وفي حوار لنا مع سوزان زكريا الحجاوي تحدثت ابنته الكبرى ..وتوقف الحوار حين سالت الدموع من خديها بغزارة فقد قالت: لم أعرف قيمة أبي إلا عندما كبرت .. لكنني أتذكر أن أساتذتي في المرحلة الابتدائية كانوا يعرفونني بأنني ابنة زكريا الحجاوي، وحلمت بأن أكون صحفية، وأحسست بالموهبة تنمو داخلي لكن والدي لم يشجعنى على ذلك لأن كل واحد يعرف صعوبة المجال الذي يعمل فيه ومتاعبه، وكان يقول لي إن الصحفية الناجحة تنجح على حساب بيتها وأولادها وقال لى أنا أعلمك لكي تكوني مثقفة وتحسنين تربية أولادك لذا تخرجت في كلية التجارة وحصلت على دبلوم من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وأذكر أصعب المواقف التي مر بها والدي عندما صدرت الأعداد الأولى من جريدة الجمهورية والتى قام بإعدادها والدي بتكليف من أنور السادات، وفوجئ بعد صدورها بخطاب إقالته، ولم يعرف السبب، لكنه عرف بعد ذلك أن هناك شخصا بالجريدة كان من المخابرات وله علاقة بجمال عبد الناصر، وقام بنقل كلام خاطئ عن والدي من أنه ليس معجبا بسياسة عبد الناصر وأن تجربته ليس بها ديمقراطية حقيقية، وأن الثورة حادت عن الخطط التي قامت من أجلها، رغم أن والدي كان وطنيا منذ بداياته، منذ دراسته في مدرسة الفنون والصنايع الملكية كلية هندسة عين شمس حاليا، حيث كان زعيما للطلبة الوطنيين وكان من دفعته محمود ذو الفقار.. وأذكر أنه حكى لي عن المظاهرة التي قام بها وذو الفقار داخل المدرسة وجاء البوليس وحاصر المكان فعمل والدي ومحمود ذو الفقار تمثيلية حيث أعلنا في ميكرفون المدرسة أن سور المدرسة مكهرب ومن يقترب منه سوف تصعقه الكهرباء.. وتقدم محمود ذو الفقار من السور ومثل أن الكهرباء صعقته وارتمى على الأرض وبالفعل ابتعد البوليس عن السور.
وعن سر تسمية أولاد الحجاوي قالت سوزان أسماني سوزان لأنه كان يقرأ حياة شكسبير، ووجد أن شكسبير له ابنة واحدة تدعى سوزان، وكانت والدتي في حالة وضع فأسماني سوزان..
أسامة أسماه إعجابا بأسامة بن زيد،
وحسنات أسماها كذلك قائلا : علشان أحط إيدي على كتفها يوم القيامة وأدخل الجنة،
أما نعمة فأسماها كذلك لأن الدكتورة التي أجرت لها عملية الولادة كانت متوقعة ولدا، فإذا بها بنت وقالت لوالدي بحزن فأسماها نعمة من عند ربنا..
ووالدتي كانت متزوجة من عمي قبل والدي، وكانت قد أنجبت فوزية وعزت وسميرة وسهير وكان والدي طيلة عمره شهما وفارسا فقد ترك زوجته ليتزوج أمي.
وعن سر زواجه من خضرة محمد خضر أضافت سوزان: تزوجها سنتين وكانت والدتي موجودة، وكنت طالبة بالجامعة وسألته عن هذا الزواج فقال: لما تكبري سوف تعرفين، لقد طلقت من زوجها وكانت معي ليل ونهار في الموالد، ولدي بنات ولا أريد أن يتقول علي أحد فتزوجتها ولو كنت أريد الزواج للزواج لتزوجت فتاة جميلة.
وقد أخذت خضرة الشهرة والمجد من والدي، ورغم زواجها عشر مرات بعد والدي إلا أنها عندما كانت تتحدث إلى الصحافة كانت تقول كنت متزوجة من زكريا الحجاوى..
وكلما أحن إلى أبي وأريد البكاء فإني أعود لقراءة مقال رجاء النقاش عنه «لماذا يا أبي تموت وحيدا غريب الدار»
أما نعمة زكريا الحجاوي فتقول: زكريا الحجاوي هو أطيب وأحن أب في هذا العالم، كان صديقا قبل أن يكون أبا .. أبناؤه هم محور حياته عاش لنا طوال حياته رغم أنه لم يكن يملك وقته، ومع ذلك كان يستطيع أن يعطينا حب العمر كله في اللحظات القليلة التي يقضيها معنا.. أحببناه وعشقناه ولم نر في هذه الحياة كلها من يستطيع أن يضاهيه في عيوننا.
وقد كان لى حظ الاقتراب من أبي بحكم وجودي معه في قطر قبل وفاته مباشرة والتى مكثنا بها نحو ثلاث سنوات..
