استمرار الكفاح في القنال
لم تتراجع مصر أمام تهديدات البريطانيين، وخاصة تصريح الجنرال بريان روبرتسن، واستمر الكفاح في القنال مضياً في سبيله.
محاولة اغتيال الجنرال اكسهام 31 ديسمبر سنة 1951
ألقى بعض الفدائيين ثلاث قنابل يدوية على سيارة البريجادير جنرال اكسهان قائد القوات البريطانية في منطقة الإسماعيلية يوم 31 ديسمبر سنة 1951 بالقرب من كوبري نفيشة، أثناء ذهابه إلى منطقة القصاصين، وقد أصابت سائق السيارة كما أصابت مقدمتها، ولكنها لم تصب البريجادير اكسهام، وعقب وقوع هذا الحادث انتشرت قوات بريطانية تؤيدها الدبابات والمصفحات على طول الطريق أبي صوير وأخذت تفتش المارة في تعسف واستفزاز. ثم حاصرت بعض القرى وفتشت منازل الأهلين فيها بحجة اعتصام الفدائيين بها.
معركة أخرى في السويس 3 – 4 يناير سنة 1952
وقعت في يومي الخميس والجمعة 3 و 4 يناير سنة 1952 معركة أخرى دامية في السويس بين البريطانيين والمصريين من رجال البوليس والمدنيين.
بدأت المعركة عصر يوم الخميس، واستمرت إلى اليوم التالي، كانت بدايتها عدوان من الإنجليز، إذ خرجت سيارة جيب من معسكرهم الرئيسي بالسويس تقل ضابط وبعض الجنود. واتجهت إلى مدخل المدينة في الطريق المعروف بطريق المعاهدة.
ولما وصلت إلى ورش القاطرات التابعة لمصلحة السكك الحديدية أرادت اقتحام هذه الورش. فحذر الحرس راكبيها. فأجابوا على هذا التحذير بإطلاق الرصاص عليهم. فرد الحراس على هذا العدوان يضرب مثله.
ولم يمض دقائق حتى خرجت من المعسكر البريطاني دبابتان وعشرون سيارة مصفحة وثلاثون سيارة نقل (لوري) تعج بالجنود الإنجليز. واتجهوا إلى وابور تكرير المياه للمعسكرات البريطانية المجاور لكفر أحمد عبده، وخرجت قوة أخرى صغيرة، واتجهت إلى ورش القاطرات.
ووصلت أنباء هذه التحركات إلى رجال البوليس، فأيقنوا أن الإنجليز يريدون الاعتداء على المدينة كلها، فتحصنوا في منازل كفر محمد سلامه وكفر البراجيل المجاورة لكفر أحمد عبده. وكذلك تحصن الفدائيون في بعض المنازل.
وتبادل الفريقان إطلاق الرصاص، وكان الأهالي ينقلون الزخيرة إلى رجال البوليس والفدائيين المحصنين في المنازل تحت وابل من رصاص الإنجليز، فلم يرهبوا الرصاص. وساهموا بشجاعة في رد العدون. ولما جن الليل هدأت المعركة قليلا.
قضت القوات البريطانية ليلة 4 يناير في تعزيز مواقعها في منطقة وابور المياه. وكان ذلك نزيراً بهجوم جديد لها على المدينة. وقد اتخذت هذه القوات مواقعها بين المساكن المتهدمة في كفر أحمد عبده وفي ورشة الوابورات موجهة كفر سلامة وطريق المعاهدة.
وفي نحو الساعة الرابعة من صبيحة يوم 4 يناير استأنف الإنجليز عدوانهم المسلح على أهل المدينة. وكان الفوج الأول منهم يتألف من خمسمائة جندي تعززهم عشرون دبابة.
فاحتلوا كشكي المثلث رقم 1 ورقم 2 ثم أخذوا يطلقون النار على الأهلين.
فلم يكن من الأهلين إلا أن قابلوا العدوان بالدفاع المسلح عن أنفسهم، وأجابوا على الضرب بضرب مثله، وأنضم إليهم الفدائيون من كتيبة الشهيد أحمد عبد العزيز، كما لحقت بهم قوة من رجال البوليس ليساهموا في رد العدوان.
ونشبت بين الفريقين معركة دامية انسحب على أثرها الإنجليز عائدين إلى قاعدتهم.
وانتهز المجاهدون هذه الفرصة فبثوا أربعة ألغام في جنوب وابور المياه، فأخذت تنفجر على التعاقب ونسفت بعض مباني الوابور.
