حديث نفس
على مهل فضت اللفافة الأولى، أزالت باقة الورد الصغيرة والشريط والورق الملون عن الصندوق الجميل الذي وجدت بداخله ما أنبأه به حدسها، انه ثوب السهرة المصنوع من الحرير الخالص بلونه اللازوردي وقد طرزت عليه لوحة فنية شكل لونه معها قمة في الإبداع ..
رقص قلبها مرحا بهذه الهدية الثمينة، ألهذا الحد تبلغ قيمتي عند ربيع، أم أنه الكرم الذي جبل عليه وجعل منه فارسا غاية في الشهامة ..
التفتت نحو اللفافة الثانية، ليست من نفس المحل، أو على الأقل هكذا بدا من طريقة التغليف الرائعة .. امتدت يدها تزيل الغلاف عن الصندوق وعينها تسبقها تطفلا ..
ما هذا؟!!
فراء!!
معطف يخطف الأبصار مصنوع من فراء المنك المتناسق الألوان ..
لم يسعفها خيالها في استيعاب ما يجري من حولها .. فقد أثقلت هدايا ربيع كاهلها بما لا تملك لمبادلته .. فالولاعة الذهبية التي اختارتها هدية له سبقها السائق بتسديد ثمنها ببطاقة الائتمان التي تركها معه ربيع لتغطية مشترياتها ..
كان من الممكن أن تتقبل الثوب الحريري الذي خلب لبها، فكيف لها أن تستوعب هذا المعطف الثمين ..
لا شعوريا امتدت يدها صوب الهاتف:
- كثيرٌ هذا يا سيد ربيع .. لقد تجاوزت بما أسلفت سقف أحلامي واليوم أفاجأ بك تُحَلِّق بي في عالم الأساطير .. فعلا انا كلي خجل مما أرى ..
- أيتها الأميرة الغالية .. لم أجد ما يليق بك فأتعشم أن تتعطفي وتقبلي ما اخترته على عجل، فقد كنت أخشى أن تتركي السوق قبل لقائي
- أنت تخجلني فعلا .. ولا أدري كيف أعبر لك عن الحال الذي أوصلتني إليه .. أ
- لا تكملي سيدتي فلو شعرت للحظة أنني أجاملك أو أبتغي ...
- توقف أرجوك .. فما خطر ببالي شيء مما تفكر فيه .. إن هي إلا طبيعتي المتناهية في البساطة منذ الصغر.. إنها تأبى علي تقبل مالا أقدر عليه .. الثوب الحريري فوق طاقتي .. فما بالك بالمعطف!! أرجو ألا تسئ الظن بما أقوله الآن .. يجب أن تعيد المعطف للمحل الذي ابتعته منه .. فأنا لا أستطيع تقبله ..
كان الدمع ينهمر من عينيها وهي تختنق بالكلمات التي سجلت بها موقفها، وشعر ربيع بحرج الموقف وبأنها قد اجهشت بالبكاء فألقى بسماعة الهاتف وانطلق صوب غرفتها بسرعة .. فتحت له الباب فيما كانت تكفكف دمعها باذلة قصارى جهدها في السيطرة على عواطفها في هذا الموقف البالغ الحرج ..
- سيدتي .. ما شجعني على هذا هو كرمك الزائد معي .. قلبي الذي لم يخفق منذ شبابي وجدته يرتعش كطائر ذبحته النظرات الحميمية التي باحت له بما اطبقت عليه شفتاك .. وقلبي أبدا لا يخطئ .. وكلما دنى منك شعرت به يكاد يقفز من بين أضلعي ليرتمي تحت أقدامك .. فلا تخذلي قلبك بموقف في غير محله ..
باغتت الكلمات الرقيقة الحانية أقفال ركن قد انغلقت عليه منذ سنين .. شعرت وهي تنظر في عينية بنبل مشاعره وبذلك الحس المرهف الذي يُبَطِّنَها .. تجمدت الكلمات على شفتيها المرتعشتين .. وقد تحول الدمع في عينيها إلى حبات لؤلؤ كبيرة التصقت برمشها السفلي وقد أحست بروحها قد شارفت على مغادرتها ..
شعر ربيع بما يصطرع بين ضلوعها .. فصدرها الناهد قد بدأ يعلو ويهبط بتسارع ملحوظ ..
كان عليه أن ينهي الموقف بأي شكل .. لكن الكلمات لم تسعفه .. فقد انشغل بكل وجدانه بمتابعة الأحاسيس التي عجزت الكلمات عن التصريح بها ..
- حنان .. تعلمين بأنني أتعايش مع ما لديك من إباء وشمم .. وكلي حرص على تلمس دربي محاذرا السلوك في مضمارهما.. وأنت أغلى عندي من كنوز الدنيا جميعها .. لكن .. نحن اليوم نعيش حالة غاية في الخصوصية .. وما استجد علينا أرى فيه ما يفسح لي مساحة أكبر من الثقة والطمأنينة .. فلا تفسدي أحلاما نعيشها سوية .. أتمنى عليك ألا يطغى ذلك الإباء وعزة النفس على ما يختلج في صدرك ..
قالها وانفلت من أمامها ليدلف إلى غرفته قبل أن تنبت ببنت شفة .. فما ستقوله إن لم يكن إيجابيا فسيعكر عليهما صفو الحلم اللذيذ ..
