من ذكريات مواطن بورسعيدي عن هجرة مواطنين عبر بحيرة المنزلة خلال عدوان 56
كم يسعد ألنفس ، أن "ألبعض" ممن لا زال علي قيد ألحياة ، ويتذكر أحداث تلك ألأيام من داخل ألمدينة ، ، يقوم بنشرهم بأمانة وبدون "تصورات وتخيلات شخصية" ، وذلك إرضاء للضمير وبشرف وتوثيق للتاريخ دون تهويل وخشية من ألله ،
حقا ، حتم توزيعنا علي مناطق ونقاط دفاعية في ألمدينة ، وأجبرتنا تطورات ألقتال وألدفاع عن ألمدينة ، إلي ألتنقل من مكان لآخر ومن شارع لآخر ، حتي نواجه تقدم قوات ألغزو للمدينة ، إلا أننا " سمعنا " ألكثير جدا ، عما كان يحدث في مناطق أخري من بورسعيد ، وشاهدنا فيما بعد ، آثار وبقايا وأيضا حطامات وضحايا وقتلي تطورات أحداثهم
لم يكن من مهام مجموعاتنا ألفدائية ألمختارة ، ألتواجد في منطقة "ألقنال ألداخلي" و بحيرة ألمنزلة وعزبة فاروق "جنوب-غرب ألمدينة" ، حيث أن ألهبوط ألمظلي للقوات ألبريطانية كان علي مطار ألجميل في "غرب ألمدينة" بداية من صباح يوم الإثنين 5 نوفمبر ومحاولات جنود ألمظلات ألبريطانيين ، تقدمهم من ألغرب "عبر مزارع محطة تصفية ألمجاري" وألزحف من هناك إلي "منطقة ألجبانات" في طريقهم للإستيلاء علي مباني "ثكنات غفر ألسواحل" وإخماد مقاومة ألمتمركزين هناك ، بعدما تم نسف وحرق وإزالة جميع مساكن وأكواخ ومباني منطقة "حي ألمناخ" وحرقهم، حتي يسهل للبريطانيين ألزحف شرقا عبر ألشوارع ألرئيسية في منطقة "حي ألعرب" وهم "ألكورنيش" و "سعد زغلول" و "صفية زغلول" و "كسري" وأيضا "شارع رقم 100" في جنوب-غرب ألمدينة ، وألذي يتيح لهم سرعة ألزحف جنوبا ، من منطقة ألجبابنات ، وتخطي منطقة "حي ألعرب" ، وألتقدم ألسريع ، إلي بداية شارع محمد علي في ألطريق إلي منطقة وكباري "ألرسوة" وطريق ألمعاهدة في ألجنوب، للزحف جنوبا في إتجاه بقية قناة ألسويس ، بعد ألإستيلاء علي محطة ألكهرباء ومنطقة ألجمرك ، ومعسكر "ألجولف" ألذي كانت تتواجد فيه ألقوات ألإنجليزية قبل الجلاء ،
والإلتقاء بقوات "ألغزو ألبريطاني" ألمدعمة بألدبابات ألسونتوريون وألمصفحات ومدافع ألميدان 25 رطل ، ألتي ينتظر "إنزالهم وغزوهم ألبرمائي" يوم ألثلاثاء 6 نوفمبر وإستيلائهم علي مباني "بوليس ألميناء" ومبني هيئة قناة ألسويس ومبني ألنافي هاوس في شرق ألمدينة، علاوة علي "ألإنزال ألرأسي بواسطة ألهليوكوبتر" للقناصة ألبريطانيين علي أسطح أعلي مباني ألمدينة ، سواء في شرق منطقة ألعرب
أو في وسط ألمدينة بشكل خاص أو "منطقة حي الإفرنج" بالذات ، للتحكم في شوارع وتقاطعات طرق ألمدينة ألرئيسية " محمد علي" و "سعد زغلول" و "صفية زغلول" و "كسري" و "ألكورنيش" وشارع "فلسطين"و "شارع فؤاد" وشارع ألتحرير ، حاليا "صلاح سالم" ، لتغطية وحماية جنود قوات ألغزو ألبريطانيين خلال زحفهم من منطقة "ألشاطيء" في ألشمال ، لأهدافهم ألمحددة في ألجنوب ، وذلك بإقتناص ألمدافعين عن ألمدينة وإسكات نقاط ألمقاومة ، وهكدا تتاح وألسيطرة علي منطقة محطة بحيرة ألمنزلة وبألتالي "منع خروج أحد" عبر ألبحيرة إلي ألجنوب ، ، وألغزو ألبرمائي علي ألشاطيء وهي تفاصيل أكشف عن ألعديد منهم في مواضيعي هنا وفي الإنترنت وأوثقهم بشكل أكثر تفصيلا في كناب "ألوجه الآخر للميدالية ، حرب ألسويس 1956"
