقا. وكان هدف الجميع هو تبرير الموقف الإسرائيلي والدفاع عنه.
هذا الجهاز كانت مهمته الحقيقية هي الكذب والتدليس ومحاولة التستر على الوجه القبيح للحرب الإجرامية، بالادعاء تارة بان ما اقدمت عليه إسرائيل كان دفاعا عن النفس(و هو الموقف الذي انحاز اليه الكونجرس ودول الاتحاد الاوروبي) وتارة اخرى باتهام حماس بانها التي خرقت الهدنة، وان صواريخها هي التي تسببت في إغلاق المعابر وحرمان سكان القطاع من احتياجاتهم المعيشية. ومن أشهر الادعاءات التي روج لها الجهاز أيضا ان إسرائيل لا تستهدف الفلسطينيين وانما تريد وقف -الإرهاب- الذي تمارسه حماس، وانها في الوقت ذاته تريد ضرب -النفوذ الإيراني- الذي وصل الى غزة في وجودها.
هذه الأكاذيب استفَّزت اثنين من الباحثين الغربيين المحترمين، فتصديا لتفنيدها، وكشف الغش والخداع فيها. كان أولهما اليهودي الامريكي هنري سيجمان الذي نشر مقالا تحت عنوان «الأكاذيب الإسرائيلية» في مجلة «لندن ريفيو اوف بوكس»(1/29). اما الثاني فهو الفرنسي دومينيك فيدال، الذي نشرت له مجلة «لومند دبلوماتيك» (عدد اول فبراير) مقالا تحت عنوان «كلما كانت الكذبة كبيرة». موقف المقالين واضح في عنوانيهما، اما مضمونهما فقد كان كاشفا ومفحما، ومن ثم فاضحا للكذب والاجرام الإسرائيليين.
(2)
هذه الخلفية تستدعي ملاحظتين، امر بهما بسرعة قبل ان اصل الى مقصود الكلام ومراده. الملاحظة الأولى تفاجئنا وتفجعنا في ذات الوقت. وهي ان الإعلام المصري الرسمي والسعودي بوجه خاص ومعهما عدد من المثقفين العرب وقعوا في الفخ، وكانوا في مقدمة الذين تأثروا بحملة الجهاز الإعلامي الإسرائيلي بدرجة كبيرة، حتى انني أتمنى ان يفرغ اي باحث بعض الوقت لرصد عناوين واخبار وتعليقات الصحف الصادرة في فترة الحرب على غزة ليكتشف مدى تأثرها بتلك الحملة. وللتذكير فقط فان إعلامنا وبعض مسؤلينا هم الذين لم يكفوا طول الوقت عن ترديد الادعاء الذي اثبت المقالان اللذان اشرت اليهما كذبه، والقاضي بان حماس هي التي خرقت التهدئة- وهم من شدد من الحملة على حماس باكثر مما تضامنوا معها في مواجهة العدو الإسرائيلي. وهم من ظلوا يوحون بان حماس أداة في يد إيران وجزء من المشروع «الفارسي»، حتى ان مسؤلا مصريا ذهب في تصديقه لهذه الدسيسة الى حد ادعائه بان إيران بوجودها المزعوم في غزة اصبحت ترابط على الحدود المصرية!
الملاحظة الثانية ان ما اقدمت عليه إسرائيل اثناء الحرب على غزة ليس اختراعا جديدا، ولكنه اسلوب متعارف عليه في الصراعات الدولية، التي أصبحت الحرب النفسية احدى جبهاتها الأساسية. وهو ما يوثقه باقتدار كبير كتاب «الحرب الباردة الثقافية» لمؤلفته فرانسيس ستونز سوندرس (ترجمه الى العربية طلعت الشايب)، الذي كان موضوعه الأساسي تتبع الدور الذي لعبته المخابرات المركزية الامريكية في التصدي للاتحاد السوفييتي والشيوعية، في مجالي الفنون والآداب، وكيف انها نشطت في تلك الساحة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنذ إنشاء المخابرات في عام 1947كانت الصحف والكتب والاذاعات والحفلات الموسيقية والعروض الفنية المختلفة هي وسيلتها الى ذلك. ومن بين الواجهات التي اقامتها المخابرات المركزية «كونجرس الحرية الثقافية» (عام 1950) الذي تحول لاحقا الى «الاتحاد الدولي للحرية الثقافية»، وانشأ فروعا في 35 دولة، كما أصدر اكثر من عشرين مجلة ثقافية محترمة في مختلف انحاء العالم، كانت كلها تروج للنموذج الامريكي وتنفر من الشيوعية. كما كانت المخابرات الامريكية وراء إنشاء «نادي القلم الدولي» في منتصف الستينات، الذي مد اذرعه الى 55 دولة، وأسس فيها 76 فرعا، كانت كلها ذات أنشطة «ثقافية» استهدفت كسب معركة واشنطن ضد موسكو.
