فى ليله حجب الضباب نجومها ...وخامر الهول سكينتها ...سرت وحيدا اطلب الانفراد بعيدا عن جميع الناس ...وقفت مصغيا لهمس الأشباح محدقا بالاشئ ...ولما انتصف الليل وقد خرجت مواكب الأرواح من اوكارها بعدما دخلت الاجساد الى فراشها ...سمعت وقع أقدام ثقيله تقترب منى..فالتفت فاذا بشبح جبار مهيب منتصب أمامى ...فصرخت مذعورا(ماذا تريد منى؟)..
فنظر الىّ بعينين مشعشعتين كالمصابيح ثم أجاب فى هدوء (لاأريد شيئا واريد كل شئ)
قلت (دعنى وشأنى وواصل طريقك)
فقال وعلى وجهه ابتسامه (طريقى هو طريقك...فأنا سائر حيث تسير ورابض حيث تربض)
قلت..(جئت اطلب الانفراد والوحده فدعنى وشأنى)
فقال(أنا الوحده فلاتخاف منى)
فجلس أمامى وقال وقد اكتسب وجهه هيئه اخرى غامضه ..(مااسمك؟)
فقلت..(قد وهبنى والدى اسم عمرو وانا أعتزّ بهذا الاسم كثيرا وأحبه)
فقال(ان بليه الابناء فى هبات الآباء ومن لايحرم نفسه من عطايا آبائه وأجداده يظل عبد الاموات حتى يصير من الاموات)
فقلت (كثرا مايحرم الابناء تلك الهبات وهم مع ذلك عبيد الحياه وليسوا عبيد الأموات بل هم احياء كما ينبغى ان يعيشوا الحياه)
فقال(أنت تنظر بعين الوهم فترى الناس مرتعشون امام عاصفه الحياه فتظنهم احياء وهم اموات منذ الولاده ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم فظلوا فوق الارض ورائحه النتن منبعثه منهم)
قلت وقد ذهب عنى بعض الخوف(وكيف أميز بين الحى والميت وكلاهما يرتعشان امام العاصفه؟)
فقال(ان الميت يرتعش امام العاصفه اما الحى يسير معها)
فسألته (من أنت ايها ارجل وماذا أتى بك فى تلك الناحيه؟)
فأجابنى(أنا فى كل مكان وفى كل الازمان) ثم بصوت كالرعد(انا الموت أيها الرجل فاتعظ ..اسمع كلماتى تلك واعتبر)
فعاودتنى ارتعاشتى مره اخرى ورددت كلمته..(الموت ..الموت..يالها من كلمه مهيبه عميقه..حدثنى عنك ايها الموت)
فأجاب(أنك تريد ان تعرف اسرار الموت ولكن كيف تجدها ان لم تسعى اليها فى قلب الحياه؟
فاذا رغبت ان تنظر روح الموت فافتح ابواب قلبك لنهار الحياه..لان الحياه والموت واحد كما ان ابحر والنهر واحد ..ففى اعماقك ورغباتك تتكئ معرفتك الصامته لما وراء الحياه وكما تحلم الحبوب المدفونه تحت الثلوج بالربيع فهكذا يحلم قلبك بربيعه..
أما خوف بعض الناس من الموت فهو أشبه بارتعاش الفقير المسكين امام الرئيس الذى يريد ان يكرمه وينعم عليه بوسام الرضا...
افلا يفرح الفقير مع ارتعاشه لان الرئيس يقلده وسام الرضا والغنى؟ ولكن الا يشعر مع ذلك بارتعاشه وخفقان قلبه؟
وهل موت الانسان هو اكثر من وقوفه عاريا فى الريح وذوبانه فى حراره الشمس..
ام هل انقطاع التنفس غير تحرير النفس لكى يستطيع ان ينهض من سجنه ويحلق فى الفضاء ساعيا الى خالقه من غير قيد ولاعائق؟
تمليت فى كلماته ثم قلت..
(معك حق فانت الموت آت لامحاله ان موتنا اليوم كموتنا غدا او بعده..لان ايامنا مثل اوراق الخريف تتساقط وتتبدد امام وجه الشمس)..
نظر الىّ نظره غريبه وقال لى(هل ترجو الموت وتتمناه؟)
فأجبته(نعم..أنا أريد الخلاص والحريه من هذا العالم ...قد تعب قلبى داخل صدرى ..تعب العصفور السجين من قفصه وأراد الطيران والانطلاق)
فقال(ولكنكم ايها البشر تعشقون الحياه وتهابون الموت...تحتالون وتكذبون لانكم تظنون ان الدنيا خلد دار بقاء وليست دار فناء)
قلت له(جميع الناس يعرفون ان الموت نهايه المطاف لكنهم يغلقون عينهم وبصرهم عن تلك المعرفه)
فقال لى..(هل تريد أن آخذك لمكان ترى فيه البشر على حقيقتهم حيث تٌرفع كل الحجب والأسرار)
قلت له(نعم ..نعم..انا اريد)
فأخذنى على اجنحته الهائله وطار بى بعيدا بعيدا ..ثم انزلنى على مكان غريب جدا جدا..