نلاحظ ، عدم إمكانية ألتواجد ألمباشر في كافة أنحاء ألمدينة ، ولكن في نقاط محددة ، حتمتهم تطورات مقاومة "ألزحف ألبريطاني" لغزو بورسعيد ، سواء يوم الإثنين 5 نوفمبر أو ألثلاثاء 6 نوفمبر وأيضا يوم ألأربعاء 7 نوفمبر "رغم قرار هيئة الأمم ألمتحدة" بإيقاف ألقتال ، إلا أن ألبريطانيين لم يتمسطوا بقرار إبقاف إطلاق ألنار ، بسبب "تأويلهم" للموعد ألرسمي والإستفادة من فرق ألزمن ، بين توقيت جرينيتش وألتوقيت ألمحلي ، أملا في إستغلال ذلك ، وألتقدم جنوبا عبر طريق ألمعاهدة إلي ألقنطرة والإسماعيلية ومنها إلي ألقاهرة ، تنفيذا للخطة " فيرديكت" ألفرنسية ،
يعد أللقاء مع قوات ألفرنسيين في منطقة ألرسوة "ألتي سيطرت عليها قوات ألفرقة "ألفليق ألأجنبي" ألفرنسية" يوم الإثنينز
رغم أننا لم نتواجد شخصيا في كافة شوارع بورسعيد الا أن أخبار و"تقارير" ما
حدث في بقية أحياء وشوارع ومناطق ألمدينة ، قد وصل إلي أسماعنا ، أو تم ألحصول علي تفاصيله ، وقدم عنهم "تقارير" إلي ألمخابرات ألعامة وبالتالي "مكتب رئاسة ألجمهورية" ، وهرب بعضهم العقيد محمد حسن رشدى مفتش المباحث في محافظة القناة "بكباشي ألبوليس " حسن رشدي ، رئيس مباحث بورسعيد ، ألذي كان ألبريطانيين يبجثون عنه لإعتقاله ، وتم تهريبه ومعه ألتقارير
تحت رباطات في قطار نقل جرحي ألغزو ، ملثما بشكل كبير، كــ "جريح"
"..................
على محطة بحيرة المنزلة تجمع آلاف الناس, اللنش لا يمكن أن يصل إلى رصيف المحطة ويقف بعـيـدا خوفا من اندفاع الناس الشديد إليه. كان اللنش يقترب فقط ولمدة دقائق ثم يبـتــعـد سريعا, وكان الناس يقفزون فى مياه البحيرة, وأثناء ابتعاده يخوض الناس فى مياه البحيرة ويحاولون اللحاق به, غرق عدد كبيـر فى هذه المحاولات, الطائرات تحلق على رؤوس الركاب ، والناس يميلون لتـفـادى هجــوم الطائرة, ولا يستطيع اللنش الإحتفاظ بتوازنه فينقلب وتغرق حمولته المئات ماتوا غرقا مـن التزاحم للحاق باللنشات وغيرهم غرقت بهم بعد أن ركبوها ، الصراخ يملأ البحيرة, والأذرع الغارقة ممتدة تبحث عن النجدة ، وعدد من الواقفين مدوا ايديهم لمساعدة الغرقى , كـل إنسان يحاول النجاه بجلده, كنت أقف أنا وأحمد شوقى المرجاوى على رصيف محطة المنزلة نحاول إنقاذ ما يمكننا إنقاذه ، ووقف بجوارنا أحد الجنود , وكنا نحن الثلاثة نمد أيدينا لمساعدة الغرقى وفجأة مد أحد الغرقى بندقيته البارزة فوق الماء ، الجندي كان أسبقنا , أمسك بطرف ماسورة البندقية وشد الغريق منها, وفجأة سمعنا صوت طلقة, وصـرخ الجندي ثم انقلب فى مياه البحيرة كان الغريق يمسك البندقية من الزناد , وعندما جذبه الجندي من ماسورة البندقية ضغطت يد الغريق على الزناد فانطلقت الرصاصة إلى بطن الجندي , نظرنا لأنفسنا أنا وشوقى المرجاوى في أسي وحسره .