وفي منتصف الساعة السابعة صباحاً عاود البريطانيون هجومهم وأخذوا يضربون مواجع المجاهدين بالمدافع، وكانوا يركزون إطلاق قنابلهم على كل بيت أو موقع اعتقدوا أن البوليس والمجاهدين يمتنعون فيه، وتبادل الفريقان إطلاق النار.
وبلغ في إسراف الإنجليز في العدوان أنهم أطلقوا ما لا يقل عن ألف رصاصة على مبنى المستشفى الأميري وحديقته، ومنزل مديره، على الرغم من ارتفاع العلم الأبيض على سارية المستشفى، وأطلقوا الرصاص أيضاً على سيارات الإسعاف وناقلات المرضى.
ولم يهرب الأهلون عدوان البريطانيين، بل تجلت روحهم المعنوية عالية، فأخذوا يتوافدون طيلة المعركة على المنطقة التي اتخذها الإنجليز ميدانا لعدوانهم، غير مبالين بالقذائف التي كانت تنطلق من مدافع البريطانيين وبنادقهم، وكان النساء والأطفال من وراء الصفوف يزودون المجاهدين بحاجتهم من الذخيرة.
وفي الساعة السادسة مساء اتصل القنصل البريطاني بالمحافظة وأبلغها أنه إذا لم يتوقف إطلاق النار من الجانب المصري فإن القوات البريطانية ستضرب إلى اتخاذ إجراءات تأديبية شديدة في الغد، وإلى ضرب المدينة بالمدافع، وأجيب القنصل على هذا التهديد بأنه يجب أن يكون مفهوما أن الجانب المصري لن يقف مكتوف الأيدي أمام أية بادرة لعدوان بريطاني، وأنه سيبادر بالرد على كل اعتداء بمثله. وأخذ الهدوء يسود المدينة ليلا، بعد أن انقطع عنها نحو ثلاثين ساعة وعند منتصف الليل أتم الإنجليز حصار المدينة وسدوا معظم المنافذ إليها.
وأسفرت هذه المعركة عن خمسة من الشهداء و44 جريحا من المصريين وعرفنا من أسماء الشهداء : صابر حسين حسن (وهو طفل صغير)، نور الدين حسن يوسف، فؤاد محمد إسماعيل علوان.
واستشهد في اليوم التالي علي شعراوي من عمال وابور المياه التابع لبلدية السويس.
وبلغ عدد قتلي الإنجليز في هذه المعركة 25 وعدد الجرحى منهم 55.
الدكتور عزيز فهمي:
وقد هزت الأريحية الوطنية المرحوم الدكتور عزيز فهمي فسارع إلى الحضور إلى السويس قادما من القاهرة صبيحة يوم المعركة، وقصد إلى ميدان القتال، وزار المستشفى حيث واسى الجرحى والمصابين، وأخذ يشدد عزائم المجاهدين
فكان حضوره والقتال مستمر مثلا يضرب في الشجاعة والمساهمة الفعلية في رد عدوان البريطانيين.
وكان الأجدر بوزراء الحكومة أن يبادروا بأداء هذا الواجب، ولكنهم لم يفعلوا.
معركة أبي صوير 4 يناير سنة 1952
وقعت معركة في أبي صوير يوم 4 يناير سنة 1952 بين الإنجليز والفدائيين تبادلت فيها طلقات النار بين الفريقين.
واستشهد فيها ثلاثة من المجاهدين هم : محمد عبد الله على، شعيب مصطفى على، عبده محمد.
وبلغ ضحايا الإنجليز فيها خمسة.
معركة المحسمة 9 يناير سنة 1952
وبعد ذلك جرى اشتباك آخر يوم 9 يناير بين المجاهدين المصريين وبين الإنجليز في الطريق بين المحسمة و أبي صوير قتل فيه ضابط إنجليزي.
وتبادل الفدائيون الإنجليز إطلاق النيران، وهذه المعركة هي التي استشهد فيها عباس سليمان الأعسر الطالب بجامعة فاروق (الإسكندرية).
حملات تفتيشية علي القرى
ومضت القوات البريطانية في حصار القرى الواقعة على طريق المعاهدة بين الإسماعيلية والتل الكبير، بدعوى التفتيش على الأسلحة التي خبأها الفدائيون فيها، وكان هذا التفتيش يأخذ شكل حملات عسكرية إرهابية واسعة النطاق.
