قبل أيام وصلتني من مركز المعلومات دراسة خطيرة جدا، بعنوان "حوادث الطرق في مصر" عن عام 2007، وهو موضوع أثير لي كتبت عنه مريرا ووصفت هذه الحوادث بأنها "حرب أهلية علي الأسفلت"، عدد ضحاياها سنويا يفوق عدد ضحايا الحرب حروبا ضارية حولنا: في العراق وفلسطين أو بعيدة عنا في أفغانستان!
وحوادث الطرق ليست مجرد تصادم سيارات أو انقلاب مقطورات أو سقوط ميكروباصات في الترع والرياحين أو خروج قطارات عن قضبان السكك الحديدية، وإنما دماء مسالة، وبشر مصابون بعاهات مستديمة، وزوجات تترمل، وأبناء تتيتم، وأمهات تثكل، وآباء يفقدون فلذات أكبادهم..تراجيديا مروعة إن لم نكن قادرين علي تجنب "قسوتها"، فالمكتوب مكتوب، لكن علي الأقل يمكن أن نخفف منها، وكم رأيت من أسر انهارت وضاعت الحياة الجميلة من بين أيديها في "حادث علي الطريق"!
الدراسة بما شملته من معلومات تبدو دقيقة، واعتذر عن لفظ تبدو، فمازلنا مجتمعا مناهضا للمعلومات والمعرفة، ويحصل عليها الباحثون بطلوع الروح، وبعد أن يدوخوا السبع دوخات، حتي لو كانوا باحثين في مركز معلومات مجلس الوزراء.. وقد تتوه معلومة هنا أو هناك خلال حركتها من أوراق مكتب إلي مكتب حتي تصل إلي جهاز التعبئة والإحصاء، وبالطبع المركز له أساليب علمية لهامش الخطأ بمعدلات رياضية، ولكن لأسباب تتعلق بالأداء العام وهبوطه في مجتمعنا لسنوات طويلة ينتاب المرء بعض الحذر، وكلنا أو بعضنا قد يتذكر الأرقام التي قيلت في سنوات سابقة عن الدين الخارجي وأشياء أخري، وكانت مختلفة حسب المصدر الخارجة منه..
لكن هنا تبدو الأرقام دقيقة..ومخيفة أيضا، وإن كانت أقل مما توقعت، إلي درجة أنني حمدت الله أنها "تجمدت" عند هذا الرقم، 22400 ألف حادث سيارات في عام 2007، وكانت الأرقام التي سبق نشرها تتجاوز الـ35 ألف حادثة...
والدراسة في مقارنات كثيرة وضعت عام 1990 هو المؤشر أو القاعدة التي نقيس عليها، والمدهش أن معدل عدد الحوادث قل في العام الماضي عما كان عليه منذ 17 عاما، فقد كان 35 حادثة لكل مائة ألف مواطن، وانخفض إلي 30 حادثة فقط، وهذا انخفاض كبير جدا، وفر ما يقرب 4000 حادث لو استمرت الحوادث علي معدلها في عام 1990!
وفي الحقيقة الدراسة لا تبين كيف حدث هذا الانخفاض، في الوقت الذي انفجرت فيه عدد المركبات علي الطرق، وتضاعفت الطرازات الحديثة من السيارات المغرية بالسرعة الجنونية ودهش الشعار الجميل "القيادة فن وذوق وأخلاق"!
والمدهش أن عام 2000 هو الأعلي في معدل حوادث الطرق عبر 17 سنة، وقد وصلت إلي 40 حادثا لكل مائة ألف نسمة، وعام 2006 هو أقلها 26 حادثا لكل مائة ألف نسمة.
ولم يقل معدل الحوادث منسوبا إلي عدد السكان فحسب، بل أيضا قل منسوبا إلي عدد السيارات، فقد انخفض من 8,3 لكل ألف سيارة إلي 5,3 لكل ألف سيارة..وهذا شيء طيب للغاية.
وبالطبع لم تقدم الدراسة هذا التفسير لأنه ليس دورها، هي فقط ترصد الواقع والوقائع وتصنفه بطريقة علمية لمن يريد أن يفهم ويفسر ويشرح ويقرر!