وقفت المراكب بعيدة عن شاطئ البحيرة , وعلينا أن نخوض فى المياه حتى نصل إليها – ” يالا يا شوقي, إيدك فى إيدى وانتى يا فتحية شيلى الولد ده, وانت ما ترحشي بعيد عنى يا ابنى خليك معايا نشوف احنا رايحين على فين ورجل عـجوز يصرخ ويقول ما تسيبونيش لوحدى , خدونى معاكم ” .
فى هذه اللحظة تحس بوجود ترابط إنسانى قوى جدا بين الناس أعلى درجات الترابط والتضحية والبذل والاهتمام بالآخرين فى الأيام الماضية شفت الخوف الرهيب والإحساس بخطر الموت المؤكــد أمام الدبابات وتحت قنابل الطائرات وفى قلب الحريق ووسط النيران وبين طلقات الرصاص , رأيت الرجل يدوس على طفله لينجـو, رأيت الطوفان والفـزع من الطوفان , والخطر يدمر إلى أقصى درجة تتخيلها أفضل ما فى كيان الإنسان ويحوله الخوف إلى كائن بشع ضعيف أنانى أعمى لا يرى , يحوله الخطر والخوف الشــديد إلى أدنأ صـورة ممكنة إلى أقل من حــيــوان وعندما يخف الخطر درجة واحدة ويقل الخوف درجة واحدة تظهر فى الإنسان أعلى قيمة ممكنة, وأغلى ما فى الكيان الإنساني من تعاطف وتأزر , ويبدو إنسانا أرقى وأعلي, مضحيـا حاملا فوق كتفه أخاه مقدما أمامه أى إنسان آخر قاسما ما في فمه مع الآخرين عارضا عليهم مساعدته.
شاب بجـوارى شف امرأة بجــوارنا قـال لهـا ” مش عاوزة مساعدة ياست ” كل واحد منا حمل طفلا وحملنا المرأة نفسها وابنتـهــا وخـضنا فى الميـاه وبرودتهــا تكاد تقطع فى لحمنا كالسكاكين, والمياه تعلو شيئا فشيئا ونحن نغرق أكثر فأكثر حـتى وصلنا إلى المركب, والناس تحذر بعضها ” حاسب على نفسك حتى لا تقع فى الميـاه، معلش يا ابنى تحمل, حنوصل وآخرون يقولون الله يخرب بيت الإنجليز شردونا من بيـوتنا وآخر يقول إحنا مش مسلمين ياجدعان.. داموت !؟
قعد الناس داخل أحد المراكب ونحن معهم , المركب حمولتها حوالى ثلاثين شخصا وهى الآن محملة بمائتين, سمعنا صراخا خلفنا , غرقت إحدى المراكب وانقلبت بمن فيها ، عـلى سطح المياه طفل رضيع عمره أقل من ستة شهور عائم , إحدى السيدات مدت يدها واستنجـدت بى وقالت: ( هاته والنبى الله يخليك أولادى كلهم ماتوا وماليش حد ) انتشلته من على سطح البحيرة, خلعت المرأة عنه ملابسه الغرقانة المبتلة , وخلعت ملاءتها ولفته فيها وظلت طول الوقت تحضنه في صدرها …
(من مذكرات إبراهيم هاجوج والتي كتبها الصحفى كمال القلش )
.................."
".................
بورسعيد 56
قال “عبد المحسن ” أنه كان في منزلنا بالأمس وكانت أمى تعد للطعام” ديكا روميا” دهشت وقلت له من أين لهم هذا : فسر لى الأمر قائلا : عندما أحتل الإنجليز المدينة كسروا أبواب الجمرك والمخازن ونهبوها ثم ذهبوا , فدخل الأهالى “وكـبـسـوا” على الجمرك واستولوا على أجوله الأرز والدقيق والبن وصناديق الشاي والسكر وكان الجوال يباع بخمس وعشرين قرشا ولا يجد مشتريا ذلك لأن الأزمة كـانت فى النقود , وكانت هناك صناديق ممتلئة بالدجاج والديوك الرومية والويسكي فى ثلاجات الجمرك , وكان من نصيبكم ديك رومي رفضت أمك ولفترة طويلة أن تعده للطعام قبل العثور عليك .