ففي 11 يناير سنة 1952 عبرت قوة بريطانية كبيرة مؤلفة من أربعمائة جندي من لواء المظلات ترعة الإسماعيلية في قوارب من المطاط ونزلت على الضفة اليمنى (القبلية)للترعة على بعد بضعة كيلو مترات من أبي صوير، فشنت حملة تفتيشية كبيرة على عزبتي السبع آبار وأبي سلطان.
وأكره الإنجليز أصحاب منازل عزبة أبي سلطان على إخلائها، وجمعوا رجال القرية في مكان واحد وأحاطوهم بسياج من الأسلاك الشائكة، ووضعوا النساء والأطفال داخل سياج آخر، وفتشوا المنازل واحداً واحداً، واعتقلوا عدة مواطنين نقلوهم إلى أحد المعسكرات.
معركة التل الكبير 12 – 13 يناير سنة 1952
في يوم السبت 12 يناير سنة 1952 هاجم الإنجليز بلدة التل الكبير بدعوى أنها تؤوى بعض الفدائيين الذين كانوا يهاجمون معسكراتهم في هذه الناحية.
قاوم رجال البوليس والفدائيون هذا الهجوم مقاومة جمعت بين البطولة والمهارة في القتال، فقد علموا باستعداد الإنجليز لمهاجمة بلدتهم، وأنهم ملأو اقطاراً بالذخيرة والسلاح والجند، وأن هذا القطار في طريقه إلى التل الكبير قادما من الإسماعيلية، فما أن علموا بهذا النبأ حتى ترقبوا القطار قبل وصوله، ووضع الفدائيون ألغاما تحت القضبان على مقربة من مدخل معسكر التل الكبير، فلما وصل القطار إلى هذه النقطة انفجرت الألغام ونسفت بعض القضبان، فتوقف القطار، وكان ذلك في صبيحة السبت 12 يناير.
فلما وصل دوي الانفجار إلى آذان الإنجليز في المعسكر خرجت منه قوة ضخمة تعززها الدبابات والمصفحات والطائرات وحاصرت منطقة الانفجار، وأخذت تطلق النار على من فيها.
ولما أرادت القوة البريطانية عبور الكوبري القائم على ترعة الإسماعيلية لتصل إلى موقع الفدائيين تصدى لها الفدائيون ورجال البوليس، ونزل أحدهم إلى قاع الترعة وفتح الكوبري لمنع الإنجليز من العبور فوقه، وظل المصريون والإنجليز يتبادلون إطلاق الرصاص علي ضفتي الترعة، فكان المصريون بالضفة اليمنى والإنجليز بالضفة اليسرى (شمالي الترعة).
ولما وصل نبأ هذا الالتحام إلى مديرية الشرقية بادرت بإرسال قوة من بلوكات النظام للدفاع عن الأهلين.
واستطاع البريطانيون أن يعتبروا الترعة على قوارب من المطاط، واشتبكوا مع جنود البوليس والفدائيين، واستمرت المعركة حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان البريطانيون في خلالها يطلقون نيران مدافعهم وقنابلهم الحارقة على التل الكبير والقرى المجاورة لها،فاشتعلت الحرائق في عدد من منازلها.
وحدثت اتصالات عدة بين مدير الشرقية (محمد صادق الملا) والقيادة البريطانية في القنال، أصدر الجنرال أرسكين على أثرها أمراً بوقف إطلاق النار في الساعة الخامسة مساء.
وأسفرت هذه الموقعة عن قتل عدد من الإنجليز واستشهاد سبعة من الفدائيين منهم الشهداء أحمد فهمي المنسي،وعمر شاهين، وعبد الحميد عبد الله حسن من عزبة أبى سلطان، وإصابة 14 بجراح مختلفة.
وقد أطلق البريطانيون في هذه المعركة النار جزافًا على أهالي التل الكبير، وكان من قتلاهم سيدة تدعى سيدة البنداري حسن.
وعاود الإنجليز في اليوم التالي (الأحد 13 يناير) العدوان على التل الكبير فصمد لهم المجاهدون مرة أخرى، ولكن الإنجليز تكاثروا حتى صاروا ألفي جندي، ومدوا الكباري المتحركة على ترعة الإسماعيلية، وحاصروا التل الكبير وحمادة وأبو حماد وغيرها من القرى، وقتلوا من وجدوهم من الرجال والنساء والأطفال.
