مشروع القرن الذى غير مصير أمة ظلت لقرون خاضعة لإرادة نهر
د/ أحمد السيد النجار
فى عام 2000 عندما اجتاحت العالم موجة من استفتاءات لاختيار أعظم المنجزات فى القرن العشرين، جرى استفتاء فى الولايات المتحدة الأمريكية شاركت فيه الشركات العقارية العملاقة وشركات التصميم الهندسى وشركات بناء السدود، حول أعظم مشروع بنية أساسية فى القرن العشرين وهو بالضرورة الأعظم على مر التاريخ بحكم أن المشروعات الكبرى التى أتاح التقدم العلمى إنشاءها فى القرن العشرين لا تقارن بالمشروعات التى أنشئت قبله.. وكانت نتيجة الاستفتاء هى اختيار سد مصر العالى كأعظم مشروع بنية أساسية فى العالم فى القرن العشرين، بعد منافسة ضارية مع "الإمباير ستيت" أول ناطحة سحاب فى العالم، وسد "بولدر" الأمريكى. ولم يكن الاختيار مبنيا على أن السد العالى معجزة هندسية رغم أن ذلك أمر مسلّم به، ولكنه كان بسبب أن السد غير مصير شعب بأكمله. وهذا الاختيار تاج على رأس زعيم مصر الأسطورى جمال عبدالناصر الذى قاتل بضراوة وبراعة مذهلة فى أحلك الظروف من أجل بناء سد مصر العالى لحماية أمته وتغيير مصيرها من أمة
خاضعة لمشيئة النهر
إلى أمة متحكمة فى مسار النهر.
كانت مصر فى وضع مائى حرج فى عام 1952، حيث تزايدت احتياجاتها المائية بشكل كبير نتيجة زيادة عدد السكان، وأصبحت هناك ضرورة ماسة للقيام بمشروعات كبرى لتخزين مياه الفيضانات لاستخدامها فى موسم انخفاض إيرادات النيل من نوفمبر حتى يونيو من كل عام، ولاستخدامها فى الأعوام التى ينخفض فيها الإيراد المائى للنيل. وطرحت المفاضلة بين إقامة المشروعات فى أعالى النيل فى أوغندا والسودان وإثيوبيا، أو إقامة مشروع جبار لحجز مياه الفيضان وتنظيم جريان النهر فى مصر من خلال إقامة سد عملاق عند أسوان. وقد أجريت الدراسات الفنية والاقتصادية من خلال خبراء وزارة الأشغال العامة والموارد المائية المصرية ومن خلال خبراء البنك الدولى ومن خلال خبراء فى بناء السدود من ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا، وأقرت كل هذه الدراسات بالصلاحية الفنية لإقامة السد العالى عند أسوان، وأقرت أيضا بالجدوى الاقتصادية الهائلة لإقامة هذا السد. وبعد جدل طويل، حسمت حكومة يوليو أمرها باختيار مشروع السد العالى الذى وقف وراءه وبكل قوة زعيم مصر الراحل جمال عبدالناصر الذى كان بالفعل الأب الشرعى للمشروع خاصة بعد أن نجح فى توظيف جماهيريته الأسطورية لتحويل قناعته بمشروع السد العالى إلى اختيار اجتماعى حقيقى بحيث أصبح السد مشروعا شعبيا تعلقت به آمال شعب مصر لمواجهة موجات الجفاف والفيضانات العنيفة والتذبذب الموسمى والتذبذب من عام لآخر فى إيراد النيل.
لكن الشعبية العارمة التى حظى بها السد العالى واستعداد الشعب المصرى لتحمل الصعاب من أجل بنائه، لم تكن كافية لتمويل بنائه الذى ذهبت التقديرات إلى أن تكلفته تبلغ نحو 210 ملايين جنيه مصرى تكلفة إنشاء السد ومحطته الكهرومائية ترتفع إلى 400 مليون جنيه مصرى إذا أضفنا إلى إليها باقى تكاليف المشروع من رى وصرف واستصلاح وإسكان ومرافق وطرق. وإضافة إلى هذه التكاليف هناك الفائدة عليها والتعويضات عن الأراضى التى ستغمرها المياه فى مصر والسودان. وهذه التكاليف الهائلة كان من الصعب على مصر تحملها وحدها، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى البحث عن مصادر خارجية للمساهمة فى تمويل إنشاء سد مصر العالى، وبالذات تمويل استيراد المعدات والآلات اللازمة لتنفيذه.
معركة التمويل:
توجهت مصر إلى دول الغرب والبنك الدولى فى البداية لكنهم بعد مماحكات طويلة رفضوا التمويل وبصورة مهينة لمصر حتى بعد أن قبل الزعيم المصرى الراحل جمال عبدالناصر بالشروط الأمريكية فى اللحظة الأخيرة فى يوليو عام 1956 بما فيها الشرط الذى يحدد مديونية مصر الخارجية ويقيد حريتها فى عقد قروض أخرى أثناء عملية تنفيذ السد العالى.
وكان هذا الموقف من عبدالناصر ينطوى على بعد نظر لأنه كان يريد إبطال آخر حجة أمريكية قد تبرر بها واشنطن والبنك الدولى تخليهما عن المساهمة فى تمويل السد العالى. لكن الولايات المتحدة رفضت تمويل المشروع ونقل وزير الخارجية الأمريكى هذا الرفض إلى السفير المصرى فى الولايات المتحدة فى 19 يوليو 1956 بقوله:
"إن الولايات المتحدة غيرت رأيها فى موضوع السد العالى، وأنها تعتذر الآن عن عدم المضى فى أية مفاوضات تتعلق بتمويل المشروع، وأن أسبابها فى ذلك هى أن بلدًا من أفقر بلدان العالم لا يستطيع أن يتحمل تكاليف مشروع من أكبر المشروعات فيه، ثم إن مياه النيل ليست ملكًا لمصر وحدها، وإنما هناك آخرون على مجرى النهر لهم آراء أخرى وأنه يود إخطاره بأن هذا القرار اتخذ بعد مشاورات بين الرئيس والكونجرس".
ثم أصدرت الخارجية الأمريكية فى 20 يوليو 1956 بيانًا صحفيا أكدت فيه هذا الرفض وأعلنته على العالم كله. وقد جاء فى هذا البيان:
"إن الولايات المتحدة أصبحت مقتنعة بأن الحكومة المصرية ليس فى استطاعتها أن تقدم النقد المحلى اللازم لتمويل السد، لأن تنفيذ هذا المشروع العملاق سوف يفرض على الشعب المصرى تقشفا لمدة تتراوح بين 12 و15 سنة. وأن الشعب المصرى لا يستطيع أن يتحمل ذلك، ثم إن الحكومة الأمريكية ـ لا ترغب فى أن تتحمل مثل هذه المسئولية".
وإزاء هذا الرفض الأمريكى للمشاركة فى تمويل السد العالى بصورة تنطوى على الاستخفاف بمصر وشعبها، لم يتأخر الرد المصرى كثيرًا، إذ ألقى الزعيم المصرى الراحل جمال عبدالناصر خطابه التاريخى فى 26 يوليو 1956 وعرض فيه قصة مشروع السد العالى والتلاعب والابتزاز الأمريكى والغربى، والإهانة التى وجهتها الولايات المتحدة لمصر فى رفضها تمويل المشروع وإعاقتها لتمويل البنك الدولى له، وعرض بالمقابل للعرض السوفيتى (الروسي) لمساعدة مصر فى إنشاء سدها العالى من خلال قروض طويلة الأجل.
الحل البديل
طرح الزعيم الراحل الحل البديل لتمويل السد العالى قائلا: "إن دخل قناة السويس بلغ فى عام 1955 نحو 35 مليون جنيه أى مائة مليون دولار نأخذ منها نحن الذين حفرناها، ومات منا 120 ألفاً أثناء حفرها، مليون جنيه فقط أى ثلاثة ملايين دولار". وأضاف "لقد كانت قناة السويس دولة داخل الدولة.. شركة مساهمة مصرية ولكنها تعتمد على المؤامرات الأجنبية، وتعتمد على الاستعمار وأعوانه. واليوم حينما نستعيد حقنا أقول باسم الشعب: إننا سنحافظ على حقوقنا، وسنعض عليها بالنواجذ، لأننا نعوض ما فات، ولن نبنى صرح العزة، والحرية، والكرامة إلا إذا قضينا على صروح الاستعباد، وقد كانت قناة السويس صرحًا من صروح الاستعباد، والاغتصاب.. والذل.
