التجارب بين الشعب والجيش
خلال معارك القنال سنة 1951-1952
على الرغم من أن الجيش لم يشترك في معارك القنال سنة 1951-1952، فإنه كان متجاوبًا مع الشعب في أهدافه وفي كفاحه.
الضباط الأحرار
بدأ هذا التجاوب منذ الحرب العالمية الثانية، فإن صفوة ضباط الجيش كانوا يشعرون في خاصة نفوسهم بما كان يشعر به المواطنون جميعًا، وكانوا يألمون لما كانت تعانيه البلاد من عدوان الاستعمار وفساد نظام الحكم.
ولما انتهت الحرب العالمية الثانية سنة 1954 وهبَّ الشعب يكافح من جديد في سبيل حريته واستقلاله، وسُفكت دماء الشهداء في ميادين الجهاد، ازداد الجيش تجاوبًا مع الشعب، وكان من نتائج هذا التجاوب أن امتنع ضباطه وجنود عن الاشتراك في قمع المظاهرات والحركات الوطنية.
ولما دخل الجيش حرب فلسطين في مايو 1948، كشفت المعارك عما كان يجري من خيانة ورشوة وفساد في إدارة الجيش وتسليحه وتموينه، وتبين أن الجيش لم يزود بالسلاح الكافي بادئ الأمر، ثم زود بأسلحة وذخائر فاسدة عرضت الجنود والضباط للموت والهلاك، واستفزت هذه المآسي في نفوس الضباط روح النقمة على ذلك النظام الذي يعرض الجيش والوطن للويلات والكوارث، فكانت حرب فلسطين هي الشرارة التي ألهبت فيهم جذوة التحرير والثورة.
تعهدت هذه الجذوة فئة من خيرة الضباط، على رأسهم جمال عبد الناصر، فألفوا من بينهم جماعة باسم "الضباط الأحرار" جعلوا هدفهم إنقاذ البلاد بواسطة الجيش والشعب من الانهيار الذي أوصلها إليه الملك السابق والاستعمار.
كانت فكرة هذه الجماعة موجودة خلال الحرب العالمية الثانية على أنها لم تدخل في دور التكوين إلا في حرب فلسطين، وبدأت في التنظيم سنة 1949.
اجتمعت الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار أواخر سنة 1949، وكانت تضم في البداية : البكباشي جمال عبد الناصر، والصاغ عبد الحكيم عامر، والصاغ كمال الدين حسين، والصاغ صلاح سالم، وقائد الجناح جمال سالم، وقائد الأسراب حسن إبراهيم، وقائد الجناح عبد اللطيف البغدادي، والصاغ خالد محي الدين، والبكباشي أنور السادات.
وفي يناير سنة 1950 أجريت الانتخابات لرياسة هذه الهيئة، فانتخب جمال عبد الناصر رئيسًا لها بالإجماع.
وهذه الهيئة هي قوام ثورة 23 يوليو سنة 1952، وصارت فيما بعد مجلس قيادة الثورة.
أخذ الضباط الأحرار يبثون في نفوس إخوانهم عامة روح الثورة، ويضمون إليهم الأنصار تدريجًا، ويطبعون المنشورات السرية بتوقيع (الضباط الأحرار) ويوزعونها على الضباط وعلى المدنيين.
وفي يناير سنة 1951 أجريت انتخابات جديدة لهيئتهم التأسيسية، وأعيد انتخابات جمال عبد الناصر رئيسًا لها وأعيد انتخابه أيضًا للرئاسة في يناير سنة 1952، وفي هذا الاجتماع الأخير اتفقوا على اختيار اللواء محمد نجيب لكي يكون قائدًا للحركة في يوم تنفيذها، وبقي هذا الاختيار سرًا مكتومًا بينهم ولم يفضوا به إلى اللواء محمد نجيب إلا قبيل معركة انتخابات نادي ضباط الجيش التي سيرد الكلام عنها.
ولما قام الكفاح في القنال في أكتوبر سنة 1951 بعد إلغاء المعاهدة، لم يشترك الجيش في المعركة، لأن الظروف لم تكن مواتية لاشتراكه فيها، ولكن بعض ضباط الجيش ساهموا فيها سرًا بتدريب الفدائيين على حرب العصابات وإمدادهم بالسلاح والذخيرة والمفرقعات وبالمساهمة الشخصية فيها.
وأخذت الروح العدائية للملك السابق تنتشر في صفوف الضباط باعتباره المسئول الأول عن فساد إدارة الجيش وتزويده في حرب فلسطين بالأسلحة والذخائر الفاسدة. وظهرت هذه الروح سافرة في ديسمبر سنة 1951 المناسبة انتخابات نادي الضباط.
فقد كان محددًا لاجتماع الجمعية العمومية للنادي يوم الخميس 27 ديسمبر سنة 1951 لانتخاب رئيس النادي وأعضاء مجلس إداراته، وعلمت إدارة الجيش وعلم فاروق بأن الضباط متجهون إلى إبعاد العناصر الموالية له من رياسة النادي وعضوية مجلس الإدارة، وكان فاروق يريد إسناد رياسة النادي إلى صنيعته اللواء حسين سري عامر.
وفي الوقت الذي أخذ فيه الضباط الأعضاء يفدون على دار النادي تلقت إدارته أمرًا من إدارة الجيش بإلغاء الاجتماع وتأجيل الانتخابات لأجل غير مسمى.