وهاجرت عائلات كثيرة من هذه البلاد تفاديًا من اضطهاد الإنجليز.
وفي اليوم التالي ضرب الإنجليز التل الكبير بالمدافع، فتهدمت منازل كثيرة فيها، كما ضربوا القرين وحمادة وأبو حماد.
كانت هذه المعركة أعنف معركة مكشوفة بين المجاهدين والإنجليز، ومما يذكر عنها أن الإنجليز أسروا سبعة من المجاهدين ولم يعاملوهم معاملة الأسرى، بل صلبوهم على الأشجاء وأطلقوا عليهم الكلاب المفترسة تنهش أجسامهم لحملهم على الاعتراف على زملائهم، فلما أبوا أعدموهم رميًا بالرصاص في أحد معسكراتهم، وهو عمل همجي يدل على منتهى الفظاعة والوحشية.
ما كتبته الصحف البريطانية عن معركة التل الكبير
كان استبسال الفدائيين وجنود البوليس في معركة التل الكبير عملاً جليلاً استرعى الأنظار، وقد اعترفت صحف لندن في تعليقاتها على هذه المعركة بأن حركة المقاومة الشعبية أخطر مما كان الإنجليز يتصورون.
فذكرت كبريات الصحف الإنجليزية غداة المعركة أن الفدائيين المصريين خاضوا غمار معركة استمرت خمس ساعات، ولم ينسحبوا إلا خشية تطويقهم، وأنهم استخدموا المدافع الأتوماتيكية.
وكتبت صحيفة (الديلي ميرور) تقول : "لا نستطيع بعد اليوم أن نقول عن قوات التحرير المصرية المؤلفة من شباب متحمس أنها إحدى الدعايات المضحكة، لقد دخلت المعركة بين مصر وبريطانيا في دور جديد، واستمر القتال يوم السبت الماضي يومًا بأكمله، وظل الطلبة المتحمسون يحاربون فرق "الكاميرون والهايلاندرز" باستماتة عجيبة.
وقالت جريدة (نيوز كرونيكل) في كلامها عن معركة التل الكبير : "إنها أول المعارك المنظمة تنظيمًا جيدًا، فقد تثبت المصريون في القتال ولم يركنوا إلى الفرار، حتى لقد علق أحد الضباط الإنجليز على هذه المعركة بأنها أعنف من أي معركة خاضوها أيام الانتداب البريطاني في فلسطين".
وقال (التيمس) : "إن معظم الضباط الإنجليز الذين اشتركوا في القتال متفقون على أن المجاهدين المصريين حاربوا ببسالة فائقة على وجه العموم، وأن كثيرًا منهم كانوا يصيبون الأهداف إصابة محكمة".
وقالت أيضًا : "كان من الشجاعة النادرة أن يتصدى هؤلاء المصريون لثلاث مجموعات من قوات المشاة الإنجليزية التي تعتبر من خيرة القوات والتي كانت تؤيدها الدبابات".
اشتباك آخر بين الفدائيين والبريطانيين في القرين
وحدث في نفس الوقت – 13 يناير – اشتباك آخر بين الفدائيين والبريطانيين في القرين.
استشهد فيه من الفدائيين مصطفى المردنلي وقتل فيه ثلاثة من البريطانيين.
احتلال التل الكبير ثم أبي حماد نذيرًا باستمرار زحفهم حتى يبلغوا القاهرة
وفي 16 يناير احتل الإنجليز بلدة التل الكبير بعد أن هجرها معظم سكانها، واحتلوا كذلك (حمادة) و(أبو حماد) بدعوى التفتيش على الأسلحة وتعقب الفدائيين، وأسروا في قسم البوليس بالتل الكبير ثلة من جنود البوليس يبلغون نحو 300 جندي مع ضباطهم وعلى رأسهم ضابط برتبة لواء (محمد عبد الرءوف)، وقد أخذ هذا اللواء أنه سلم نفسه وسلاحه وسلم معه جنوده دون أية مقاومة، مما لا يجدر برجال الجيش والبوليس أن يفعلوه.
واحتل الإنجليز القرى المجاورة للتل الكبير، وفرضوا رقابة مشددة على طرق المواصلات إليها، وأنشأوا نقط تفاتيش جديدة مسلحة بمدافع الميدان والدبابات بحيث صارت بلدة التل الكبير هي الحلقة الفاصلة بين منطقة القنال وبقية القطر.