واليوم أيها المواطنون، أممت قناة السويس.. ونشر هذا القرار فى الجريدة الرسمية، وأصبح هذا القرار أمرًا واقعًا". وكما هو واضح من نص خطاب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فإنه بدأ باختيار الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، كطرف خارجى يمكن أن يساهم فى تمويل السد العالى، وأنه ـ أى عبدالناصر ـ حاول جاهدًا أن يكون هذا التمويل جزءًا من علاقة تعاون فعالة مع الغرب شريطة ألا تمس استقلالية مصر. لكن الدول الغربية التى كانت نظرتها لمصر وللدول النامية عمومًا، نابعة من عقلية وتصورات استعمارية بالية، لم تتقبل فكرة المساهمة فى مشروع عملاق يمكنه إحداث تحول استراتيجى هائل فى علاقة المصريين بنهر النيل العظيم وفى قطاع الزراعة، دون أن تكون مصر دولة تابعة سياسيا واقتصاديا.
ووجد عبدالناصر نفسه أمام أحد خيارين: إما الخضوع لمشيئة الولايات المتحدة وبريطانيا فى وقت كانت الذكريات المريرة للاحتلال البريطانى والنهب الاستعمارى المنظم والمدمر لمصر مازالت حية، وإما البحث عن الاعتماد على الذات بصورة رئيسية فى تمويل السد العالى بالإضافة إلى الاستعانة بمصدر خارجى آخر للتمويل بادر بعرض المساعدة غير المشروطة على مصر وهو الاتحاد السوفيتى السابق.
وكانت الصعوبة فى الاختيار الثانى هو أنه يتضمن العمل على تحقيق زيادة كبيرة فى إيرادات مصر عن طريق استعادة حقوقها المسلوبة فى قناة السويس، وهو أمر كان من المؤكد أنه سيضع العلاقات المتوترة بين الغرب وبين مصر منذ استقلالها وإنهاء الاحتلال البريطانى لها، على طريق المزيد من التصعيد لهذا التوتر. وكدولة بدأت طريق الاستقلال وكانت فى عنفوانها، اختار الزعيم الراحل ومن ورائه شعب مصر العظيم، الطريق الثانى، وأممت مصر قناة السويس. وفى أعقاب هذا التأميم حدث العدوان الثلاثى على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وهو العدوان الذى واجه مقاومة بطولية من الشعب والجيش فى مصر، وتمكنت مصر بصمودها وإصرارها الأسطورى على المقاومة رغم الفارق الهائل فى القوة بينها وبين أعدائها، من حشد تأييد عربى وعالمى هائل لها فى تلك المعركة.
أمة تنهض
كان عميقا فى دلالاته العروبية، قيام الأشقاء السوريين بقطع خط النفط الذى يمر عبر أراضيهم بأمر مباشر من المقدم عبدالحميد سراج قائد المخابرات العسكرية السورية لتكتمل دائرة انقطاع إمدادات نفط الشرق الأوسط عن إنجلترا وفرنسا بعد إغلاق قناة السويس التى كانت المعركة الكبرى تدور عند مدخلها الشمالى فى مدينة بورسعيد الباسلة.
وكم كان المشهد العربى رائعا.. حين عبرت الشعوب العربية الخاضعة للاحتلال أو المقهورة بحكام عملاء وتابعين، عن وقفتها مع مصر بكل أشكال الاحتجاج وبضرب المصالح البريطانية والفرنسية من العراق إلى عدن إلى لبنان إلى المغرب العربى. وكان تقرير السفير البريطانى فى بغداد (مايكل رايت) بليغا فى التعبير عن عظمة الوقفة العربية إلى جانب مصر، إذ ذكر لرئيس وزرائه (أنتونى إيدن): إذا لم يتوقف الهجوم على مصر بسرعة فلن تكون هناك قوة على الأرض قادرة على حماية نظام نورى السعيد فى بغداد لأن مشاعر الشعب العراقى كلها فى حالة نقمة ضد بريطانيا. وأكد أنه "لم ير ظاهرة مثلها من قبل فى تجربته الدبلوماسية.. حقا كانت هناك أمة تنهض من طول سباتها، وكانت معركة سد مصر العالى وتأميم قناة السويس والإدارة الملهمة لهذه المعركة من قبل الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، هى الشرارة التى فجرت بركان هذه الأمة لتهب فى وقفة شجاعة مساندة لمصر ومعبرة عما هو مشترك بين كل الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. وما أحوج أمتنا العربية فى الوقت الراهن لنهوض جديد مشابه لانتفاضتها عام 1956، ولزعامة تستلهم روح وميراث وأحلام الأمة فى قيادتها لمشروعها الحضارى والنهضوى والاستقلالى بدلا من رواد ودعاة التبعية للاستعمار الأمريكى.
ولم يكن المشهد العالمى أقل روعة سواء من التظاهرات العارمة المؤيدة لمصر فى عدد كبير من الدول المستقلة حديثا أو الخاضعة للاستعمار أو من التظاهرات التى شهدتها دول الغرب وبالذات بريطانيا وفرنسا بصورة أكدت أن خيار الحرب العدوانية الفرنسية ـ البريطانية ـ الإسرائيلية ضد مصر، هو خيار الحكومات المعبرة عن الرأسمالية المتطرفة فى عدوانيتها فى تلك البلدان وليس خيار شعوبها. لكن درة ذلك المشهد العالمى، كان الإنذار السوفيتى لكل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل حيث تضمن الإنذار الموجه إلى بريطانيا وفرنسا ضرورة وقف العمليات العسكرية ضد مصر فورًا والانسحاب من الأراضى المصرية دون إبطاء، وتضمن تهديدا صريحا للدولتين عندما نص على أن:
"لندن وباريس ليستا بعيدتين عن مدى الصواريخ النووية السوفيتية". أما الإنذار الموجه إلى إسرائيل فقد اتهمها بأنها "تعبث على نحو إجرامى غير مسئول بمصير العالم وبمصير شعبها وتبذر بذور الكراهية لدولة إسرائيل فيما بين الشعوب الشرقية وهو أمر لابد أن يترك آثاره على مستقبل إسرائيل ويشكك فى وجود إسرائيل ذاته كدولة".
وانتهى الأمر بانسحاب قوات العدوان الثلاثى، واستعادت مصر سيادتها وملكيتها لقناة السويس. وقد أتاح ذلك لمصر قدرة اقتصادية إضافية شكلت عاملا مساعدا على تحمل تكاليف بناء السد العالى. وبدأت مصر فى اتخاذ خطوات جدية بدراسة العرض السوفيتى للمشاركة فى تمويل بناء السد العالى. وبعد مفاوضات قصيرة، وقعت مصر فى 27 ديسمبر عام 1958، اتفاقية القرض السوفيتى لتمويل المرحلة الأولى من إنشاء السد العالى التى تشمل البدء فى إنشائه والارتفاع ببنائه إلى الدرجة التى تكفل تحويل مياهه إلى مجرى جديد يتم إنشاؤه لهذا الغرض مع زيادة التخزين المتاح سنويا.
وقضت الاتفاقية بأن يقدم الاتحاد السوفيتى لمصر قرضا قيمته 400 مليون روبل أى نحو 34.8 مليون جنيه مصرى يستخدم فى استيراد الآلات والمعدات والمهمات التى لا تتوافر فى مصر. وكذلك لتغطية نفقات الأخصائيين والفنيين السوفيت الذين يستعان بهم فى تنفيذ أعمال هذه المرحلة من السد العالى وفقا لما يتفق عليه الطرفان. ويسدد القرض على 12 قسطا سنويا اعتبارًا من عام 1964 بفائدة قدرها 2.5% سنويا. ومع توقيع هذه الاتفاقية أصبح مشروع السد العالى على أعتاب مرحلة جديدة هى تحويله من حلم تاريخى لأمة عظيمة إلى واقع يجسد التحول الاستراتيجى الأكبر فى علاقة الشعب المصرى بنهر النيل الذى استعصى على الترويض الحقيقى حتى ذلك الحين.
مسيرة الاتفاق
ورغم التوترات التى اعترت العلاقة السياسية بين مصر والاتحاد السوفيتى السابق عام 1959 بسبب الهجمة البوليسية الشاملة للسلطات المصرية ضد الشيوعيين فى مصر، إلا أن تلك التوترات لم تؤثر على مسيرة الاتفاق بشأن المشاركة السوفيتية فى تمويل وتصميم وتنفيذ السد العالى.