(3)
في أول شهر فبراير الماضي نشرت صحيفة «الشروق» مقالا للدكتور محمد السيد سليم استاذ العلوم السياسية كان عنوانه: «الحرب على غزة، أو العدوان بالمصطلحات»، عرض فيه للفكرة التي نحاول إبرازها هنا، حيث دعا الجميع الى ضرورة التدقيق في المصطلحات التي يسربها الغربيون والصهاينة الي خطابنا الإعلامي والسياسي، سواء للتغطية على الاحتلال او لإضفاء شرعية عليه. واشار في مقاله الى ان الحرب بالمصطلحات في الوطن العربي بدأت مع زيارة هنري كسنجر للمنطقة في عام 1973، حيث استخدم لاول مرة مصطلح «عملية السلام» في الشرق الأوسط، الذي لم يكن يعني إقامة السلام بقدر ما يعني عقد سلسلة من الاجراءات المتتالية تنتهي باقرار السلام يوما ما. قد يجيء او لا يجيء (بدليل انها مستمرة الى الآن ولم يتحقق من السلام شيء). وكانت النتيجة ان «العملية» بمعنى المفاوضات والمشاورات والجولات الأمريكية استمرت، لكن السلام لم يتحقق. قس على ذلك مصطلحات اخرى عديدة ظاهرها يوحي بشيء في حين انه يضمر شيئا آخر. فإسرائيل لا تنسحب مما تزعمه ارضا لها في سيناء، ولكن ذلك يعتبر من جانبها مجرد «إعادة انتشار» او فض اشتباك. كما ان «المستوطنات» وصف خداع اريد به تجميل وجه المستعمرات. والتطبيع مصطلح خبيث وملتبس، لأن العلاقات الطبيعية بين الدول تحتمل معنيين احدهما يقوم على التعاون السلمي والثاني قد يكون صراعيا، لكنه في المناخ الراهن اصبح ينطبق على حالة واحدة هي التعاون السلمي، الامر الذي يعتبر المقاومة سلوكا «غير طبيعي»... وهكذا.
الملاحظة المهمة التي خلص إليها الدكتور سليم من استعراضه لنماذج اللعب بالمصطلحات في الصراع العربي الإسرائيلي بوجه أخص، هي ان اللغة تستخدم كاداة للتضليل والابهام، وليس كأداة للتوصيل. بمعنى ان المصطلحات المستخدمة عادة ما تخفي في طياتها اهدافا شريرة، في حين يبدو ظاهرها بريئا وناعما. وهو ما ينطبق على قائمة طويلة من المصطلحات التي اصبحت تتردد على ألسنة مسؤولينا وتتناقلها وسائل إعلامنا كل يوم.
(4)
خذ مثلا مصطلح «التهدئة» الذي أشرت اليه في مقال سابق. اذ استخدم في مطالبة المقاومة بتجميد حقها في الدفاع عن نفسها في مواجهة الاحتلال، ومن ثم وقف اطلاق الصواريخ ضد العدو، مقابل فك الحصار عن قطاع غزة، ولان المصطلح لا اصل له في القانون ولا في الاعراف الدبلوماسية، فقد عملت إسرائيل على «تفصيله» في ضوء موازين القوة الراهنة، بحيث تصبح التهدئة واجبا يلزم المقاومة الفلسطينية وحدها، ولا يلزمها هي في شي، باعتبارها الطرف الاقوى عسكريا. وكانت النتيجة ان صورايخ المقاومة سكتت في حين استمر الحصار وتواصلت عمليات التصفية التي قامت بها إسرائيل في القطاع.
