الفساد
|
اقتباس |
|
|
|
|
|
|
|
|
عُرفت مصر منذ قرون عدة بظاهرة اجتماعية تتمحور حول ارتباط شديد بين المصرى وبين وطنه ، ولم يكن ذلك غريبا على التفسير ، فالمورد الطبيعى الذى قامت عليه الحياة المصرية الاقتصادية هو " الأرض " ، حيث كانت الزراعة هى محور الارتكاز الرئيسى .
ووصل الأمر إلى أن حصل ترادف بين كرامة المصرى وعرضه وشرفه وبين حرصه على " الأرض " ، التى شاع وصفها " بالطين " ، نظرا لدلالة ذلك على البعد الإنتاجى الزراعى ، فلم تكن الأرض المصرية أى أرض ، وإنما هى أرض " طينية " تنبت الزرع الذى هو مأكل الإنسان والحيوان ، وكثير منا يذكر تلك التمثيلية الإذاعية التى اضطر فيه بطلها " عواد " أن يبيع أرضه ، فسار الأطفال فى مظاهرة تجرى وراءه يعايرونه بتلك الصيحة " عواد باع أرضه ..يا ولاد ، شوفوا طوله وعرضه ..يا ولاد " .
ولأن نمد الإنتاج الأساسى هو الزراعة ، فإن هذا النمط يتطلب الاستقرار والارتباط بالأرض ، ولذلك نجد أن العكس تماما كان بالنسبة لليهود ، فلأنهم كانوا غير مستقرين فى معظم البلدان التى أقاموا فيها ، تركز اقتصادهم فيما هو سريع الانتقال ، وخاصة فى تجارة المال ، وكانوا بعيدين تماما عن الاشتغال بالزراعة ما دامت تتطلب استقرارا ، ومن هنا فقد تضمن التخطيط بعيد المدى للصهيونية لاستعمار أرض فلسطين ، أن يتعلم يهودها الزراعة ويشتغلوا بها ، مما يفسر لماذا كانت أول مؤسسة تعليمية أقاموها فى أول القرن العشرين على أرض فلسطين كانت مدرسة زراعة .
لكن الأمر بدأ يختلف اختلافا كثيرا بعد هزيمة يونيو 1967 ...
وانتهى الحلم الكبير لنصحو على بداية حياة مؤلمة >>
وبدأ التفكير يشتد لدى فئات من المصريين للهجرة خارج مصر ..
تركزت هذه الظاهرة فى البداية بين العلماء ، أعضاء البعثات الخارجية إلى الجامعات الغربية ، وتركزت كذلك فى عدد من الأقباط ..كانت هجرة رفيعة المستوى ، لم يكن الدافع وراءها فقط الحصول على لقمة العيش ، بل رافق ذلك دوافع أخرى ، مثل تنسم الحرية والبحث العلمى والمناخ البعيد عن قيود البيروقراطية ، وبدأنا نسمع عما سمى بهجرة العقول . ولما كان البعض منا يقول للمهاجرين أن مصر أولى بجهدهم ، كان البعض منهم يرد بأن الوطن الحقيقى هو الذى يحمى ، ويشجع ، ويتيح الفرص ، ولا يطارد ويسجن ويعتقل ، ويُضَيّق على الناس معيشتهم فى سبيل أمل تبين أنه سراب ، وأن قبة من غير شيخ يرقد تحتها .
لكن الخروج الكبير حقا كان بعد حرب أكتوبر عام 1973 ...
فقد كانت سلاسل الفقر تزداد تقييدا لحركة المصريين فى الحياة ، ففى خلال فترة قصيرة خضنا خمسة حروب : 48 ، و56 ، 67 ، وحرب الاستنزاف ، و73 ، فضلا عن حرب سادسة استمرت خمس سنوات هى حرب اليمن ... فى خلال خمس وعشرين سنة ، نخوض كل هذه الحروب ، الأمر الذى كان من شأنه أن يمتص الكم الأكبر من الطاقات ، ويا ليت كل هذا كان فى سبيل تحقيق أهداف الأمة وتعزيز خير مستقبلها ، وإنما انتهى الأمر إلى لا شىء ، حتى حرب أكتوبر التى لاح فيها نصر مؤكد ، تمكنت إدارة القيادة المصرية السياسية القاصرة من أن تفقدنا الكثير مما كان يمكن أن نجنيه من مكاسب !!
وبدأت القيادة السياسية ما سمى بسياسة الانفتاح غير المنضبط ، وإذا بألوف مؤلفة تتدافع للخروج ، إلى حيث دول النفط التى بدأت أنهار المال تتدفق عليها ، وإذا بمن يرى المصريين وهم يتدافعون للخروج يخيل إليه أنهم كانوا محبوسين فى قفص كبير هو الوطن الذى عجز قادته أن أن يقوموا بالمهمة التى تُكسب حكمهم الشرعية الحقيقية : أن يجد المواطنون السبل الكفيلة أمامهم لكسب لقمة العيش والعثور على مأوى ..
ألوف مؤلفة كأنهم من الجياع المحرومين ، حتى اشتهر المصريون أثناء عودتهم أو زيارتهم لمصر وقت الإجازات ، بحمل المراوح والترانستور ، والتفاح ،والسجائر المارلبورو والكنت ...نهم استهلاكى ، انتقلت عدواه إلى ملايين بالداخل ، فيصبح حلم كثيرين أن يخرجوا ، ليحققوا حلم الحياة الكريمة التى افتقدوها داخل وطنهم .
