دونالد ترامب رجل قديم في صنعة الفساد، ويعرف جيداً أن العِجل حين يقع تكثر سكاكينه، وهي حقيقة فيزيائية تتفق عليها الثقافات المختلفة، ولذلك فهو حريص للغاية على تعقيد خروجه من البيت الأبيض، إن لم يكن على أمل أن يؤدي المسار القضائي إلى معجزة ما تبقيه أربع سنين أخرى، فلكي يستغل قاعدته الجماهيرية العريضة في خلق حالة من الفوضى تدفع "الوسطيين" من الديمقراطيين إلى عقد صفقة معه، للسكوت على فضائحه المالية التي ظلت تتكشف بكثافة طيلة الشهور الماضية، فما بالك حين يخرج من الحكم، ويصبح الحائزون على المستندات والوثائق في حلٍ من كشفها وتسريبها أو بيعها.
لا أتحدث هنا عن مستندات شديدة السرية لا يحوزها إلا المقربون اللصيقون بترامب الذين يعرفون أين يخبئ الشديد القوي من أرباحه، بل عن مستندات عادية يمكن أن يمتلكها موظفون عاديون في الإدارات المختلفة، ستثبت تربح ترامب وأقاربه وأصدقائه من الوظائف العامة بما يخالف القانون، مثل تلك المستندات التي نشرتها صحيفة (واشنطن بوست) الأسبوع الماضي، وكشفت بها عن قيام منتجع سياحي في ولاية فلوريدا يملكه دونالد ترامب، بتحميل دافعي الضرائب الأمريكيين تكاليف عشاء أقامه ترامب لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي خلال زيارة رسمية للأخير قام بها إلى الولايات المتحدة في إبريل 2018، حيث بلغت تكاليف العشاء الذي لم يستمر أكثر من ساعات ما يزيد على 2 مليون وخمسمائة ألف دولار أمريكي على الأقل، لأن بعض الوكالات الحكومية رفضت الإفصاح عن ما أنفقته في تلك المناسبة، ولك أن تتخيل كم سيكون مجموع المبالغ التي منحها ترامب لنفسه ومنتجعه من أموال دافعي الضرائب، إذا عرفت أن إجمالي الزيارات التي قام بها إلى منتجعاته على نفقة الدولة تجاوزت 280 زيارة خلال وجوده في الرئاسة.
في الوقت نفسه كشفت الـ (واشنطن بوست) عن وثائق تكشف أن مؤسسة ترامب التي تضم كل أنشطته الاستثمارية حصلت دون وجه حق على مبلغ 5 ملايين وستمائة ألف دولار أمريكي من حملته الانتخابية ولجنة جمع التبرعات التابعة للحملة، وهو ما أعقبته الصحيفة بتذكيرها للقارئ أن دونالد ترامب قبل وصوله إلى الرئاسة تعهد بعزل نفسه بشكل كامل عن أنشطته الاستثمارية، قائلاً بالنص: "إذا فزت لن أرى ممتلكاتي أبداً، ربما لا أرى تلك الأماكن مرة ثانية"، وهو تعهد كان الجميع يعلمون أنه مجرد نصباية لا قيمة لها، ومع ذلك يتجدد الأمل لدى البعض في أن يكون للتذكير بذلك التعهد والكشف عن الوثائق التي تخالفه جدوى في ساحات المحاكم التي تنتظر ترامب والعديد من المحيطين به.
كان ترامب قد احتاط لأزمات كهذه منذ الأيام الأولى التي دخل فيها إلى البيت الأبيض، عبر إجراءات عديدة من أبرزها ذلك العدد المهول من التعيينات القضائية الفيدرالية التي قام بها لقضاة محافظين وموالين له، والتي بلغت أضعاف ما قام به باراك أوباما خلال أعوام حكمه الثمانية
كان ترامب قد احتاط لأزمات كهذه منذ الأيام الأولى التي دخل فيها إلى البيت الأبيض، عبر إجراءات عديدة من أبرزها ذلك العدد المهول من التعيينات القضائية الفيدرالية التي قام بها لقضاة محافظين وموالين له، والتي بلغت أضعاف ما قام به باراك أوباما خلال أعوام حكمه الثمانية، لكن تلك التحصينات لن تكون فعالة تماماً لإيقاف ملاحقته قضائياً، بقدر ما سيفيده دعم الحزب الجمهوري الذي سيستغل أغلبيته في مجلس الشيوخ لشل حركة جو بايدن، وهو ما قد يضطر قادة الحزب الديمقراطي لعقد صفقة شبيهة بصفقة إعفاء ريتشارد نيكسون من المحاكمة والسجن عقب فضيحة (ووترجيت)، على أن يتم في المقابل تقليل عدد الخوازيق التي سينصبها الجمهوريون لإدارة بايدن إلى أقصى حد ممكن، يسمح بتمرير حزمة المساعدات اللازمة لإنعاش الاقتصاد الأمريكي المتضرر من تداعيات وباء كورونا، لتبدأ بعد ذلك سلسلة من المعارك التي سيستهدف الجمهوريون فيها العكننة على الديمقراطيين وشل جميع مبادراتهم، لعل ذلك يثمر في تعزيز حالة الانتعاش التي حققها ترامب للحزب الجمهوري، والتي ساهمت في توسيع قواعده الشعبية بشكل ملحوظ، ليستحق وصف المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي له بأنه "أخطر مؤسسة في تاريخ العالم تكرس تاريخها لتدمير البشرية".