وبالرغم من تناقص معدل الحوادث بالنسبة للكثافة السكانية في عام 2007، وليس عدد الحوادث الإجمالية، فإن معدل الخطورة زاد جدا، بمعني أن نسبة حوادث الماضي كانت أكثر، لكنها أقل خطورة علي حياة الركاب والمارة من حوادث هذه الأيام، بل تثبت الأرقام أن معدل الخطورة تضاعف تقريبا، يعني الحادثة التي كان يروح ضحيتها فردان ارتفع عدد ضحاياها إلي أربعة أشخاص!
وهذا سهل التفسير، ويبين أن الحوادث صارت مميتة، من جراء السرعة والإدمان وحب المغامرة وفقدان الصبر والاستهتار..وفي الوقت ضعف هياكل السيارات وقدرتها علي حماية ركابها!
ويبدو أن نصيب مصر 61,4 حادثة كل يوم، وبالطبع لا تتساوي المحافظات في عددها، فلا يعقل أن تقع حوادث في محافظة شمال سيناء أو الوادي الجديد التي يمكن أن نحصي فيها عدد السكان والعربات علي أيدينا مثل الحوادث التي تقع في الجيزة أو القاهرة أكثر المدن توحشا وتكدسا بالبشر والمركبات.
لكن الغريب أن تحتل الجيزة مقدمة محافظات الجمهورية في حوادث السيارات، أكثر من تسع حوادث يوميا، وإن كانت قليلة الخطورة ولا يروح ضحية الحادث سوي فرد في المتوسط، لكنها كثرة الحوادث فيها مسألة تحتاج إلي مراجعة شاملة من مرور الجيزة علي الطرق والسائقين والسيارات..
ويليها القاهرة بالطبع في كثرة عدد الحوادث لكن علي مسافة بعيدة، فالقاهرة اقل من الجيزة بنسبة 30 % تقريبا، وهذا منطقي فالقاهرة مخنوقة الشوارع يكاد يتوقف فيها المرور تماما، وحين تخرج منها السيارات إلي الطرق الأسرع نسبيا، تكون قد دخلت إلي محافظات أخري: القليوبية أو الجيزة..وبعد القاهرة تأتي الدقهلية، وهذا شيء منطقي، فطريق بنها المنصورة من الطرق الصعبة جدا ومزدحم أغلب الوقت، وأي غفوة أو غفلة أو شطارة تسبب كارثة علي الفور، لكن الغريب حقا ألا تحتل الدقهلية مكانة متقدمة في ترتيب اخطر عشر محافظات في حوادث الطرق، ويبدو أن زحام كل من طريق بنها المنصورة أو طنطا المنصورة مع كثرة القري والمدن التي تقطع الطريق وتبطئ من سرعة السيارات لها "يد" في تقليص درجة الخطورة مع كثرة عدد الحوادث!
لكن أسيوط تستحوذ علي أعلي نسبة من الحوادث الخطيرة، مع أن عدد حوادثها اليومية ضئيل ولا يدخل ضمن المحافظات العشر الأول علي مستوي الجمهورية، وبالرغم من هذا فكل حادث فيها يروح ضحيته ما يقرب من سبعة مواطنين ما بين قتلي ومصابين، وهو رقم مخيف فعلا، ويبدو أن الطرق في محافظة أسيوط "حرة" غير خاضعة لرقابة من أي نوع، فيرتفع فيها نسبة الاستهتار بحياة الناس..كما أن الطريق الزراعي من أول المنيا إلي أول سوهاج قاطعا محافظة أسيوط بطول 120 أو 130 كيلو مترا بمحاذاة الرياح التوفيقي كله منحنيات خطيرة ومعقدة، ومع السرعة والغفلة تبتلع الرياح بعضا من الضحايا وتسال دماء بقيتها علي الأسفلت!
ولا تنفرد أسيوط بالخطورة وتحتكرها لنفسها، فقد زاحمتها الإسكندرية الجميلة، وهذه مفاجأة، فالإسكندرية في المرتبة الثانية من حيث الخطورة وعدد ضحايا كل حادث يتراوح ما بين 4 وخمسة قتلي ومصابين، والإسكندرية لها 4,8 حادث يوميا، أي يسقط فيها ما بين 18 إلي 22 مصابا وقتيلا!
ولم يفصل الدراسة عدد الحوادث وضحايا علي كل طريق مؤد أو خارج من الإسكندرية، حتي يمكن تحليل هذه الأرقام حسب طبيعة الطريق ونوع السيارات المارة عليه، فهناك طرق إلي البحيرة ومرسي مطروح وكفر الشيخ.. فأيها أكثر خطورة؟!