وفى 15 يناير 1960 عندما أرسل الزعيم السوفيتى نيكيتا خروشوف خطابا إلى الزعيم المصرى جمال عبدالناصر يؤكد فيها استعداد الاتحاد السوفيتى للتعاون مع مصر فى إتمام بناء السد العالى.
وفى 27 أغسطس 1960 تم عقد اتفاقية مشاركة الاتحاد السوفيتى فى تمويل إتمام مشروع السد العالى. وقدمت حكومة الاتحاد السوفيتى بمقتضى تلك الاتفاقية 900 مليون روبل (78 مليون جنيه مصري) وذلك لتغطية تكاليف تصميم المشروع والبحوث والدراسات وتوريد وتركيب البوابات ووحدات التوليد الكهربائية المائية والمعدات اللازمة لمشروعات الرى وإصلاح الأراضى وغيرها.
ونص الاتفاق على أن يتم تسديد القرض على اثنى عشر قسطا سنويا متساويا تبدأ بعد عام من تاريخ إتمام بناء السد العالى فى وضعه النهائى وإتمام محطة القوى الجاهزة لتوليد ما لا يقل عن 1 مليون كيلووات على ألا يتأخر ذلك عن أول يناير 1970. أما الجزء الخاص من القرض الذى يستخدم ابتداء من أول عام 1969 فى إتمام الأجزاء المتبقية من المشروع فيتم سداده بنفس شروط الدفع بعد عام من تاريخ إتمام كافة هذه الأعمال بحيث لا يتأخر ذلك عن أول يناير 1972. وسعر فائدة القرض 2.5% تسرى من تاريخ استخدام كل جزء من القرض على أن تؤدى خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام التالى للعام الذى استحقت فيه.
وبعقد ذلك الاتفاق فى 27 أغسطس 1960 حسمت مصر تماما معركة تمويل بناء سدها العالى وبدأت ملحمة أسطورية لبناء أعظم مشروع فى تاريخها القديم والحديث. ورغم كل الصعوبات ورغم العدوان الإسرائيلى الغادر على مصر عام 1967، أكملت مصر مشروعها العملاق لينهض سدها العالى جبلا يعترض مجرى النيل العظيم ويروضه تماما لأول مرة فى تاريخ النهر الأطول على الكرة الأرضية.
خمسينية اتفاقية النيل : تشييد السد العالي ونتائجه قبل نصف قرن, وبالتحديد في شهر نوفمبر/تشرين ثاني عام1959, تم توقيع الاتفاق التاريخي بين مصر والسودان بشأن بناء السد العالي لتوفير مياه النيل التي تذهب هباء إلى البحر المتوسط في أثناء موسم الفيضان, مع بداية السنة المائية في أول آب/أغسطس من كل عام.
وفي الأيام الأولي من شهر نوفمبر/تشرين ثاني 1959, أعلن الزعيم جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة التوصل إلى اتفاقية النيل, والتي أشرف بنفسه على مفاوضاتها مع الرئيس السوداني الراحل ابراهيم عبود.
وعندما اجتاحت العالم فى عام 2000، موجة من استفتاءات لاختيار أعظم المنجزات فى القرن العشرين، جرى استفتاء فى الولايات المتحدة الأميركية شاركت فيه الشركات العقارية العملاقة وشركات التصميم الهندسى وشركات بناء السدود، حول أعظم مشروع بنية أساسية فى القرن العشرين وهو بالضرورة الأعظم على مر التاريخ بحكم أن المشروعات الكبرى التى أتاح التقدم العلمى إنشاءها فى القرن العشرين لا تقارن بالمشروعات التى أنشئت قبله.. وكانت نتيجة الاستفتاء هى اختيار سد مصر العالى كأعظم مشروع بنية أساسية فى العالم فى القرن العشرين، بعد منافسة ضارية مع "إمباير ستيت" أول ناطحة سحاب فى العالم، وسد "بولدر" الأميركى. ولم يكن الاختيار مبنيا على أن السد العالى معجزة هندسية رغم أن ذلك أمر مسلّم به، ولكنه كان بسبب أن السد غير مصير شعب بأكمله. وهذا الاختيار تاج على رأس زعيم مصر الأسطورى جمال عبدالناصر الذى قاتل بضراوة وبراعة مذهلة فى أحلك الظروف من أجل بناء سد مصر العالى لحماية أمته وتغيير مصيرها من أمة خاضعة لمشيئة النهر إلى أمة متحكمة فى مسار النهر.
كانت مصر فى وضع مائى حرج فى عام 1952، حيث تزايدت احتياجاتها المائية بشكل كبير نتيجة زيادة عدد السكان، وأصبحت هناك ضرورة ماسة للقيام بمشروعات كبرى لتخزين مياه الفيضانات لاستخدامها فى موسم انخفاض إيرادات النيل من نوفمبر/تشرين الثاني حتى يونيو/حزيران من كل عام، ولاستخدامها فى الأعوام التى ينخفض فيها الإيراد المائى للنيل. وطرحت المفاضلة بين إقامة المشروعات فى أعالى النيل فى أوغندا والسودان وإثيوبيا، أو إقامة مشروع جبار لحجز مياه الفيضان وتنظيم جريان النهر فى مصر من خلال إقامة سد عملاق عند أسوان. وقد أجريت الدراسات الفنية والاقتصادية من خلال خبراء وزارة الأشغال العامة والموارد المائية المصرية ومن خلال خبراء البنك الدولى ومن خلال خبراء فى بناء السدود من ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا، وأقرت كل هذه الدراسات بالصلاحية الفنية لإقامة السد العالى عند أسوان، وأقرت أيضا بالجدوى الاقتصادية الهائلة لإقامة هذا السد. وبعد جدل طويل، حسمت حكومة يوليو/تموز أمرها باختيار مشروع السد العالى الذى وقف وراءه وبكل قوة زعيم مصر الراحل جمال عبدالناصر الذى كان بالفعل الأب الشرعى للمشروع خاصة بعد أن نجح فى توظيف جماهيريته الأسطورية لتحويل قناعته بمشروع السد العالى إلى اختيار اجتماعى حقيقى بحيث أصبح السد مشروعا شعبيا تعلقت به آمال شعب مصر لمواجهة موجات الجفاف والفيضانات العنيفة والتذبذب الموسمى والتذبذب من عام لآخر فى إيراد النيل.
لكن الشعبية العارمة التى حظى بها السد العالى واستعداد الشعب المصرى لتحمل الصعاب من أجل بنائه، لم تكن كافية لتمويل بنائه الذى ذهبت التقديرات إلى أن تكلفته تبلغ نحو 210 ملايين جنيه مصرى تكلفة إنشاء السد ومحطته الكهرومائية ترتفع إلى 400 مليون جنيه مصرى إذا أضفنا إلى إلى ها باقى تك إلى ف المشروع من رى وصرف واستصلاح وإسكان ومرافق وطرق. وإضافة إلى هذه التكاليف هناك الفائدة عليها والتعويضات عن الأراضى التى ستغمرها المياه فى مصر والسودان. وهذه التكاليف الهائلة كان من الصعب على مصر تحملها وحدها، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى البحث عن مصادر خارجية للمساهمة فى تمويل إنشاء سد مصر العالى، وبالذات تمويل استيراد المعدات والآلات اللازمة لتنفيذه.
معركة التمويل
توجهت مصر إلى دول الغرب والبنك الدولى فى البداية لكنهم بعد مماحكات طويلة رفضوا التمويل وبصورة مهينة لمصر حتى بعد أن قبل الزعيم المصرى الراحل جمال عبدالناصر بالشروط الأميركية فى اللحظة الأخيرة فى يوليو/تموز عام 1956 بما فيها الشرط الذى يحدد مديونية مصر الخارجية ويقيد حريتها فى عقد قروض أخرى أثناء عملية تنفيذ السد العالى.
