العودة إلى الجمهورية البرلمانية (1954 – 1958)
سيطرت الأحزاب التقليدية، في عهد الجمهورية البرلمانية الأولى، على حياة البلاد السياسية. ولكن الانقلابات العسكرية المتوالية، أضعفت تلك الأحزاب، وأتاحت رواج أخرى عقائدية، وخاصة البعث والشيوعي.
1. وزارة صبري العسلي الائتلافية
ألَّف صبري العسلي، في الأول من مارس 1954، حكومة ائتلافية، من الحزب الوطني وحزب الشعب؛ مدعمة ببعض المستقلين البارزين، مثل: الزعيم الدرزي، حسن الأطرش؛ والإقطاعي الحموي، عبدالرحمن العظم. وخلت من الحوراني والبعثيين، معارضي الشيشكلي الأشد، والناشطين في إسقاطه. وقد شاع أن الحوراني، طلب وزارة الداخلية، فرفض طلبه؛ لذا، عارض، هو وعفلق، الحكومة الائتلافية.
أبقى صبري العسلي على صِلاته قوية بمصر والمملكة العربية السعودية؛ استجابة لسياسة حزبه، الحزب الوطني. غير أنه بقي كذلك على ميله إلى العراق؛ لا، بل أمعن فيه، فعقد مع ميخائيل البان، وهو سياسي موال للعراق؛ وبحضور الزعيم العراقي، محمد فاضل الجمالي، اجتماعاً سرياً، في منتجع برمانا اللبناني؛ للتدبَّر في تنفيذ وحدة الهلال الخصيب؛ حسبما نمَّت به محاكمات بغداد، بعد انقلاب 1958.
تضافرت على حكومة العسلي عوامل شتّى، حملتها، في 8 يونيه 1954، على الاستقالة؛ وكمّا تنجز ما انتدبت له، إجراء الانتخابات. ولعل أهم تلك العوامل، أنها افتقدت مهارة الانتقال من الدكتاتورية العسكرية إلى النظام البرلماني؛ وفاوضت الولايات المتحدة الأمريكية في اتفاقية معونات عسكرية، كتلك التي عقدتها واشنطن مع بغداد؛ فضلاً عن الخلاف بين الجيش ووزير الدفاع، معروف الدواليبي.
2. حكومة سعيد الغزي
الغزي محامٍ دمشقي. ألَّف، في 9 يونيه 1954، حكومة غير حزبية، عهِد فيها بوزارة الدفاع إلى اللواء شوكت شقير؛ استرضاءً للجيش. وأعلن حياده التام في القضايا الداخلية؛ وعزمه على الاحتفاظ بالصلات الأخوية مع الدول العربية جمعيها، ضمن إطار الجامعة العربية. ولم يلزم سورية أيّ ارتباطات دولية. وأكد أن المهمة الأولى الوحيدة لحكومته، هي الإشراف على انتخابات حرة، نزيهة، وفق قانون انتخابات جديد، يعاون على وضعه المجلس النيابي؛ ما أكسبه ثقة الجيش والشعب معاً.
نص قانون الانتخابات الجديد على أن يكون عدد النواب142 نائباً، يمثل كلّ منهم 30 ألفاً من المواطنين. وأُجِّل موعدها إلى 24 سبتمبر 1954، بدلاً من 20 أغسطس، استجابة لبعض الأحزاب. وجُعِلَت مرحلتَين: الأولى، يومَي 24 و25 سبتمبر، وملأت 99 مقعداً؛ والثانية، 4 و5 أكتوبر. واتسمت بما لم يسبق له مثيل، من الحرية والنظام. وتمخضت بفوز مبين للمستقلين (64%)، ولا سيما خالد العظم وكتلته، في دمشق؛ وحظوة بين بينة البعث (22%)؛ وانتخاب أول نائب شيوعي في العالم العربي، خالد بكداش. وأسفرت كذلك عن تراجع حزب الشعب، واضمحلال وحدة الهلال الخصيب. ولعل أهم ما نمَّت به نتائج الانتخابات، انتصار الحياد في الرأي العربي.
كُلِّف فارس الخوري، الطيب السمعة، تأليف الحكومة الجديدة. فكوَّن حكومة المستقلين وحزب الشعب، سرعان ما واجهت إصرار الحكومة العراقية على تكوين حلف بغداد، فتريثت، فتعرضت لسخط الأحزاب الشابة، قوية التأثير. وانقسم، مثلاً، الحزب الوطني كتلتَين: الأولى، بزعامة لطفي الحفار، تؤيد سياسة الحكومة العراقية؛ والثانية، بزعامة صبري العسلي، تؤيد سياسة الحياد، التي بدت ملامحها، آنئذ.