كم كنت فخورة بأننى ابنة لهذا الرجل العظيم، ومن أكثر الأشياء التي تحزننى أن انتاجه الأدبي لم يدون كله بل أن معظمه شفاهى .. خاصة أن موهبته كانت في تبسيط المفاهيم وتوصيلها للعامة.. ويتجلى ذلك في محاضراته الثقافية في ليالى رمضان بالحسين.
أتذكر أمسياتنا في سنواته الأخيرة .. فكان يحلو له أن يتذكر سنوات دراسته في مدرسة الفنون والصنايع العليا وكفاحه مع زملائه ضد الملك فقد قام والدي بوضع بطانية بدلا من علم مصر وخطب في زملائه قائلا إن الشعب المصري في حاجة إلى بطاطين أكثر من حاجته إلى زعماء سياسيين وصدر قرار من الملك بتحديد إقامته في بلده المطرية دقهلية..
لماذا يا أبي تموت وحيداً.. غريب الدار
رجاء النقاش
كنت قادما من قريتي، خائفا من المدينة الكبيرة، ولم يكن معي .. في مواجهة الخوف .. سوى ما قرأته من كتب في تلك القرية البعيدة.. وفى الأيام الأولى التي عشتها في القاهرة وطلبت من صديق كان قد سبقنى إلى المدينة أن يأخذني إلى زكريا الحجاوي وأخذني الصديق إلى زكريا ذات ليلة من ليالي عام 1951، ودخلت عليه حجرته المزدحمة بالناس والمحررين في جريدة المصري.. وكنت في منتهى الخجل والارتباك، ولكن زكريا الحجاوي انتشلني، وتجاهل الزحام الذي حوله وأخذ يحدثنى بدفء وحرارة.
من يومها وأنا أعرفه وأناديه : يا أبي!
كان أبي.. كلما واجهتني مشكلة في الحياة طلبته فوجدته معي.
كلما نزلت من عيني دمعة مسحها!
كلما ظهرت في طريقي صخرة حمل فأسه وحطم الصخرة!
وعندما تبدو الدنيا ناعمة ومريحة وراضية.. كان من عادته أن يبتعد ويختفي عن الأنظار..
كنت أسكن في حارة «مهدي» الصغيرة الضيقة في شبرا.. ولم يكن زكريا الحجاوي يعرف عنوان بيتي ولكنه كان يعرف اسم الشارع . وكنا في أواخر سنة 1953 وكان يعرف أنني أعاني مع أسرتي من محنة صعبة وكان الحل الوحيد هو أن أترك الجامعة، وألا استكمل تعليمي، وأن أبحث عن أي عمل أخرج به أنا وعائلتي من المحنة!
ذات صباح فوجئت بزكريا الحجاوي في بيتي سألته كيف وصلت إلى البيت يا ابي، قال انني أعرف اسم الشارع الذي تسكن فيه جئت إلى الشارع وطرقت كل الأبواب .. وسألت في كل «الشقق» عنك حتى عثرت عليك أخيرا.. أنني منذ ساعات ابحث عن شقتك.
لماذا تعبت يا أبي كل هذا التعب في البحث؟
عندي لك خبر سعيد.. لقد عرضت مشكلتك على انور السادات المسئول عن جريدة الجمهورية، وقلت له أنك طالب جامعي مجتهد، وأنك مهدد بأن تتوقف عن تعليمك بسبب ظروفك فقرر تعيينك في أرشيف جريدة الجمهورية بعشرة جنيهات في الشهر وعليك أن تبدأ العمل منذ اليوم، وقبل صدور الجريدة، وسيكون العمل في المساء فلن تتعطل عن دراستك.
وكان هذا القرار طوق النجاة لي ولعائلتي في وقت كانت النجاة فيه صعبة بل ومستحيلة.
لن انسى دموع أمي في ذلك اليوم! بكت.. ودعت من قلبها لأنور السادات، ولم تكن، وهي الفلاحة البسيطة تعرف عن أنور السادات شيئا إلا أنه الرجل الذي أنقذها وأنقذ ابنها وعائلتها من المحنة وقد ماتت هذه الأم سنة 1957 وقبل ان يصبح السادات رئيسا للجمهورية بثلاث عشرة سنة!
وبكت .. ودعت لزكريا الحجاوى.. الرجل الذي حمل إليها قرارا بأن تبتسم وتفتح ذارعيها للحياة..
لماذا يا أبي تموت وحيدا غريب الدار؟
من الذي كان معك عندما نقلوك إلى المستشفى؟
وماذا قلت في الدقيقة الأخيرة قبل ان تموت؟!
وهل كنت لا تزال عاتبا وحزينا قبل أن تغلق جفنيك وترحل؟
ولماذا لم تحضر على قدميك لمصر قبل الرحيل؟
أو لست أنت الذي طالما أحس بالأحداث قبل ان تقع أو لست الذي كان يقرأ بقلبه صفحة الأيام ويحس بما تخفيه السطور؟ أو لست حاملا الدكتوراه من الله كما قلت أنت يوما عن سيد درويش!! لماذا يا ابي ترحل وحيدا غريب الدار؟ لماذا؟!
..............
خلص المقال المنقول ..
بقي كلامي وكلام غيري