تعشق كارمن كثيرا .. كم من مرة شاهدت عروضها لمختلف الفرق .. لكن مشاهدتها اليوم سوف تكون مختلفة .. فالفرقة عالمية مشهورة وقد طعمت بنجوم مشهود لها من مختلف أرجاء المعمورة .. سواء في الأداء الأوبرالي أو الموسيقي ..
للمكان والزمان وعالمية الفرقة دخل كبير في الاستعداد النفسي والوجداني لكارمن، فكارمن تمثل لها العنفوان والتمرد على المألوف، فيها كثير من الإيحاء بانفلات الفرس البرية الأصيلة وتمردها على ساستها وبيئتها، الحب الجارف حتى الجنون، الكثير الكثير في كارمن يجعل منها حلما ناعما لدى حنان .. كل هذا يأتي قيراطا أمام ما يختلج في حشاشة قلبها من انفعالات طارئة ظنت أن عامل الزمن قد أدخلها في سبات عميق إن لم يكن قد بددها تماما ..
ربيع تسلل إلى حياتها على حين غرة، في غفلة من عقلها أم هو وجدانها الذي تمرد على العقل أم ماذا .. لا تدري كنه ما يجري فقد استمرت علاقتهما على رتابتها لأعوام خلت، صداقة .. احترام متبادل .. لم تكن فيها أية علامات أنثوية .. خيل لها لأكثر من مرة أنها تتقمص دور رجل في مبادلته الرأي والفكر، لم تشعر يوما بحرج من التحدث إليه عبر المسنجر، أهو المسنجر الذي يسلب من الكلمات ما فيها من روح، أم هو الخوف الكامن بين أحرف لوحة المفاتيح مسيطرا على مخارج الحروف فيمتص منها طلاوتها ويخرجها جافة لا طعم ولا لون لها ..
لا ليست لوحة المفاتيح تلك، بل هو المسنجر .. ناقل الكلمات بين مجهولين .. إذن .. هو الخوف من المجهول وخشية مالا يحمد عقباه ..
مسكين هو المسنجر .. شماعة تلقى عليه حالات الفشل في علاقات طالما سمعت عنها ..
أطرق ربيع برأسه وهو جالس على اريكة صغيرة في ركن يشرف بزاوية صغيرة على البحيرة الواسعة .. ما أكثر كآبة الشجر في الأسفل بالقرب من الشاطئ وقد تعرى من اوراقه واكتسى بكامله بثلوج فضية اللون .. جال ببصرة فوق سطح البحيرة الذي خالطته الثلوج محاولة تغييبه تحتها .. ستفلح الثلوج في مسعاها .. عاصفة جليدية تهب منذ العصر .. والسماء حبلى وتكاد القِرَبُ فيها تنفجر بثقل حملها .. قِرَبٌ كبيرة تتفجر جليدا بفعل البرودة القاسية ..
ما هذا الذي يداعب صدرك يا ربيع، أبعد هذه السن ما زال لديك قلب يخفق؟ أيعقل هذا؟ لقد صُمْتَ طويلا حتى نسيت تاء التأنيث وطمست في وجدانك بصمات جرح غائر آليت نفسك على ألا تنفض عنه التراب أبد الدهر ..
حتى اقتحمت حنان حياتك ..
لا ..
حنان في حياتي منذ سنين ..
أبدا لم تكن حنان في حياتك ..
بل كانت دوما في البعيد
كانت ..
وكنت ..
تعرفان كيف تسدلان ستارا على عواطفكما
حتى وكأنها لا وجود لها ..
كان هناك حاجز مسنجري صلد
يقف حائلا بين عقلكما ووجدانكما ..
فما هذا الذي دهمني بلا مقدمات ..
أهو الحب يا ربيع؟
أم تراها نزوة سرعان ما تضمحل وتتلاشى بالعودة إلى المسنجر
لا ليست بنزوة
لقد كبرنا على النزوات
ألا يقولون بعودة المراهقة إلى الروح
بعد سن معينة
لا .. لا .. إن ما اعيشه شيء مختلف
لطالما مررت بنزوات
لم يكن أسهل علي من التخلص منها
هذه حنان
شيء مختلف تماما
لم أعايش لها مثيلا من قبل
بل إن حياتي على جفافها قد جرى فيها أكسير غريب
للهواء معها عبق فريد
أحس بروحي تهفو عليها بحنين عذب
قلبي يخفق مع رنات ضحكاتها ..
ترى ..
بم تشعر حنان الآن
لقد احرجتها كثيرا
بتهافت هداياك عليها
أي غباء هذا
أفلا تصبر
تتمهل
وهل يعرف الخافق التمهل
لقد أردت أن املكها كل الدنيا بما فيها
فقد ملكت حشاشة قلبي واستلبت ورحي
ماذا لو أصرت بعد كل هذا على إعادة المعطف
لسوف أحتفظ لها به
فسيأتي يوم لا ترفضه فيه
أواثق أنت هكذا بنفسك
ليست نفسي
بل هي عيناها اللتان باحتا بمكنونة وجدانها
لم أكن واثقا بأحد مثل ثقتي بصدق عينيها .