المدهش في الامر ان فصائل المقاومة حين قالت انها لا تقبل بالالتزام بالتهدئة في ظل استمرار الحصار والعدوان، فان بعض العواصم والابواق العربية توجهت اليها باللوم والاتهام.
خذ كذلك تلك الدعوة الغريبة الى الوقف الدائم لاطلاق النار، التي تبدو في ظاهرها إعلانا عن الرغبة في احلال السلام والوئام في فلسطين، قد تلقى ترحيبا وأذنا صاغية في الاوساط الغربية، الا انها تعبر في جوهرها عن درجة عالية من الصفاقة، ذلك انها تطالب المقاومة بالقاء سلاحها، والاستقالة من دورها، و«نبذ» فكرة تحرير البلد من الاحتلال.
خذ ايضا مصطلح «وقف تهريب السلاح» الى غزة، وهي الدعوة التي اطلقتها إسرائيل أخيراً، وحركت لاجلها الدول الغربية التي استنفرت لهذه الغاية، وتنافست في ارسال سفنها وبوارجها لمراقبة مختلف المنافذ التي يمكن ان يصل منها السلاح الى القطاع، وهي دعوة خبيثة لا نفهم كيف مررتها العواصم العربية وسكتت عليها. ووجه الخبث فيها واضح. ذلك انها تعني حرمان المقاومة الفلسطينية من حقها في الدفاع عن نفسها لتحرير الارض المحتلة، الذي كفلته لها كافة المواثيق والاتفاقات الدولية. ثم انها تخدع الجميع موحية لهم بان المشكلة في فلسطين هي تهريب السلاح وليس الاحتلال الذي اضطر الناس الى الحصول على السلاح بكل السبل لمقاومته.
خذ ايضا مسألة «المجتمع الدولي»، الذي دعا أبو مازن الى ضرورة استجلاب موافقته على أي حكومة وطنية تتشكل في فلسطين. ويلحق به مصطلح «الشرعية الدولية». وكل منهما لا يخلو من رنين جذاب، لكنه عند تفكيكه لا يعدو ان يكون ارادة أمريكية تحركها المصالح والحسابات الإسرائيلية. (للعلم فان حق مقاومة الاحتلال بكل السبل يستند الى الشرعية الدولية وكذلك قرار محكمة العدل الدولية ببطلان اقامة الجدار والمستوطنات في الارض المحتلة- وقد اورد عدد اول فبراير من مجلة «لومند دبلوماتيك» قائمة بـ35 قرارا لمجلس الامن، والجمعية العامة انتهكتها إسرائيل او رفضتها). هذان المصطلحان يفقدان حجتيهما وهيبتهما حينما نكتشف انهما يشكلان غطاء للمطالب الإسرائيلية في الاعتراف بها وبمنع المقاومة والاقرار بالتنازلات التي سبق تقديمها لإسرائيل. ومن حقنا في هذه الحالة ان نطالب بتنفيد كل قرارات الشرعية الدولية الاخرى، بغير انتقاء او استعباط.
خذ اخيرا مصطلح «الدول المعتدلة»، التي ما برح الإسرائيليون يتحدثون عن التعاون معها والحفاوة بها في العالم العربي، حتى دعت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني الى مساندتها في لقائها في 2/26 مع المبعوث الامريكي جورج ميتشل. ذلك ان مصطلح الاعتدال يفقد براءته ونزاهته حين يصبح شهادة إسرائيلية لبعض الانظمة العربية، الامر الذي يسوغ لنا ان نقول انه اذا كان مقتضى الاعتدال موالاة الإسرائيليين ومن لف لفهم من الأمريكيين ومن ثم التنكر للحقوق الاساسية للشعب الفلسطيني، فان الوطنيين والشرفاء يجب ان يترفعوا عنه، وان ينخرطوا في صف «التطرف» الذي يريدون به وصم المقاومة والممانعة.
لقد هزمت نظمنا في الفعل، وحظها في القول كما رأيت، الامر الذي يحولها من ظاهرة صوتية الى ظاهرة جغرافية لا أكثر.
................