وكان هذا الموقف من عبدالناصر ينطوى على بعد نظر لأنه كان يريد إبطال آخر حجة أميركية قد تبرر بها واشنطن والبنك الدولى تخليهما عن المساهمة فى تمويل السد العالى. لكن الولايات المتحدة رفضت تمويل المشروع ونقل وزير الخارجية الأمريكى هذا الرفض إلى السفير المصرى فى الولايات المتحدة فى 19 يوليو 1956 بقوله:
"إن الولايات المتحدة غيرت رأيها فى موضوع السد العالى، وأنها تعتذر الآن عن عدم المضى فى أية مفاوضات تتعلق بتمويل المشروع، وأن أسبابها فى ذلك هى أن بلدًا من أفقر بلدان العالم لا يستطيع أن يتحمل تكاليف مشروع من أكبر المشروعات فيه، ثم إن مياه النيل ليست ملكًا لمصر وحدها، وإنما هناك آخرون على مجرى النهر لهم آراء أخرى وأنه يود إخطاره بأن هذا القرار اتخذ بعد مشاورات بين الرئيس والكونغرس".
ثم أصدرت الخارجية الأميركية فى 20 يوليو/تموز 1956 بيانًا صحفيا أكدت فيه هذا الرفض وأعلنته على العالم كله. وقد جاء فى هذا البيان:
"إن الولايات المتحدة أصبحت مقتنعة بأن الحكومة المصرية ليس فى استطاعتها أن تقدم النقد المحلى اللازم لتمويل السد، لأن تنفيذ هذا المشروع العملاق سوف يفرض على الشعب المصرى تقشفا لمدة تتراوح بين 12 و15 سنة. وأن الشعب المصرى لا يستطيع أن يتحمل ذلك، ثم إن الحكومة الأميركية ـ لا ترغب فى أن تتحمل مثل هذه المسئولية" .
وإزاء هذا الرفض الأميركى للمشاركة فى تمويل السد العالى بصورة تنطوى على الاستخفاف بمصر وشعبها، لم يتأخر الرد المصرى كثيرًا، إذ ألقى الزعيم المصرى الراحل جمال عبدالناصر خطابه التاريخى فى 26 يوليو/تموز 1956 وعرض فيه قصة مشروع السد العالى والتلاعب والابتزاز الأميركى والغربى، والإهانة التى وجهتها الولايات المتحدة لمصر فى رفضها تمويل المشروع وإعاقتها لتمويل البنك الدولى له، وعرض بالمقابل للعرض السوفيتى (الروسي) لمساعدة مصر فى إنشاء سدها العالى من خلال قروض طويلة الأجل.
الحل البديل
طرح الزعيم الراحل الحل البديل لتمويل السد العالى قائلا: "إن دخل قناة السويس بلغ فى عام 1955 نحو 35 مليون جنيه أى مائة مليون دولار نأخذ منها نحن الذين حفرناها، ومات منا 120 ألفاً أثناء حفرها، مليون جنيه فقط أى ثلاثة ملايين دولار" .وأضاف "لقد كانت قناة السويس دولة داخل الدولة.. شركة مساهمة مصرية ولكنها تعتمد على المؤامرات الأجنبية، وتعتمد على الاستعمار وأعوانه. واليومحينما نستعيد حقنا أقول باسم الشعب: إننا سنحافظ على حقوقنا، وسنعض عليها بالنواجذ، لأننا نعوض ما فات، ولن نبنى صرح العزة، والحرية، والكرامة إلا إذا قضينا على صروح الاستعباد، وقد كانت قناة السويس صرحًا من صروح الاستعباد، والاغتصاب.. والذل.
واليوم أيها المواطنون، أممت قناة السويس.. ونشر هذا القرار فى الجريدة الرسمية، وأصبح هذا القرار أمرًا واقعًا". وكما هو واضح من نص خطاب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فإنه بدأ باختيار الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، كطرف خارجى يمكن أن يساهم فى تمويل السد العالى، وأنه ـ أى عبدالناصر ـ حاول جاهدًا أن يكون هذا التمويل جزءًا من علاقة تعاون فعالة مع الغرب شريطة ألا تمس استقل إلى ة مصر. لكن الدول الغربية التى كانت نظرتها لمصر وللدول النامية عمومًا، نابعة من عقلية وتصورات استعمارية بالية، لم تتقبل فكرة المساهمة فى مشروع عملاق يمكنه إحداث تحول استراتيجى هائل فى علاقة المصريين بنهر النيل العظيم وفى قطاع الزراعة، دون أن تكون مصر دولة تابعة سياسيا واقتصاديا.
ووجد عبدالناصر نفسه أمام أحد خيارين: إما الخضوع لمشيئة الولايات المتحدة وبريطانيا فى وقت كانت الذكريات المريرة للاحتلال البريطانى والنهب الاستعمارى المنظم والمدمر لمصر مازالت حية، وإما البحث عن الاعتماد على الذات بصورة رئيسية فى تمويل السد العالى بالإضافة إلى الاستعانة بمصدر خارجى آخر للتمويل بادر بعرض المساعدة غير المشروطة على مصر وهو الاتحاد السوفيتى السابق.
وكانت الصعوبة فى الاختيار الثانى هو أنه يتضمن العمل على تحقيق زيادة كبيرة فى إيرادات مصر عن طريق استعادة حقوقها المسلوبة فى قناة السويس، وهو أمر كان من المؤكد أنه سيضع العلاقات المتوترة بين الغرب وبين مصر منذ استقلالها وإنهاء الاحتلال البريطانى لها، على طريق المزيد من التصعيد لهذا التوتر. وكدولة بدأت طريق الاستقلال وكانت فى عنفوانها، اختار الزعيم الراحل ومن ورائه شعب مصر العظيم، الطريق الثانى، وأممت مصر قناة السويس. وفى أعقاب هذا التأميم حدث العدوان الثلاثى على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وهو العدوان الذى واجه مقاومة بطولية من الشعب والجيش فى مصر، وتمكنت مصر بصمودها وإصرارها الأسطورى على المقاومة رغم الفارق الهائل فى القوة بينها وبين أعدائها، من حشد تأييد عربى وعالمى هائل لها فى تلك المعركة.
أمة تنهض
كان عميقا فى دلالاته العربية، قيام الأشقاء السوريين بقطع خط النفط الذى يمر عبر أراضيهم بأمر مباشر من المقدم عبدالحميد سراج قائد المخابرات العسكرية السورية لتكتمل دائرة انقطاع إمدادات نفط الشرق الأوسط عن إنجلترا وفرنسا بعد إغلاق قناة السويس التى كانت المعركة الكبرى تدور عند مدخلها الشمالى فى مدينة بورسعيد الباسلة.
وكم كان المشهد العربى رائعا.. حين عبرت الشعوب العربية الخاضعة للاحتلال أو المقهورة بحكام عملاء وتابعين، عن وقفتها مع مصر بكل أشكال الاحتجاج وبضرب المصالح البريطانية والفرنسية من العراق إلى عدن إلى لبنان إلى المغرب العربى. وكان تقرير السفير البريطانى فى بغداد (مايكل رايت) بليغا فى التعبير عن عظمة الوقفة العربية إلى جانب مصر، إذ ذكر لرئيس وزرائه (أنتونى إيدن): إذا لم يتوقف الهجوم على مصر بسرعة فلن تكون هناك قوة على الأرض قادرة على حماية نظام نورى السعيد فى بغداد لأن مشاعر الشعب العراقى كلها فى حالة نقمة ضد بريطانيا. وأكد أنه "لم ير ظاهرة مثلها من قبل فى تجربته الدبلوماسية.. حقا كانت هناك أمة تنهض من طول سباتها، وكانت معركة سد مصر العالى وتأميم قناة السويس والإدارة الملهمة لهذه المعركة من قبل الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، هى الشرارة التى فجرت بركان هذه الأمة لتهب فى وقفة شجاعة مساندة لمصر ومعبرة عما هو مشترك بين كل الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. وما أحوج أمتنا العربية فى الوقت الراهن لنهوض جديد مشابه لانتفاضتها عام 1956، ولزعامة تستلهم روح وميراث وأحلام الأمة فى قيادتها لمشروعها الحضارى والنهضوى والاستقلالى بدلا من رواد ودعاة التبعية للاستعمار الأمريكى.