....
في البرازيل قامت الأجهزة القضائية بتوجيه اتهامات للسيناتور فلافيو نجل الرئيس البرازيلي جايير بولسانارو بالاختلاس وغسيل الأموال وإدارة أنشطة إجرامية، خلال خدمته كنائب عن مدينة ريو دي جانيرو، حيث كشفت وثائق رسمية عن تلقي النائب البالغ من العمر 39 سنة لمبالغ تصل إلى 470 ألف دولار أمريكي كرشاوى من بعض رجال الأعمال لتسهيل حصولهم على امتيازات، فضلاً عن وجود مخالفات مالية عديدة في حساباته. كما تم توجيه اتهامات مماثلة إلى فابريسيو كويروز ضابط الشرطة السابق والمعروف بكونه منسق أنشطة عائلة بولسانارو المشبوهة، وقد شملت الاتهامات 15 من مساعدي فابريسيو العاملين في خدمة عائلة بولسانارو، والذين تم استخدام أسمائهم للتغطية على الأموال التي تلقاها نجل بولسانارو، مع أنهم لم يقوموا بأي عمل يستحق حصولهم على أي أموال من جيب دافعي الضرائب، والملفت أن زوجة الرئيس البرازيلي السابقة كانت واحدة من أولئك "الموظفين الأشباح" الذين ساهموا في نهب المال العام.
أطرف ما قرأته في سياق الحملة البرازيلية الأخيرة على الفساد، خبر يخص القبض على السيناتور تشيكو رودريجوز أحد أعضاء مجلس النواب بتهمة الفساد والرشوة، وحين قامت الشرطة بمداهمة منزله وتفتيشه، لاحظ الضباط وجود انتفاخ مبالغ فيه في بنطلونه، لكنهم لم يتعاملوا بانبهار أو غِبطة مع ذلك الانتفاخ الذي وصفه أحد الضباط بأنه "مستطيل"، وطلبوا من السيناتور أن يقوم بإخراج ما يخبئه في منطقته الحميمة، ليخرج من ملابسه الداخلية رزماً مالية تصل قيمتها إلى 6 آلاف دولار أمريكي، كانت جزءاً من المبالغ المالية التي اختلسها من المخصصات الحكومية لتعويض المتضررين من وباء كورونا المستجد، لكن النائب المنتفخ أنكر اتهامه بالفساد وقال إنه مستهدف لأنه نجح في جلب معونات لأبناء دائرته لمساعدتهم في مقاومة آثار الوباء، لكنه لم يبرر سر تحويل لباسه إلى خزينة لإيداع بعض تلك المعونات.
....
في العاصمة الكولومبية بوجوتا تظاهر أكثر من ألفي عضو سابق في منظمة (الفارك) الإرهابية التي ألقى أفرادها السلاح في عام 2016 عقب توقيعهم اتفاقية سلام مع الحكومة الكولومبية ينهي حالة من الصراع المسلح الدامي استمرت خمسة عقود، ليتحول أفراد المنظمة إلى العمل السياسي وينشئوا حركة سياسية شرعية، ومع أن تلك الاتفاقية كفلت الحماية لأعضاء المنظمة أياً كانت الجرائم التي تورطوا فيها، إلا أن حوالي 236 عضواً في المنظمة تعرضوا للاغتيال خلال السنوات الأربع الماضية في حوادث اتُّهم بتدبيرها بعض أنصار الميليشيات اليمينية أو زعماء عصابات تجارة المخدرات التي خاضت في الماضي صدامات دامية مع أعضاء منظمة (الفارك) اليسارية التي تورطت لفترة طويلة في تجارة المخدرات لتمويل حربها على الحكومة.
كان العديد من أعضاء (الفارك) قد دعوا إلى تنظيم المظاهرة بعد أن تعرض جوان دي جيسوس مونروي أحد قادة المنظمة البارزين للاغتيال الشهر الماضي، برغم أنه ابتعد تماماً عن العمل السياسي وتفرغ لنشاطه كمزارع في بلدته، وهو ما أثار غضب زملائه الذين شاركوا في المظاهرة، وكان على رأسهم عضو مجلس النواب كارلوس أنتونيو لوزادا الذي نعى رفاقه القتلى الذين لم تقم الحكومة بحمايتهم، مذكراً بأن قيام المنظمة بإلقاء سلاحها جاء بعد ثقتها في قيام الدولة الكولومبية بتنفيذ تعهداتها، وهو ما اعتبره البعض تهديداً يائساً من منظمة لم تعد تملك خيارات غير التظاهر والاحتجاج، في حين طالب آخرون بالتعامل مع الملف بجدية لكي لا تعود البلاد إلى حالة الصراع التي استنزفت طاقتها لأكثر من خمسين سنة، والتي أنهاها اتفاق سلام استبشر به الكثيرون آملين أن يغلق ملفات الماضي الدامية التي يبدو أن إغلاقها لن يكون بتلك السهولة، وهو ما يثبت صحة الحكمة الشعبية التي تؤكد أن "التغيير على وساخة بيجيب تسلخات".
مزيد من التفاصيل