اقتراب الإنجليز من القاهرة
كان احتلال الإنجليز للتل الكبير ثم أبي حماد نذيرًا باستمرار زحفهم حتى يبلغوا القاهرة. وزاد هذا النذير وضوحًا إقامتهم الكباري على ترعة الإسماعيلية، على أنهم توقفوا عن الزحف، وأخذوا في دعم مواقعهم في منطقة القنال وفي البلاد التي احتلوها.
تجدد المظاهرات والاضطرابات في القاهرة
على أثر مولد الأمير أحمد فؤاد بن فاروق يوم 16 يناير سنة 1952 وإعلان ولايته العهد، تجددت في أنحاء العاصمة المظاهرات العدائية ضد فاروق.
وفي الحق أن مولد ولي العهد قد حدث في جو مليء بالاضطرابات والثورة، ولم يكن قدومه فألاً حسنًا لفاروق، بل كان شؤمًا عليه وعلى الأسرة المالكة برمتها.
وعاود بعض طلبة المدارس الثانوية الإضراب منذ يوم الأحد 20 يناير، واصطحب إضرابهم بمظاهرات صاخبة هتفوا فيها هتافات عدائية ضد فاروق، واتخذت هذه المظاهرات طابع العنف باصطدامها برجال البوليس وتحدى أوامرهم، فلما أراد هؤلاء منع المظاهرات قاومهم الطلبة واعتدوا عليهم وعلى المارة بالطوب والحجارة، وقلبوا إحدى قاطرات الترام، وأشعلوا فيها النار، ولما حاول رجال البوليس إطفاء النار قذف المتظاهرون رجاله بالحجارة، مما اضطر رجال البوليس إلى إطلاق النار في الهواء إرهابًا، وقد اعتصم طلبة مدرسة عمرو بن العاص الثانوية بمصر القديمة بمدرستهم، وصعد فريق منهم إلى سطح المدرسة، وعاودوا قذف رجال البوليس بالحجارة وبكل ما وقع تحت أيديهم من أثاث المدرسة، حتى امتلأ الشارع بحطامه، وأخذوا يلقون إلى الطريق بخرق مشتعلة، وأصيب عدد من رجال البوليس، وتوفي أحد الطلبة.
وحدث مثل هذا الاضطراب في مدرستي فؤاد الأول والحسينية الثانويين، وخرج طلبتهما في مظاهرة بشارع العباسية، وحدث اصطدام بينهم وبين رجال البوليس. وكان بعض الطلبة مسلحًا بأسلحة نارية يحملونها، وأطلقوا منها النار على رجال البوليس، وعبثًا حاول هؤلاء تهديد الطلبة بإطلاق أعيرة في الهواء، فأجاب عليها الطلبة بالاستمرار في إطلاق النار، وأصيب عدد من رجال البوليس، وأصيب طالبة اسمه سمير أبو النجا بمقذوف ناري من أحد الطلبة توفي على أثرة.
ولم يكن معروفًا على وجه التحقيق ما إذا كان يقصد هؤلاء الطلبة من مظاهراتهم الصاخبة وما تخللها من التخريب والتدمير والحريق، وإطلاق الأعيرة من بعضهم، ولم يكن مفهومًا على الأخص معنى اشتباكهم مع رجال البوليس، ولم تكن المناسبة مواتية للاصطدام وإياهم، بعد أن أدى رجال البوليس عامة واجبهم في الكفاح في القنال, وهذا يدل على أن الروح الوطنية لم تكن مصدر هذه المظاهرات. بل كانت تتسلط عليها روح الشغب والفوضى والإخلال بالأمن والنظام، والاستجابة إلى نداء المضللين والهدامين الذين أرادوا إذاعة الفوضى والاضطراب في الوقت الذي كان مصر تواجه معركة من أهم معارك الكفاح الوطني.
ثم إن الجهاد لا يكون بمثل هذه المظاهرات الصاخبة التي ليست لها غاية مشروعة، والتي تقع في الوقت الذي يحتل فيه المستعمرون كل يوم جزءًا من أرض الوطن، فوق ما كانوا يحتلونه من قبل، وإنما يكون الجهاد يبذل النفس والتضحية في معارك القنال ذاتها، لا بالشغب والمسرحيات في شوارع العاصمة ومدارسها.
وما كان هذا النوع من التظاهر والتخريب إلا تحويلاً للكفاح الوطني ضد المستعمرين إلى صراع داخلي يوهن جبهة الجهاد الحق، الجهاد ضد الاستعمار.