على أن الأعضاء كانوا قد توافدوا دون أن يعلموا بهذا الأمر، وبلغ عددهم نحو 350 ضابطًا يمثلون جميع أسلحة الجيش.
وبالرغم من صدور الأمر بإلغاء الاجتماع فإن الضباط قد اجتمعوا وأخذوا مشاورون في الموقف، وخطب بعضهم خطبًا حماسية، وانتهى الرأي بينهم إلى عقد اجتماع آخر للجمعية العمومية حددوا موعده، وتحدوا بذلك أوامر السراي.
وفي أثناء الاجتماع أذيعت أسماء من اتفق الضباط على ترشيحهم لمجلس إدارة النادي، وجميعهم من الضباط الأحرار، فتبين من هذا الترشيح أن الضباط الأحرار يؤيدون من زملائهم جميعًا.
وقد اجتمعت الجمعية العمومية للنادي في الموعد المحدد وحضرها نحو خمسمائة ضابط من مختلف الأسلحة.
وكان اجتماعًا هامًا، تجاوب فيه الجيش مع الشعب، إذ أصدرت الجمعية العمومية قرارًا إجماعيًا بأن الجيش المصري جزء من مصر يشعر بشعور مصر وإحساسها نحو المحتل وأنه دائمًا في خدمة قضية البلاد.
وأسفرت الانتخابات عن نجاح مرشحي الضباط الأحرار، فانتخب اللواء محمد نجيب مدير سلاح المشاة رئيسًا للنادي، وانتخب مجلس إدارته من الضباط الأحرار، وهم : البكباشي زكريا محي الدين، البكباشي محمد رشاد مهنا، البكباشي أحمد حمدي عبيد، البكباشي عبد العزيز الجمل، البكباشي إبراهيم فهمي دعبس، البكباشي أنور عبداللطيف، الأميرالاي عياد إبراهيم الصاغ جمال حماد، البكباشي عبدالرحمن أمين، البكباشي حافظ عاطف، قائد الأسراب حسن إبراهيم، قائد الجناح بهجت مصطفى، الأميرالاي حسن حشمت، اليوزباشي أحمد عبدالغني مرسي، البكباشي جلال ندا.
وسقط في الانتخابات الضباط المعروفون بأنهم صنائع الملك والسراي.
وأخذ الملك وصنائعه يتربصون للضباط الأحرار، ويعملون على الكيد لهم، ويتحدون إدارة النادي، وظهر هذا التحدي سافرًا في شهر يوليه سنة 1952، في عهد وزارة حسين سري القصية المدى، كما سيجيء بيانه، ونشأت لذلك أزمة كانت من العوامل التي عجلت بشبوب ثورة 23 يوليو سنة 1952.
تجنيب الجيش الاحتكاك بالإنجليز
على أن الحكومة والضباط الأحرار قد أحسنوا صنعًا بتجنيب الجيش المصري الاشتباك مع الإنجليز في معركة سافرة أثناء الكفاح في القنال سنة 1951 - 1952، وقد كان الإنجليز يودون هذا الاشتباك، ليستدرجوا الجيش إلى منازلتهم في معركة لم يكن مستعدًا لها، وفي هذه الحالة كانت تستطيع بريطانيا أن تقضي على القوة الناشئة في الجيش المصري، وأن تكسب مركزًا تناله في ميدان القتال، فتزداد تماديًا في اغتصابها، وتزداد مصر ضعفًا أمامها، ولم يكن غائبًا عن الأذهان ما كسبه الإنجليز من انتصارهم على الجيش المصري في معارك الحرب العرابية سنة 1882، ولقد فطنت الحكومة كما فطن الضباط الأحرار إلى هذه الحيلة، فاجتنبوا وقوع اشتباك مسلح بين الجيش والبريطانيين، ووكلوا إلى قوات البوليس مهمة حفظ النظام وحماية أرواح المواطنين في منطقة القنال، ولقد أدى رجال البوليس هذه المهمة على أكمل وجه كما بينا من قبل.
وحاول الإنجليز أن يتخذوا من هذا الموقف وسيلة للوقيعة بين الشعب والجيش، فصرح أنطوني إيدن وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم في شهر ديسمبر سنة 1951 "بأن الجيش المصري هو أشد المصريين حبًا في السلام وأن علاقته بنا هي علاقة الأصدقاء".
ولكن هذه الحيلة لم تخف على فطنة الشعب، فإنه كان يعلم علم اليقين أن الجيش لم يكن صديقًا للاستعمار ولا لأعوان الاستعمار، ولم يكن موقفه في اجتناب الدخول وقتئذ في معارك ضد الجيش البريطاني إلا تلبية لإرادة الشعب في أن لا يدخل حربًا لم يكن مستعدًا لها، ولم يكن من الحكمة أن تتكرر مأساة فلسطين مرة أخرى، تلك المأساة التي نشأت عن دخول مصر الحرب على غير استعداد للقتال، وإذا كانت مأساة فلسطين سنة 1948 محدودة الدائرة لأنها وقعت خارج حدود مصر، فإن المأساة تنقلب إلى كارثة إذا دخل الجيش المصري سنة 1951-1952 في حرب مع الجيش البريطاني في منطقة القنال قبل أن يكتمل استعداده.
"منقول من وكيبيديا الأخوان عن معارك القناة"
......................"
د. يحي ألشاعر