وبعد الإسكندرية تأتي محافظة المنيا، وهذا طبيعي بحكم الجيرة والتلاصق مع أسيوط رقم واحد، ثم تأتي البحيرة وهذا متوقع فهي الأقرب إلي الإسكندرية رقم 2.
وفي العموم يرتفع عدد المحافظات الخطيرة في قبلي عنها في بحري، مع أن عدد السيارات في بحري أكثر كثيرا من عددها في قبلي: الإسكندرية، والبحيرة والغربية ومرسي مطروح مقابل أسيوط والمنيا والفيوم وسوهاج والوادي الجديد وقنا الأخيرة مع إن معدل الحوادث بها ثلاثة أضعاف حوادث أسيوط!
لكن يحتار المرء في ورود محافظة الوادي الجديد في قائمة المحافظات الخطيرة، محتلة المركز السابع..فهي محافظة قليلة السكان والسيارات..فكيف تأتي لها هذه الحوادث الخطيرة التي يروح ضحيتها 2.3 شخص في كل مرة؟!
فعلا حاجة غريبة..لكن يبدو البراح والفراغ والهدوء عناصر تساعد علي السرعة والسرحان وهما ألد أعداء القيادة السليمة!
وحسب بيانات وزارة النقل تعرج الدراسة إلي بيانات نوعية أكثر تفصيلية، فنجد أن أغلب الحوادث التي وقعت في عام 2007 كانت في ثلاثة منا رئيسية: أسيوط غرب الدلتا ومدن القناة وسيناء، تقريبا استحوذت علي 63 % من إجمالي الحوادث في البلاد!
وتري وزارة النقل أن انفجار إطار السيارة هو السبب الأول في الحوادث، بنسبة 19.2%، يليه السرعة الزائدة بنسبة 14.4%، ثم تصادم مركبتين وتجاوز خاطئ بنسبة لكل منهما 12.3%، أما عدم يقظة السائق فلا تزيد نسبتها علي 11%.. يعني العنصر البشري من سرعة وتجاوز وعدم يقظة وتوقف مفاجئ مسئول بنسبة 55% تقريبا من حوادث الطرق، ولم تذكر وزارة النقل سببا واحدا غير السيارة والقائد والأحوال الجوية..فالطرق في مصر في رأيها عال العال ولا يمكن أن تكون سبباً جوهريا أو ثانويا في أي حوادث، فهي ناعمة كالحرير بلا عيوب فنية وربما تتفوق علي مثيلتها في أوروبا وأمريكا..
عجيب والله أمر وزارة النقل.. وإذا كانت هذه هي الطريقة التي تفكر بها، فيستحيل أن تحسن من نفسها ومن طرقها، مع أن 90 % من طرقها كلها عيوب فنية مخجلة ومخيفة وفاسدة!
وعموما أعلي الطرق في الحوادث هي طريق مصر الإسكندرية الزراعي في ثلاث مناطق رئيسية: شبرا الخيمة، قويسنا، دمنهور، وبعده بمسافة كبيرة يأتي طريق القاهرة إسماعيلية، ثم الطريق الدائري حول العاصمة، فالقاهرة السويس، ثم القاهرة الفيوم الصحراوي.
طبعا اقل خسائر السيارات في رأيي هو "الفلوس" بالرغم من قيمتها، ونحن نتحدث تقريبا عن 16 مليار جنيه في دراسة للحزب الوطني عرضها خلال مناقشة قانون المرور الجديد، لكن دراسة مركز معلومات مجلس الوزراء لا تتحدث سوي عن تعويضات الحوادث التي دفعتها شركات التأمين وقد بلغت في العام الماضي مليار جنيه تقريبا!
لكن أخطر ما في الدراسة هو بيان العجز الشديد في مراكز الإسعاف علي الطرق، فلكل 86 ألف مواطن مركز إسعاف، لكن الغربية لها مركز لكل 170 ألفا..
وهذا العجز يكشف لماذا يسقط ضحايا جدد بعد الحادث مباشرة..
فهل يمكن لوزارتي النقل والصحة والداخلية مع كل المحافظين أن يجلسوا معا ويدرسوا ويتخذوا قرارات تحفظ هذة الدماء المسالة على الاسفلت.
https://www.elfagr.org/TestAjaxNews.a...852&secid=2809
آخر 10 مشاركات
30th October 2008, 12:29 PM
العرض العادي