ولم يكن المشهد العالمى أقل روعة سواء من التظاهرات العارمة المؤيدة لمصر فى عدد كبير من الدول المستقلة حديثا أو الخاضعة للاستعمار أو من التظاهرات التى شهدتها دول الغرب وبالذات بريطانيا وفرنسا بصورة أكدت أن خيار الحرب العدوانية الفرنسية ـ البريطانية ـ الإسرائيلية ضد مصر، هو خيار الحكومات المعبرة عن الرأسم إلى ة المتطرفة فى عدوانيتها فى تلك البلدان وليس خيار شعوبها. لكن درة ذلك المشهد العالمى، كان الإنذار السوفيتى لكل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل حيث تضمن الإنذار الموجه إلى بريطانيا وفرنسا ضرورة وقف العمليات العسكرية ضد مصر فورًا والانسحاب من الأراضى المصرية دون إبطاء، وتضمن تهديدا صريحا للدولتين عندما نص على أن:
"لندن وباريس ليستا بعيدتين عن مدى الصواريخ النووية السوفيتية". أما الإنذار الموجه إلى إسرائيل فقد اتهمها بأنها "تعبث على نحو إجرامى غير مسئول بمصير العالم وبمصير شعبها وتبذر بذور الكراهية لدولة إسرائيل فيما بين الشعوب الشرقية وهو أمر لابد أن يترك آثاره على مستقبل إسرائيل ويشكك فى وجود إسرائيل ذاته كدولة".
وانتهى الأمر بانسحاب قوات العدوان الثلاثى، واستعادت مصر سيادتها وملكيتها لقناة السويس. وقد أتاح ذلك لمصر قدرة اقتصادية إضافية شكلت عاملا مساعدا على تحمل تك إلى ف بناء السد العالى. وبدأت مصر فى اتخاذ خطوات جدية بدراسة العرض السوفيتى للمشاركة فى تمويل بناء السد العالى. وبعد مفاوضات قصيرة، وقعت مصر فى 27 ديسمبر/كانون الأول عام 1958، اتفاقية القرض السوفيتى لتمويل المرحلة الأولى من إنشاء السد العالى التى تشمل البدء فى إنشائه والارتفاع ببنائه إلى الدرجة التى تكفل تحويل مياهه إلى مجرى جديد يتم إنشاؤه لهذا الغرض مع زيادة التخزين المتاح سنويا.
وقضت الاتفاقية بأن يقدم الاتحاد السوفيتى لمصر قرضا قيمته 400 مليون روبل أى نحو 34.8 مليون جنيه مصرى يستخدم فى استيراد الآلات والمعدات والمهمات التى لا تتوافر فى مصر. وكذلك لتغطية نفقات الأخصائيين والفنيين السوفيت الذين يستعان بهم فى تنفيذ أعمال هذه المرحلة من السد العالى وفقا لما يتفق عليه الطرفان. ويسدد القرض على 12 قسطا سنويا اعتبارًا من عام 1964 بفائدة قدرها 2.5 في المئة سنويا. ومع توقيع هذه الاتفاقية أصبح مشروع السد العالى على أعتاب مرحلة جديدة هى تحويله من حلم تاريخى لأمة عظيمة إلى واقع يجسد التحول الاستراتيجى الأكبر فى علاقة الشعب المصرى بنهر النيل الذى استعصى على الترويض الحقيقى حتى ذلك الحين.
مسيرة الاتفاق
ورغم التوترات التى اعترت العلاقة السياسية بين مصر والاتحاد السوفيتى السابق عام 1959 بسبب الهجمة البوليسية الشاملة للسلطات المصرية ضد الشيوعيين فى مصر، إلا أن تلك التوترات لم تؤثر على مسيرة الاتفاق بشأن المشاركة السوفيتية فى تمويل وتصميم وتنفيذ السد العالى.
وفى 15 يناير/كانون الثاني 1960 عندما أرسل الزعيم السوفيتى نيكيتا خروتشوف خطابا إلى الزعيم المصرى جمال عبدالناصر يؤكد فيها استعداد الاتحاد السوفيتى للتعاون مع مصر فى إتمام بناء السد العالى.
وفى 27 أغسطس/آب 1960 تم عقد اتفاقية مشاركة الاتحاد السوفيتى فى تمويل إتمام مشروع السد العالى.
وقدمت حكومة الاتحاد السوفيتى بمقتضى تلك الاتفاقية 900 مليون روبل (78 مليون جنيه مصري) وذلك لتغطية تك إلى ف تصميم المشروع والبحوث والدراسات وتوريد وتركيب البوابات ووحدات التوليد الكهربائية المائية والمعدات اللازمة لمشروعات الرى وإصلاح الأراضى وغيرها.
ونص الاتفاق على أن يتم تسديد القرض على اثنى عشر قسطا سنويا متساويا تبدأ بعد عام من تاريخ إتمام بناء السد العالى فى وضعه النهائى وإتمام محطة القوى الجاهزة لتوليد ما لا يقل عن 1 مليون كيلووات على ألا يتأخر ذلك عن أول يناير/كانون الثاني 1970. أما الجزء الخاص من القرض الذى يستخدم ابتداء من أول عام 1969 فى إتمام الأجزاء المتبقية من المشروع فيتم سداده بنفس شروط الدفع بعد عام من تاريخ إتمام كافة هذه الأعمال بحيث لا يتأخر ذلك عن أول يناير/كانون الثاني 1972. وسعر فائدة القرض 2.5في المئة تسرى من تاريخ استخدام كل جزء من القرض على أن تؤدى خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام التالى للعام الذى استحقت فيه.
وبعقد ذلك الاتفاق فى 27 أغسطس/آب 1960 حسمت مصر تماما معركة تمويل بناء سدها العالى وبدأت ملحمة أسطورية لبناء أعظم مشروع فى تاريخها القديم والحديث. ورغم كل الصعوبات ورغم العدوان الإسرائيلى الغادر على مصر عام 1967، أكملت مصر مشروعها العملاق لينهض سدها العالى جبلا يعترض مجرى النيل العظيم ويروضه تماما لأول مرة فى تاريخ النهر الأطول على الكرة الأرضية.
وفر هذا المشروع العملاق نحو 19 مليار متر مكعب من المياه عند أسوان بعد خصم الفواقد بالتبخر وأتاح نصيب مصر من هذه المياه، زيادة الرقعة المنزرعة بنحو 1.3 مليون فدان. كما أدى إلى تحويل رى الحياض فى مساحة 670 ألف فدان إلى نظام الرى المستديم. كما أدى لرفع إنتاجية المحاصيل الزراعية من خلال تحسين حالة الصرف وضمان مياه الرى فى الأوقات الملائمة للمحاصيل. كما يتم توليد نحو 1.4 مليون كيلووات/ساعة من المحطة الكهربائية التى أنشئت على السد العالى بتكلفة تقل كثيرًا عن تكلفة محطة حرارية واحدة. كما تم تحسين الملاحة فى النيل سواء لنقل البضائع أو لنقل السياح فى رحلاتهم النيلية. كما أدى إلى حماية مصر من أخطار الفيضانات المدمرة التى كان يتم تخصيص نحو 100 ألف مهندس وعامل لمواجهتها خلال شهور الفيضان.
وبالرغم من ضخامة الفوائد الاقتصادية والاجتماعية التى جنتها مصر من وراء السد العالى، إلا أن دوره فى حماية مصر من دورات الجفاف الرهيبة يعد بحق المأثرة التاريخية للسد العالى بالنظر إلى الآثار المرعبة لدورات الجفاف على مصر بشرًا وزرعًا وضرعًا.
وقد بدأ السد العالى دوره فى حماية مصر من الجفاف فى العام المائى الثانى بعد اكتمال بنائه أى فى العام المائى 72 / 1973 حيث بلغ إجمالى إيراد النيل عند أسوان فى عام 1972 نحو 69.9 مليار متر مكعب حسب أعلى التقديرات بما يقل بنحو 14.1 مليار متر مكعب عن متوسط الإيراد السنوى للنيل عند أسوان، وبلغ الإيراد وفقا لأقل التقديرات نحو 58 مليار متر مكعب أى ما يقل بنحو 26 مليار متر مكعب عن متوسط الإيراد السنوى للنهر عند أسوان. ويقدر د. عبدالعظيم أبو العطا الخسائر التى مكن السد مصر من تجنبها فى ذلك العام بنحو 250 مليون جنيه. فضلا عن تلافى الصعوبات التى كان القائمون على تشغيل الخزانات السنوية فى ملء هذه الخزانات لسعتها الكاملة نظرًا لانخفاض التصرفات فجأة فى فيضان عام 1972 على سبيل المثال. وإذا كان انخفاض إيراد النيل قد حدث لمدة عام مائى واحد فى 1972/1973 فإنه بدءًا من العام المائى 1978/1979 شهد النيل انخفاضا مستمرًا فى إيراده السنوى عن المتوسط المعتاد لذلك الإيراد. وحسب بعض التقديرات فإن العام المائى 83/1984 شهد أقل إيراد مائى لنهر النيل عند أسوان منذ متابعة ذلك الإيراد. حيث بلغ الإيراد فى ذلك العام نحو 34.8 مليار متر مكعب، بما يقل بنحو 10.8 مليار متر مكعب عن إيراد عام 1913 الذى بلغ نحو 45.6 مليار متر مكعب والذى كان أقل إيراد مسجل للنهر فى أسوان منذ بدء تسجيل الإيرادات السنوية له.