كان يمكن أن يتم هذا الخروج الكبير الذى بدأ فى أوائل السبعينيات فى إطار خطة تضبط الموازنة بين احتياجات العمل الداخلى ، واحتياجات الذين يريدون الخروج ، فضلا عن وضع ضوابط فى علاقات بين الدولة وبين حكومات الدول المهاجَر إليها ، لكن ذلك لم يتم ، فإذا بمواقع عمل بالداخل تخرب نتيجة هجرة أصحاب المهارات والكفاءات العالية ليحل محلهم أنصاف الماهرين ، بل والمفتقدين لأية مهارة ، فأصيبت حركة التنمية فى مصر بتشوهات جسيمة ، فضلا عن تزايد التضخم وارتفاع الأسعار نتيجة دخول أموال ضخمة بغير إنتاج فى الداخل .
وزاد الطين بلة ، الغياب الكبير لحماية الدولة المصرية للمواطنين المهاجرين للخارج ، مما عرّض كثيرا منهم لعمليات استغلال وضياع حقوق وسوء معاملة ، وكل ذلك كانت له آثاره السلبية على مشاعر الانتماء والولاء للوطن .
ومنذ التسعينيات ، بدأ الطلب على العمالة المصرية فى دول النفط يتراجع بشدة ، فى الوقت الذى لم يلمس المواطن تحسنا فى معيشته بالداخل ، وفى المقابل ، يتم نزف مئات الملايين من الجنيهات والدولارات عن طريق قروض بنكية من ودائع المواطنين تستولى عليها حفنة من اللصوص باسم تشجيع القطاع الخاص ، وبغطاء بعض من فى مواقع السلطة ، ويهرب لصوص المال بما اقترضوه ، وتتدفق ملايين ضخمة على حفنة ممن استطاعوا أن يتزاوجوا مع السلطة ، فتظهر أرقام ضخمة تشير إلى تزايد فى الدخل العام ، دون نظر إلى " توزيع " هذا الدخل ، فالنظر المدقق ، يرى المقولة الشهيرة القائلة بأن الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون غنى ، متحققة أمام ناظريه بوضوح !
وفى ظل هذا التدفق الكبير للمال فى جيوب رجال الأعمال ، تشهد بيوت عموم المصريين كيف أن أولادهم بعد أن ينفقوا عليهم طويلا من أجل أن يتعلموا ويعملوا ويفتحوا بيوتا ، لم يحصلوا على شئ من هذا ، فيظلل الإحباط العام معظم البيوت .
هنا تكاد تنعدم مشاعر الوطنية بالنسبة لمن يجد نفسه قابعا على الرصيف بلا قدرة على العمل ، ولا قدرة على الزواج وتكوين أسرة ، فما العمل ؟
تخيل عمارة يشب فيها حريق ، وبداخله سكان ، ماذا يفعلون وقد حاصرتهم النار ، ولا طريق إنقاذ يلوح لهم ؟ سوف تجد البعض يقامر بحياته ويقفز من الشبابيك ، فى عملية انتحارية !
هكذا أصبح الوطن بالنسبة لآلاف من شباب هذا البلد المغلوب على أمره ، فإذا بكثيرين يتوجهون إلى الخروج بطرق غير شرعية بحثا عن عمل فى إحدى الدول الأوربية ، عن طريق البحر ، وهو يعلم مقدما أنه يخاطر بحياته ، ولتقرأ معى أيها القارئ وصف ما حدث لأحدهم مما هو منشور فى أهرام 22 سبتمبر 2..7 : " ...تركت والدى المريض وأشقائى الخمسة ومنهم اثنان معاقان ذهنيا ودفعت مبلغ 5 آلاف جنيه هى كل ما استطعنا جمعه ، كما وقعت أنا ووالدى على إيصالات أمانة بمبلغ 4. ألف جنيه لكى أتمكن من السفر ، وعندما حل الموعد صعدنا على ظهر مركب صيد صغيرة من أمام شاطئ إدكو ، وتجمع عليها أكثر من 17. شخص أعمارهم تبدأ من 11 عاما حتى 35 ..."
ودون استطراد فى تفاصيل الأحداث ، فالنتيجة هى غرق كثيرين فى البحر، وضياع الحلم ، ويعود البعض إلى بلادهم فى نعوش ، ويكرر المسئولون الاسطوانة المشروخة : أن هذا نتيجة للهجرة غير الشرعية ، دون أن يتوقفوا ليسألوا أنفسهم السؤال الأهم : ما الذى يدفع مئات من الشباب المصرى على هذه المغامرة أو المقامرة ، والتى يمكن فيها أن يفقد حياته فى سبيل فرصة عمل غير مضمونة ؟
ووفقا للعقلية الأمنية التى تدير الوطن ، يتلخص الجهد الرسمى فيما صرح به مسئول الداخلية " أن الإدارة تتخذ إجراءات قانونية صارمة ضد وسطاء وسماسرة تسفير الشباب بالطرق غير المشروعة ويتم مصادرة أموالهم وممتلكاتهم بقرارات من النيابة العامة كإجراءات رادعة لهم ،وأنه تم ضبط 442 قضية ل 611 متهما فى 26 عصابة دولية تم ضبطها من أول العام حتى منتصف سبتمبر " !
هل هذا هو الحل ؟ إن الرجل له عذره ، فله مهمته المحددة ، لكن هذه ليست القضية ، القضية هى : ما الذى يدفع هؤلاء الشباب إلى المقامرة بحياتهم والاستغناء عن كل قرش يملكونه فى مصر فى سبيل الجرى وراء أمل ليس مؤكدا ؟
لا أريد أن أفرض إجابة وإنما أتركها للقارئ ، فالعثور على الإجابة الصحيحة هو الذى يشير لنا على الحل المطلوب
منقول |
|
|
|
|
|