ولاح تكتل جديد، يتجافى عن الأحلاف، ويضم الفريق الثاني من الحزب الوطني ويساريِّي البعث، والمستقلين اليساريين وعلى رأسهم خالد العظم. ولكن التنافس في رئاسة الجمهورية، كشف أن انضمام الحزب الوطني إلى اليسار، ما هو إلا مداورة؛ إذ واطأ حزب الشعب على التراجع عن ترشيح ممثله، الكيخيا، قبيل لحظات من الانتخابات؛ كي لا تتبعثر أصوات القوى التقليدية، فتقترع كلّها مرشح الحزب الوطني، شكري القوتلي، فتفوت الرئاسة مرشح الجبهة اليسارية، خالد العظم.
نال القوتلي 91 صوتاً مقابل، 41 للعظم، فأصبح مديناً لحزب الشعب والمستقلين أكثر من لحزبه؛ ولذلك، أشركهم في وزارة سعيد الغزي الثانية. أمّا الساخطون، اليسار وأنصاره في الجيش، فقد ارتقبوا التطورات: الدولية والعربية والداخلية، المتشابكة، عسى أن تتيح لهم توجيه السياسة السورية. وسرعان ما تأتيَّى لهم ذلك، حينما قتل نائب القائد العام، الضابط البعثي، عدنان المالكي. فقد كان مقتله إيذاناً بسعي الفئات المتنافسة في الجيش إلى السيطرة على القيادة. وتمثلت تلك الفئات في اثنَي عشر ضابطاً. بينهم اثنان فقط بعثيان: مصطفى حمدون، الخاضع لتأثير الحوراني؛ وعبدالغني قنوط. وفيهم كذلك عبدالحميد سراج، مدير المكتب الثاني، أيْ الاستخبارات السورية. وأمسى هؤلاء هم أصحاب النفوذ الفعلي في الجيش؛ حتى إنه لولا موافقتهم، لما كان لشوكت شقير وخلفه توفيق نظام الدين أن يتوليا القيادة العامة.
هكذا، غرق الجيش السوري في السياسة، وافتقد قوام الجيوش، طاعة النظام. وانبرى معظم الضباط الاثني عشر يعملون، كلّ لحسابه الخاص، وهو يحسب أنه يحمي المصالح الوطنية أو التقدمية. ولعلّ تنافس تلك الفئات المختلفة، هو ما اضطرها إلى قبول اللواء شوكت شقير قائداً عاماً، على الرغم من أنه شغل هذا المنصب في عهد الشيشكلي. وهو نفسه ما حملها على ارتضاء عفيف البزري، عام 1957، للقيادة العامة؛ وليس، كما أشيع، لأنه شيوعي.
3. وزارة صبري العسلي الثانية (1955)
وسط الانقسامات الداخلية، ولا سيما الناجمة عن الموقف من الأحلاف، ألَّف صبري العسلي وزارته الثانية. واقترن تأليفها بحادثَين مهمَّين، لفتا إلى قيمة التعاون السوري – المصري. أولهما، حشد القوات التركية على حدود سورية؛ تحذيراً لمجلس النواب من عرضه الحكومة الحيادية الجديدة للثقة. وثانيهما، اعتداء إسرائيل على غزة، في 28 فبراير 1955 اعتداءً واسعاً.
وعلى أثر ذلك، بادر شوكت شقير وخالد العظم، وزير الخارجية، إلى عقد اتفاق مبدئي على إنشاء قيادة عسكرية موحدة مع مصر. وجاء في مقدمته أن الهدف الأول هو معارضة ميثاق بغداد، الذي أدى إلى تفتت دول الجامعة العربية. وقد أثَّر توقيعه في المشاركة الإيجابية لسورية في مناهضة مصر للأحلاف. وطوَّف صلاح سالم وخالد العظم بعدة عواصم عربية، لإغرائها بالاتفاق العسكري الجديد؛ ولم يوفَّقا، لا في بيروتن ولا في عمّان.
ونجم عن ذلك تقارب سوري – سوفيتي، وتلقي سورية للأسلحة من الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا. وكان للتحول المطَّرد في سياسة سورية الخارجية، وازدياد قوة اليسار في الداخل، أثره في موقف حلف بغداد والدول الغربية التي تؤازره.
د. يحي ألشاعر