……
أما الآن فالجمرك أسواره مهدمة والسفن غارقة في الميناء , والمباني محطمة وآثار الحريق تغطى واجهات البيوت.
وقفت انتظر “المعدية” وهى فى طريقها آتية من الشاطئ الآخر
وصلت وتوقفت وبدأ الناس ينزلون منهـا كنت أتفرس في القادمين من الشاطئ الآخر من بور فـؤاد . وفوجئت بأمى وسط الناس متـشحة بالسواد, نزلت وبدأت تنظر يمينا ويسارا وتفرز بعينيـهـا الواقفين , كانت تبحث ولديها أمل فى أن تجدني ،التقت عيوننا , ووقفت نصف ثانية مشـدوهة وصرخت وهى تضمني : ابنى ابنى إبراهيم . وانهمرت من عينها الدموع والفرح يقفز من ملامحها , ثم تتركنى لحظة وتعيد النظر إلى لتتأكد ثم تعود لتضمني بعنف من جديد وهى تقول: كنت فين حرام عليك.
الغريب أن الناس حولى لم تهتـز من هذا الموقف , ويبدو أنهم اعتادوا على هذه اللقاءات العاطفية العنيفة المؤثرة التى تحدث فجأة فى الشارع وسار الناس و تركـونا مـغـمــورين في هذه اللحظات
قالت : يا للا نركب المعدية ونرجع بهـا إلى بورفؤاد , أنا كنت طالعة أدور عليك .. قالت , كل يوم كنت أطلع من الصبح حتى حظر التجول وأسأل عليك ومفيش فايدة, قالت وهى تتنهد والحزن يملأ عينيها : عندما وصلنا إلي سور الجمرك عشرات من جنودنا قتلوا هناك وكان الجرحى كثيرين , والدم يسيل منهم, وأصوات الألم تخرج من أحـشـائهم والأنين يمزق القلب. ولكن الناس جـميـعـا كانوا كالغـرقى يبحثون عن حالهم وعن أنفسهم , ولا أحد يسأل وأشارت إلى مكان وقالت: هنا قتل قائد بور فؤاد , ظل يقاوم حتى آخر لحظة , ضـربوه من الطائرات بالقنابل والرصاص وحتى الذى نجا من القوة العسكرية رمى نفسه فى مياه القناة وكانوا يصطادونهم بالرصاص, فى الوقت ده كنت طالعـة أدور عليك واسأل الناس ومحدش كان بيجاوبنى أبدا رحت بورسعيد وضلمت الدنيـا على ومفيش نور غـيـر نور الحريق وكنت أجرى من غيـر هدف يمكن أقابلك, كل واحد أقابله أبص فى وشه وأجرى ثانى ، الناس كانت ملهيـة , رحت المستشفى ودخلت المشرحة, لقيت جثث كثيرة جدا مكومة فوق بعضها وناس كتير بتقلب في الجثث وتبحث عن أولادها، ودورت بعيني بين الجثث لغاية ما لقيت شاب فى طولك ولابس بلوفر زى اللى كنت لابسه يومها وبنطلون رمادى زيك جريت عليه وكان نايم عـلى بطنه ومسكت هدومه ، آجى أقلبه على وشه أيدى انشلت إيديا اتسـمـرت , مش عـاوزه أصدق أنه أنت وقعدت ماسكه فى هدومه , وقلت يارب ، يارب وقلبته وبصيت فى وشه ولقيت نفسى استريحت وقعدت أصرخ وأقول مش هوه ، مش هوه ، وخرجت على بره , الجـو بره كان يخنق مـن الدخان والحريق جريت فى الشوارع لغاية ما قابلت بالصدفة صاحبك عبد المحسن هوه اللى طمني وقعد يحلف أنك سافرت , وبرضه ماكنتش مصدقه , وكل يوم أطلع أدور عليك .
(من مذكرات إبراهيم هاجوج والذي كتبها الصحفي كمال القلش )
.................."
د. يحي ألشاعر