وترتب على هذه الاضطرابات أن قررت وزارة المعارف تعطيل الدراسة من جديد في مدارس القاهرة والجيزة على اختلاف أنواعها، على أن تستأنف يوم السبت 26 يناير، وكذلك قررت جامعة فؤاد الأول وجامعة إبراهيم وقف الدراسة إلى هذا الموعد.
تفاقم الحالة في الإسماعيلية
في يوم 19 يناير سنة 1952 أعلن الجنرال أرسكين إلغاء جميع الإجراءات والتعهدات التي سبق إعلانها من جانب البريطانيين بشأن اعتبار مدن القنال مناطق محرمة على الجنود الإنجليز، وذكر أن القوات البريطانية ستشرع في هذا اليوم في احتلال جزء من مدينة الإسماعيلية وستجوب الدبابات والسيارات المصفحة شوارع (حي العرب) لتفتيش منازلها بدعوى البحث عن الأسلحة والفدائيين فيها.
وقد نفذ أرسكين هذا الإنذار، فاحتلت قواته المنازل الواقعة في الشوارع الرئيسية بالمدينة الممتدة على طول الطريق المحاذي لشارع محمد علي، وطردت منها سكانها حتى الشيوخ والنساء والأطفال، وقد أخرجتهم من بيوتهم بطريقة همجية واعتقلت نحو 60 شابا.
واحتلت قوة بريطانية أخرى مخفر بوليس محمد علي، وحاصر الجنود الإنجليز دار المحكمة والنيابة، واحتلوا المباني الواقعة في تلك المنطقة، ورابطت قوات بريطانية كبيرة في الطرق المؤدية إلى المدينة، ومنعت وصول السيارات إليها، وعزلتها عزلاً تامًا عن بقية المدن.
وفي يوم 21 و22 يناير زاد عسف الإنجليز فاعتقلوا مئات من الأهلين وساموهم سوء العذاب.
وحاصروا منطقة المقابر وبشوا القبول بحجة التفتيش على أسلحة مخبأة فيها، وقد أرشدهم إليها بعض جواسيسهم، وقتلوا في هذه المنطقة خمسة من المصريين، وبلغ عدد الجرحى أضعاف هذا العدد، واستعملوا القسوة والوحشية في تعذيب من اتهموهم بإخفاء الأسلحة وصلبوا بعضهم على الأشجار وسلطوا عليها الكلاب المفترسة تنهش أجسامهم.
واستولى الإنجليز على أسلحة كانت مخبأة في المقابر.
قال جريدة (التيسم) في وصف هذا الكشف ما يلي : "اكتشف الجزء الأكبر من مخزن الأسلحة السرية الذي وجد أنه يضم خمسة آلاف طلقة من عيار 40 ملليمترًا إلى جانب ذخيرة بوفرز التي تستخدم في المدافع الخفيفة المضادة للطائرات مكدسة في صناديق موضوعة إلى جانب جدار المقبرة، وقد استخدم الفدائيون هذه الذخيرة لصنع القنابل، ووجد إلى جانبها الآلات التي تستعمل في تحويل هذه الذخيرة إلى قنابل، ووجد في مقبرة أخرى ألف طلقة من نفس الذخيرة وعدد من مدافع ستين وأصناف مختلفة من القنابل، ويبدو أن هذا المخزن كان إحدى الترسانات الرئيسية لجماعة الفدائيين الذين يعملون في الإسماعيلية، ولو أن هناك دلائل تدل على وجود مخزن كبير آخر لم يكتشف بعد.
مقتل راهبة أمريكية برصاص الإنجليز
بلغ إسراف الإنجليز في إطلاق الرصاص وإراقة الدماء أن رصاصة أطلقها أحد جنودهم أصابت الراهبة الأمريكية أنتوني، بدير سان فانسان دي يول بالإسماعيلية يوم 19 يناير سنة 1952، فأودت بحياتها، وكان لمقتلها ضجة ترددت في الصحف الأمريكية والعالمية، وتنصل الإنجليز من تبعة قتلها، وأرادوا أن يلصقوها بالوطنيين، على أنه قد ثبت من التحقيق في مقتل هذه الراهبة استحالة أن يكون مصدر الإصابات مصريًا، وقيام الأدلة القاطعة على أنها من مصدر بريطاني، وأنها قتلت بنفس الرصاص الذي أصيب به المصريون.
"منقول من وكيبيديا الأخوان عن معارك القناة"
......................"
د. يحي ألشاعر