ورغم أن تقديرات وزارة الرى المصرية تختلف كثيرًا عن التقدير المذكور أعلاه لإيراد النيل عام 83/1984 إلا أن ذلك لا ينفى أن إيراد النيل فى ذلك العام كان من أدنى الإيرادات المائية التى حملها النيل لمصر فى تاريخه المعروف. وعلى أى حال فإن السنوات العجاف التى بدأت فى العام 1979 قد استمرت حتى العام 1987. أى لمدة تسع سنوات كاملة قبل أن يأتى الفرج مع الفيضان العالى الذى شهدته مصر فى العام 1988.
وخلال سنوات الجمر من عام 1979 إلى عام 1987 لعب السد العالى أعظم أدواره فى حماية مصر من جفاف كان من الممكن ألا يبقى ولا يذر لو لم يكن السد العالى قد بنى. وبالنظر إلى أن مخزون البحيرة كان 133 مليار متر مكعب عند مستوى 177.75 متر عام 1979، انخفضت إلى 125 مليار متر مكعب عام 80/1981 ثم واصل المخزون انخفاضه مع السحب حتى بلغ نحو 37 مليار متر مكعب عند منسوب 149.4 متر فوق مستوى البحر عام 1988 قبل بدء الفيضان فى يوليو/ تموز، ونظرا لأن التخزين حتى منسوب 147 مترا توازى نحو 31.6 متر مكعب يعتبر تخزين ميت مخصص لاستيعاب ترسيب الطمى فى البحيرة على مدى 500 عام فإن المخزون الحى للبحيرة قد وصل إلى نحو 5.4 مليار متر مكعب فقط قبل أن يأتى الغوث فى الفيضان العالى الذى حدث فى صيف العام 1988 والذى رفع منسوب بحيرة ناصر إلى نحو 168 مترا توازى مخزون قدره 89.2 مليار متر مكعب منها 31 مليار متر مكعب مخزون ميت ليبقى نحو 58.2 مليار متر مكعب مخزون حى.
المهم هنا أن مصر سحبت من مخزون بحيرة ناصر نحو 4 مليارات متر مكعب من المياه بين عامى 1976، 1980 ثم سحبت نحو 88 مليار متر مكعب من مخزون البحيرة فيما بين عام 1981 إلى عام 1988 أى بمعدل 11 مليار متر مكعب سنويا ولنا أن نتصور حال الزراعة والصناعة فى مصر لو لم يكن السد موجودًا يوفر لمصر من مخزون بحيرته هذا الكم الهائل من المياه على مدى سنوات الجمر التى اكتوت بها بلدان منابع النيل بينما لم نعان منها بفضل سدنا العالى ومخزون بحيرة ناصر.
وحتى ندرك مدى ما كانت تعانى منه مصر فى سنوات الجفاف سوف نستعيد الذكريات المفزعة لبعض المجاعات التى سببها انخفاض إيراد النيل...
يقول المقريزي: ثم وقع الغلاء فى الدولة الأيوبية وسلطنة العادل أبى بكر بن أيوب وكان سببه توقف النيل عن الزيادة وقصوره عن العادة، فانتهت الزيادة إلى اثنى عشر ذراعا، وأصابع، فتكاثر مجيء الناس من القرى إلى القاهرة من الجوع، ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بنى آدم من الجوع، وفى آخر الربيع احترق ماء النيل فى برموده حتى صار المقياس فى بر مصر، وانحسر الماء منه إلى بر الجيزة، وتغير طعم الماء وريحه، ثم أخذ الماء فى الزيادة قليلا قليلا إلى السادس عشر من مسرى فزاد أصبعًا واحدًا، ثم وقف أياما، وأخذ فى زيادة قوية أكثرها ذراع إلى أن بلغ خمسة عشر ذراعا وست عشرة إصبعا، ثم انحط من يومه، فلم تنتفع به البلاد بسرعة نزوله. وكان أهل القرى قد فنوا، حتى إن القرية التى كان فيها خمسمائة نفس لم يتأخر بها سوى اثنين أو ثلاثة.
ويضيف المقريزي: واستمر النيل ثلاث سنين متو إلى ة لم يطلع منه إلا القليل، فبلغ الإردب من القمح إلى ثمانية دنانير، وأطلق العادل للفقراء شيئا من الغلال، وقسم الفقراء على أرباب الأموال، وأخذ منهم اثنى عشر ألف نفس وجعلهم فى مناخ القصر وأفاض عليهم القوت، وكذلك فعل جميع الأمراء وأرباب السعة والثراء، وكان الواحد من أهل الفاقة إذا امتلأ بطنه بالطعام بعد طول الطوى سقط ميتا فيدفن منهم كل يوم العدة الوافرة، حتى إن العادل قام فى مدة يسيرة بمواراة نحو مائتى ألف وعشرين ألف ميت، وتعطلت الصنائع وتلاشت الأحوال، وفنيت الأقوات والنفوس حتى قيل: سنة سبع افترست أسباب الحياة، فلما أغاث الله الخلق بالنيل لم يوجد أحد يحرث أو يزرع.
وهذه المآسى المروعة التى رواها المقريزى عن المجاعة والتى اختصرنا الكثير منها تسبب فيها انخفاض إيراد النيل المتحكم فى حياة البشر فى مصر فى الماضى. أما فى ظل الزيادة الهائلة فى عدد سكان مصر فى الوقت الراهن فإن جفافا كبيرا مثل ذلك الذى حدث لمنابع النيل طوال الفترة من العام 1979 حتى العام المائى1988. كان كفيلا بإحداث مآس مروعة تحصد أرواح مئات الآلاف وربما الملايين من المصريين وتماثل المآسى التى وقعت لبلدان منابع النيل طوال الثمانينات وبصفة خاصة إثيوبيا وأوغندا، والفضل فى ذلك يرجع إلى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذى وقف بكل قواه وقاد مصر فى ظروف عصيبة فى مواجهة أعتى قوى البغى والتسلط الاستعمارى من أجل إنجاز مشروع السد العالى الذى كفل الأمن المائى والحياتى والغذائى لمصر بما اختزنه من مياه فى بحيرة ناصر، اعتمدت عليها مصر فى سنوات الجمر فمرت بردًا وسلامًا على مصر وشعبها إلى أن جاءت الإغاثة مع فيضان عام 1988.
ورغم وجود بعض الآثار الجانبية للسد العالى مثل الإطماء فى بحيرة ناصر، فإنه يمكن تحويله لأثر إيجابى باستخدام الطمى المتراكم فى البحيرة كتربة شديدة الخصوبة تغطى بها أراضى الاستصلاح، أو يصنع منها الطوب الأحمر. أما النحر الناتج عن سرعة جريان المياه الخ إلى ة من عوالق الطمى، فإنه يمكن معالجتها من خلال تبطين منحنيات النهر والترع ودعم بغال الكبارى، وتك إلى فها جميعا لا تساوى شيئا بالمقارنة مع فوائد السد العالى. أما تبخر المياه من مسطح بحيرة ناصر والذى ثبت أنه يقل عن 10 مليارات متر مكعب سنويا، فإنه كان محسوبا بدقة عند إنشاء السد الذى يوفر بعد ذلك كميات ضخمة من مياه الفيضان كما أشرنا آنفا.
كذلك فإن إنشاء السد العالى أدى لتفاقم مشكلة ارتفاع مستوى المياه الجوفية والملوحة فى بعض الأوقات.
