كذبة مفضوحة
في المدرسة، وأثناء طابور الصباح، وقف ناظر المدرسة في وسط المقدمة يحيط به طاقمه افداري، وقد لفت نظري بالقرب منهم وجود عددا من البقج -الصرر- القماشية، كانت قليلة العدد، بفطنتي فهمت بأنها سوف توزع على عدد محدود من التلاميذ، فكيف سيكون الاختيار..
بصوت مرتفع طلب أحد المدرسين من التلاميذ اليتامى التقدم إلى الأمام خارج الطابور، تحرك اليتامى منا ليقفوا في صف منفصل..
هنا انتفض الشيطان في باطني يدفعني إلى الانضمام إليهم، وبدون ان أشعر وجدتني أنضم إلى الصف كي أشاركهم فيما قسم لهم داخل تلك البقج ..
- هذه بعض الملابس التي تفضلت وكالة الغوث بتقديمها لولادنا اليتامى ..
صرح الناظر معلنا عن الهدية التي تنتظرني، وفيما هو يجول بنظره بين المتقدمين وقع نظره علي، فانتفض بسرعة واستدعاني من بين التلاميذ:
- ما الذي تفعله؟ كيف تقف بين اليتامى ياولد؟
- أنا منهم يا أستاذ، اولم تعرف، وصلتنا رسالة تبلغنا بموت والدي..
وطفقت أغتصب الدمع من عيناي اغتصابا لزوم الدور ..
- كيف حدث هذا ومتى؟ لم يبلغني احد..
- البارحة وصلنا الخبر ..
- كفكف دمعك يا بني والبقية في حياتكم ..
حصلت على البقجة التي سرعان ما انستني الكذبة التي اقترفتها ..
في المساء حضر الأستاذ "سعيفان" وشقيقتاه إلى بيتنا للتعزية .. وكانت العلقة المحترمة من ولي أمرنا "خال والدي" ..
شقاوة عيال .. موتت ابوي من أجل خِرَقِّ بالية..
الشنطة وتسمم الحليب
و عاد والدي من الحجاز بعد ان امضى في مدينة جدة قرابة العامين في العمل هناك، فقد كانت الحجاز مقصدا تستقطب الأيدي العاملة العربية ومن مختلف التخصصات المهنية..
وقد كان للحرفيين نصيب كبير في سوق العمل السعودي البكر ..
كان والدي حرفيا ماهرا تمرس في أعمال متنوعة بحكم عمله الطويل منذ صغره في مطافئ القاعدة الجوية بالجيش البريطاني ا-لقريبة من يافا- حيث أتقن فيها مهن مختلفة منها وأهمها لحام المعادن المختلفة، فتعرّف على السبائك المعدنية وكيفية التعامل مع كل نوع منها، وهذه بحد ذاتها حرفة نادرة قل من اقترب من خبرته فيها ..
المهم رجع والدي بعد غياب، حاملا معه الهدايا لكل أفراد العائلة الصغيرة آنذاك، ومن بين ما خصني به كانت شنطة يد مستطيلة بسحّاب -سوستة- يلفها من طرفها إلى طرفها الآخر، ولم ينس عمي الأصغر، مرسل الهدية، أن يذخرها بالمستلزمات الكتابية البسيطة من أقلام رصاص جميلة وبراية ومحاية ومسطرة وبعضا من الدفاتر.
لم يضع والدي وقته فالتحق بعمل جديد في مدينة غزة، فمثله مطلوب بإلحاح لخبرته في صيانة السيارات أيضا ..
كان نظام المدرسة التابعة للوكالة يتضمن جرعة يومية من الحليب الساخن علينا ان نتناولها فور مغادرتنا للفسحة منتصف اليوم الدراسي، وقد كنت بخلاف العديد من أقراني مغرما جدا بالحليب، فكنت أقف خلف زميل لي لا يستسيغه حتى اخلصه من كوبه -الكيلة المصنوعة من التوتيا- الإجباري فور انتهائي من شرب ما في كوبي..
ذات يوم وكالعادة وقفنا في الطابور لاستلام حصصنا من الحليب، لكنني في ذلك اليوم تحديدا لم أشرب نصيبي من الحليب، وسكبته بخفة -دون أن يراني احد-على التربة بجوار شجرة في حديقة المدرسة، وكذلك فعل زميلي.
انتهت الفسحة وعدنا لاستكمال باقي الحصص وشنطتي البهية لا تفارقني، أستعرض محتوياتها امام أقراني من التلاميذ مفاخرا بها .. إنها من الحجاز..
فجاة تعطل السحاب -السوستة- وتوقف عن الانزلاق ليقفل الشنطة، أصابني غم شديد، صار همي الوحيد إصلاح ما اتلفت قبل العودة إلى البيت حتى لا أتعرض للعقوبة ..
في تلك الأثناء، وبعد قرابة الساعة من الفسحة، رأينا عددا من زملائنا التلاميذ يتلوون ألما من مغص شديد في بطونهم، خلال دقائق كان العدد في ازدياد، وبدأ التلاميذ في التساقط على الأرض، أنا كنت اتالم من شئ آخر، الشنطة التي تعطلت وتستعصي على الانغلاق ..
انزويت جانبا غير مهتم بما يدور من حولي محاولا وزميلي إصلاح الشنطة، فيما كانت سيارات الإسعاف قد وصلت إلى المدرسة لتنقل التلاميذ المتهالكين إلى المستشفى في مدينة غزة القريبة..
اكتظت المدرسة بالهالي كلٌ جاء يبحث عن وليده ومصيره .. وأنا منشغل عنهم بشنطتي التعسة، حضر أحد التلاميذ ليبلغني بأن والدي قد حضر باحثا عني، فاختبأت منه وانسللت عائدا إلى البيت، من ذا الذي أبلغه بخراب الشنطة؟
بعد قليل عاد والدي وقد طمانه زميل لي بأنني بخير، فوجئت به ينقض علي يحضنني بشدة ويقبلني في كل ناحية من وجهي ورأسي غير مصدق بنجاتي من تسمم الحليب الذي أصاب في ذلك اليوم عددا كبيرا من التلاميذ الصغار في أكثر من مخيم للاجئين..
رحم الله والدي، فقد كان صارما عبوسا في شبابه، لكنه في ذلك اليوم رأيته يسكب علي حنانا اختزنه في قلبه لسنين...