سألته(اين انا الان)...فأجاب( انت فى حقول الحيره)..قلت (لنرجع)..فقال..(اصبر..الحير ه بدايه المعرفه )
..رأيت الارض من السماء ورأيت اسرار سكانها امامى كالخطوط فوقفت متهيبا امام الموت متأملا خفايا الانسان مستفسرا رموز الحياه ..رأيت وليتنى مارأيت ...رأيت ملائكه السعاده تحارب ابالسه الشقاء والانسان بينهما فى حيره تميل به الامال تاره والقنوط اخرى..رأيت الحب والبغض يلعبان بالقلب البشرى..هذا يستر ذنوبه ويسكره بخمره الاستسلام ويطلق لسانه بالمديح وذاك يعميه عن الحقيقه ويغلق سمعه عن القول الصحيح..رأيت من يدعون انهم شيوخ يروغون كالثعالب بين الناس يبثونهم الفتاوى الضاله الكاذبه..يحتالون على ميول النفوس والانسان يصرخ مستنجدا بالحكمه وهى نافره عنه وغاضبه عليه لانه لم يسمعها عندما نادته داخل نفسه ..رأيت هؤلاء الشيوخ يكثرون رفع عيونهم الى السماء وقلوبهم متعلقه بقبور المطامع ..رأيت الشباب يتحببون بألسنتهم ويقتربون بامال تفاهتهم وعواطفهم وطموحاتهم نائمه ..رأيت حاكمنا يتاجر بثرثره الكلام بشوق الخداع والرياء ..رأيت الاطباء يلعبون بارواح البسطاء ...رأيت الجاهل يجالس العاقل فيرفع ماضيه على عرش المجد..ويمد لمستقبله فراش الفخامه..رأيت الفقراء المساكين يزرعون والاغنياء الاقوياء يحصدون ويأكلون والظلم واقف هناك والناس يدعونه الشريعه وماهى بشريعه..فالشريعه التى يظنها الناس واقاموا لها صنما داخل نفوسهم يعبدونها على طول الاجيال هى شريعه فاسده ..فالله لم يقل لنا ارضوا بالهوان والذل ...رايت الكذب يقيم بجانب الصدق ..رايت قصورا شاهقه تمثل المجد والسلطان ولكنها فى الحقيقه ليست سوى مغاور يختبئ فيها الذل والشقاء والتعاسه..فهى قبور يتوارى فيها المكر والانانيه والجشع..قصور تتشامخ جدرانها افتخارا نحو العلاء ولو كانت تشعر بانفاس الغش داخلها لتشققت وتبعثرت وهبطت الى الحضيض ..رأيت لصوص الظلمه يسرقون كنوز العقل ..رأيت المرأه كالناى فى يد الرجل لايحسن العزف عليها فتسمعه انغاما لاترضيه..رأيت الحريه الحقيقيه تسير وحدها فى الشوارع تطلب المأوى والناس يغلقون الابواب فى وجهها ..ثم رأيت الابتذال والسفه يسير فى موكب عظيم والناس يدعونه الحريه..رأيت الدين مدفونا فى الكتب والوهم قائما مقامه..رأيت الناس تلبس الصبر ثوب الجبن ..وتعطى التجلد لقب التوانى والضعف ..ويدعو اللطف باسم الخوف...عندما رأيت كل تلك الاشياء صرخت متالما من هذا المنظر ..
ان باطن الناس حقا مؤلم وصعب ..فلنحمد الله ان لنا الظاهر والباطن وحده لله ...والكل سيكون مآله الموت ..خيّرا كان أم شريرا ..
شكرت الموت على تلك الفسحه المؤلمه وطلبت منه أن يرجعنى الى مكانى الذى اخذنى منه ...فقال لى فى غموض(سوف أرجعك لذلك المكان لان ساعتك هناك)
قلت(ماذا تقصد؟)
قال فى غموض أكثر(قد سألتنى ماذا أتى بى الى تلك الناحيه والان اجيبك فى صراحه...قد أتيت من أجلك ايها العمرو)
وقبض روحى!!
ـــــــــــ
بقلم عمــــــــ رسول جبران خليل جبران ــــــــرو النجار