وكان العديد من المختصين يرجعون هذه المشكلة الموجودة قبل بناء السد العالى إلى ارتفاع منسوب المياه فى النيل فى فترة الفيضان، ومع إنشاء السد العالى واستقرار منسوب المياه فى النيل على مدار العام عند مستوى أعلى من المتوسط السنوى لمنسوب المياه فى النيل قبل إقامة السد العالى ولكنه أقل كثيرا من منسوب المياه فى فترة الفيضان.. مع هذا الوضع الجديد ساهم السد العالى فى ارتفاع منسوب المياه الجوفية، وأيضا بسبب إدخال مياه الشرب لكل القرى دون أن تكون لديها شبكة للصرف الصحى حيث يتم الصرف عبر خزانات أرضية تساهم فى رفع مستوى المياه الجوفية، وليست القرى فحسب التى لا توجد فيها شبكة صرف صحى، وإنما يوجد الكثير من الامتدادات العمرانية العشوائية فى المدن الكبرى وبخاصة القاهرة والإسكندرية التى لا توجد بها مجارى وبالتالى يتم الصرف الصحى عبر خزانات أرضية فى تلك الأحياء تساهم فى رفع مستوى المياه الجوفية.
وبالرغم من الآثار السلبية التى يؤدى إلى ها ارتفاع منسوب المياه الجوفية مثل تطبيل الأراضى الزراعية إلا أنها ليست مشكلة بلا حل، فهناك الكثير من السبل لمعالجتها مثل ترشيد استخدام مياه الرى وزيادة مشروعات الصرف المكشوف والمغطى لسحب تلك المياه الجوفية وتخليص الأراضى الزراعية من آثارها السلبية وإعادة معالجتها للاستفادة منها كلما كان ذلك ممكنا. كما أن تطوير شبكة الصرف الصحى ومدها إلى كل مكان فى مصر يمكن أن يساهم فى تحسين نوعية المياه الجوفية وتقليل آثارها السلبية على الأراضى الزراعية.
كذلك فإن بناء السد العالى وتناقص كمية المياه التى تذهب للبحر فضلا عن خلوها من الغالبية الساحقة من الطمى الذى كانت تحمله قبل بناء السد العالى، أدى إلى زيادة نحر الشواطئ فى المناطق القريبة من مصبى نهر النيل فى البحر المتوسط عند رشيد ودمياط. وقد استدعى ذلك تدعيم الشواطئ فى تلك المناطق بكتل خرسانية لحمايتها، وربما يحتاج الأمر لمزيد من الدراسات والجهود لمواجهة هذه المشكلة. ولكننا نود أن نشير إلى أن البعض يضخم من هذه المشكلة بصورة غير واقعية. وعلى سبيل المثال أعلن أحد علماء البيئة الأميركيين ويدعى ديفيد أوبروى ـ يهودى ـ عام 1990، أن أجزاء من دلتا النيل تتآكل بشكل منتظم وأن ربع منطقة الدلتا ستجرفها مياه البحر مع حلول عام 2100 وذلك بسبب نحر البحر إلى جانب قلة الرواسب نتيجة بناء السد العالى وهو نفس ما يحدث فى دلتا الميسيسبى بالولايات المتحدة الأميركية بمعدل تآكل يصل إلى 1.5 سنتيمتر سنويا.
وبالرغم من مشكلة نحر مياه البحر المتوسط لبعض شواطئ الدلتا وبخاصة قرب رشيد ودمياط إلا أن تنبؤات العالم الأميركى متشائمة ولا تستند لأى براهين موضوعية لأن معنى ما يقوله هو أن البحر سيلتهم نحو 30 كيلومترا بعمق الدلتا من الآن وحتى 2100 أى بمعدل يزيد على 250 مترا فى العام، وهذا التقدير فى الحقيقة لا يتوافق مع ما يحدث فى الواقع فعليا حيث لا يزيد النحر على سنتيمتر أو عدة سنتيمترات فى بعض المناطق، وهو عموما تقدير ينطوى على درجة ع إلى ة من المبالغة والعبث ربما يكون وراءها أى أغراض لكنها لا تمت للعلم بصلة فى تقديرى.
وربما كان غرق قرى ومناطق النوبة وتعرض بعض آثارها للانغمار بمياه بحيرة ناصر قبل إنقاذ تلك الآثار هو أسوأ الآثار الجانبية للسد العالى. وقد ذكرنا سابقا أن إقامة السد العالى فى موقعه الذى أقيم به مما أدى لغرق قرى ومناطق النوبة القديمة لم يكن اختيارًا بقدر ما كان ضرورة نظرا لأنه أنسب المواقع لإقامة السد العالى كما أثبتت الدراسات العلمية للمنطقة من أسوان وحتى حدود السودان الشقيق. ورغم أن غرق قرى وأراضى النوبة القديمة قد خلق بعض المرارات لدى أبناء مصر الذين كانوا يعيشون فيها إلا أن ذلك كان ضرورة لحماية مصر وشعبها بما فيه النوبيون من مخاطر الفيضان والجفاف، وكان ضرورة للاستفادة من النتائج الاقتصادية الهائل للمشروع لصالح مصر وشعبها من النوبة إلى الإسكندرية. وربما يكون إعطاء الأولوية لأبناء النوبة فى تمليك الأراضى فى منطقة توشكا لإعادة توطينهم قرب موطنهم الأصلى، إجراءً ملائما لتعويضهم عن تحمل تبعات بناء سد مصر العالى فى موقعه الذى أدى إلى تهجيرهم.
في عام2000, اختارت مجموعة من مؤسسات تصميم السدود والهندسة العقارية الأمريكية, سد مصر العالي الذي يمر اليوم47 عاما علي بدء العمل فيه, كأعظم مشروع بنية أساسية في القرن العشرين, وبالتالي في التاريخ, بعد منافسة حامية مع سد بولدر الأمريكي الذي بني علي نهر ريوجراند, وكان أحد أوائل السدود الضخمة في العالم, وأيضا مع الإمباير ستيت وهي أول ناطحة سحاب في العالم, وكان مبرر الاختيار هو أن السد العالي قد غير مصير شعب بأكمله.
وقبل أن تبني مصر سدها العالي كانت بلدا خاضعا للفيضان و الذي كانت فيضاناته العالية تغرق وتدمر وتؤدي لانتشار الأوبئة وتكلف مصر تكاليف باهظة لمكافحته, وكانت دورات الجفاف السباعية التي كانت تستمر لسبع سنوات متتالية وتتكرر كل قرن أو قرنين علي اقصي تقدير ويوجد شواهد عليها منذ عهد زوسر في الدولة الفرعونية القديمة.. كانت تلك الدورات الرهيبة تتكفل بالقضاء علي أكثر من ثلثي سكان مصر لتعيدها للوراء مرة أخري وتخرب بنيانها الاجتماعي. ومن يريد أن يستدل علي الآثار الرهيبة للجفاف يمكنه الرجوع لكتاب المقريزي إغاثة الأمة بكشف الغمة. كما أن تعداد سكان مصر الذي بلغ وفق أدني التقديرات أكثر من10 ملايين نسمة عند نقطة الميلاد قبل أكثر من ألفي عام, قد انهار إلي مجرد2.5 مليون نسمة في عهد محمد علي قبل قرنين من الزمان, وكان لدورات الجفاف السباعية دور مهم في ذلك, إلي جانب الظلم الاجتماعي والقهر الذي عاني منه المصريون, بخاصة الفقراء علي أيدي الحكام الأجانب وبالذات في العهدين المملوكي والعثماني.
وقد أعدت دراسات عدة من قبل البنك الدولي ومجموعات متخصصة في بناء السدود في ألمانيا وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة, ووزارة الأشغال العامة والموارد المائية في مصر, وأكبر خبراء تصميم السدود في العالم. وأجمعت كل تلك الدراسات علي الإمكانية الفنية لإقامة السد العالي وعلي الجدوي الاقتصادية الهائلة للمشروع, وبعدها تم اتخاذ قرار إنشاء السد علي غرار عملية اتخاذ القرار في أعرق الدول الديمقراطية, رغم أن مصر لم تكن بلدا ديمقراطيا.
ومنذ البدء في انشاء السد العالي, مر علي مصر عدد من الفيضانات العالية في سنوات مرتفعة الإيراد المائي بصفة عامة أولها في الأعوام1998,1996,1988,1975,1967,1964.
وكان السد العالي قد تعرض خلال سبعينيات القرن العشرين لهجوم ضار وجاهل ضمن الحملة علي عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر, لكن مع بداية الثمانينات صمت الكثيرين من المهاجمين للسد, عندما ضرب الجفاف الرهيب هضبتي البحيرات الاستوائية والأثيوبية لمدة سبع سنوات, فشح الإيراد المائي للنيل واضطرت مصر للسحب من مخزون السد العالي طوال سنوات الثمانينات العجاف, وحتي العام المائي1989/88 حينما أغيثت مصر بفيضان مرتفع, بعد أن كان مستوي المياه في بحيرة ناصر الي مستوي149 مترا ولم يبق سوي مترين حتي يصل منسوب البحيرة إلي مستوي147 مترا, وهو المنسوب الذي تتوقف عنده المحطة الكهرومائية وتتعرض التوربينات للتشقق, ولم يكن باقيا من المخزون المائي الحي في بحيرة السد العالي سوي6 مليارات متر مكعب... لقد أنقذ السد مصر خلال سنوات الجفاف في الثمانينات, فتحولت المناقشات حول السد الي تساؤلات تنطوي في غالبيتها علي الرغبة في الاطمئنان علي السد العالي وعلي مخزون بحيرته بعد أن ظلت عقول وقلوب المصريين معلقة به في سنوات الجفاف خلال الثمانينات والذي لم يمس بسوء بفضل سدها العالي.
وهناك حقيقتان تحددان الطبيعة الخاصة لنهر النيل: الأولي هي تقلب إيراد النهر علي مدار العام حيث يكون فياضا وجبارا في موسم الفيضان في الصيف, حيث ترد فيه كميات هائلة من المياه كان يضيع منها في البحر نحو32 مليار متر مكعب قبل بناء السد العالي, ثم يصبح النهر بعد الفيضان شحيحا وبطيئا في غالبية العام, وقد أدي هذا التقلب في إيراد النيل علي مدار العام الي التفكير في التخزين السنوي لاحتجاز المياه في شهورالفيضان واستخدامها في الشهور التي ينخفض فيها إيراد النيل.
والحقيقة الثانية هي التقلب الشديد في إيراد النيل بين عام وآخر. ويكفي أن نعلم أن أقصي إيراد للنيل عند أسوان سجل في العام المائي1879/1878 وبلغ151 مليار متر مكعب, في حين بلغ الإيراد المائي في عام1914/1913 نحو42 مليار متر مكعب, وبلغ الإيراد المائي عام1984/1983 نحو34,8 مليار متر مكعب, وهذا التقلب كان مصدرا للمجاعات والكوارث المروعة في مصر علي مدار تاريخها الطويل, وهو الباعث علي التفكير في التخزين المستمر الذي اصطلح علي تسميته بالتخزين القرني, وذلك لتخزين المياه في السنوات التي يكون الإيراد المائي فيها عاليا لاستخدامها في السنوات التي ينخفض فيها ايراد النيل. وكانت هناك مشروعات عديدة للتخزين القرني في البحيرات الاستوائية وفي السودان, ولكن عبد الناصر اختار مشروع السد العالي بدلا من تلك المشروعات, باعتباره خيارا وطنيا حتي يكون تحت سيطرة مصر ولاتصبح مصر رهينة لمشروعات مائية موجودة خارجها.
وقد وقف زعيم مصر الراحل جمال عبد الناصر وراء السد العالي بكل قوته. لكن ذلك لم يكن كافيا لتمويل بنائه الذي ذهبت التقديرات الي أن تكلفته تبلغ نحو210 ملايين جنيه مصري تكلفة انشاء السد ومحطته الكهرومائية, ترتفع الي400 مليون جنيه مصري اذا اضفنا اليها باقي تكاليف المشروع من ري وصرف واستصلاح واسكان ومرافق وطرق. واضافة الي هذه التكاليف هناك الفائدة عليها والتعويضات عن الأراضي التي ستغمرها المياه في مصر والسودان. وهذه التكاليف الهائلة كان من الصعب علي مصر تحملها وحدها, وهو مادفع الحكومة المصرية الي البحث عن مصادر خارجية للمساهمة في تمويل انشاء السد. وقد توجهت مصر الي دول الغرب والبنك الدولي في البداية لكنهم بعد مماحكات طويلة رفضوا التمويل وبصورة خبيثة ومهينة لمصر. وأشارت الولايات المتحدة في خطاب رسمي لوزير خارجيتها الي أن بلدا من أفقر بلدان العالم لايستطيع ان يتحمل تكاليف مشروع من اكبر المشروعات فيه, ثم إن مياه النيل ليست ملكا لمصر وحدها, وانما هناك آخرون علي مجري النهر لهم آراء اخري وانه يود اخطاره بأن هذا القرار اتخذ بعد مشاورات بين الرئيس والكونجرس.
وإزاء هذا الرفض الأمريكي للمشاركة في تمويل السد العالي بصورة تنطوي علي الاستخفاف بمصر وشعبها, لم يتأخر الرد المصري كثيرا, إذ ألقي الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر خطابه التاريخي في26 يوليو1956 وعرض فيه قصة مشروع السد العالي وتمويله وألقي قنبلته بتأميم قناة السويس من آجل تمويل السد.
وكم كان المشهد العربي رائعا.. حين عبرت الشعوب العربية الخاضعة للاحتلال أو المقهورة بحكام عملاء وتابعين, عن وقفتها مع مصر بكل اشكال الاحتجاج وبضرب المصالح البريطانية والفرنسية من العراق وسورية الي عدن الي لبنان الي المغرب العربي. حقا كانت هناك امة تنهض من طول سباتها, وكانت معركة تأميم قناة السويس لتمويل بناء سد مصر العالي, والإدارة الملهمة لهذه المعركة من قبل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر, هي الشرارة التي فجرت بركان هذه الأمة لتهب في وقفة شجاعة مساندة لمصر ومعبرة عما هو مشترك بين كل الشعوب العربية من المحيط الي الخليج.
ولم يكن المشهد العالمي اقل روعة سواء من التظاهرات العارمة المؤيدة لمصر في عدد كبير من الدول المستقلة حديثا او الخاضعة للاستعمار او من التظاهرات التي شهدتها دول الغرب, الي الانذار السوفيتي لكل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل, والذي تضمن تهديدا نوويا صريحا.
وانتهي الأمر بانسحاب قوات العدوان الثلاثي, واستعادت مصر سيادتها وملكيتها لقناة السويس. وقد اتاح ذلك لمصر قدرة اقتصادية اضافية شكلت عاملا مساعدا علي تحمل تكاليف بناء السد العالي. وبعد مفاوضات قصيرة بين مصر والاتحاد السوفيتي, تم توقيع اتفاقيتين الأولي عام1958 والثانية عام1960, اقترضت مصر بموجبهما1300 مليون روبل( نحو325 مليون دولار بأسعار ذلك الحين) ويسدد القرض علي12 قسطا سنويا بعد فترة سماح تمتد حتي اتمام الاعمال التي يستخدم القرض في تمويلها, وكانت الفائدة تبلغ2,5% سنويا.
وبنت مصر سدها العالي الذي حمي البلاد من اخطار الفيضانات المدمرة وكون لها بنكا مركزيا للمياه هو بحيرة ناصر التي حمت مصر من مخاطر دورات الجفاف الرهيبة, ووفرت مصر19 مليار متر مكعب صافية من المياه عند اسوان بعد خصم فواقد البخر بما اتاح استصلاح واستزراع مساحات كبيرة من الأراضي التي كانت تفتقر للمياه, وزيادة انتاجية الأراضي بتوفير المياه للمحاصيل في اي وقت تحتاج فيه لها, وحولت مصر نحو670 الف فدان من ري الحياض الذي يزرع محصولا واحدا في العام الي ري دائم, وتم تحسين الملاحة في النيل بما انعش السياحة النيلية. أما المحطة الكهرومائية للسد العالي فإنها تولد في العام كهرباء تعادل الكهرباء المولدة من نحو2,5 مليون طن من النفط تبلغ قيمتها بأسعار العام الحالي نحو1,1 مليار دولار. أما الآثار الجانبية للسد مثل الاطماء والنحر وارتفاع المياه الجوفية وتآكل الشواطيء الشمالية في بعض المناطق وغرق النوبة وآثارها
فإنه جري مواجهة البعض بينما يحتاج الآخر للمزيد من الجهود المتواصلة من اجل مواجهته. وفي كل الأحوال يبقي سد مصر العالي هو مشروع البنية السياسية الاعظم في مصر والعالم, وهو المشروع الذي استنهض روح امة, وما احوجنا لاستنهاض روح البناء والتطور والتنوير في أمتنا العظيمة بمشروعات مناظرة للسد في اهميتها وجدواها لمواجهة كل التحديات الاقليمية والدولية التي تواجهنا في الوقت الراهن.
د /أحمد السيد النجار
مركز الأهرام للدراسات السياسية و الإستراتيجية .