وداع الــمــلــك فـاروق ومغادرته مصر للأبد ، يوم 26 يوليو 1952
أراد محمد نجيب أن يكون في وداع الملك، على مرسى رأس التين. ولكن الحشود، التي اعترضت طريقه، في شوارع الإسكندرية، وخطأ السائق، في معرفة الباب الصحيح، جعله يصل متأخراً أربع دقائق، عن رحيل الملك فاروق، في تمام السادسة.
كان في وداع الملك، على المرسى، علي ماهر، وجيفرسون كافرى، وزوجا شقيقتيه: إسماعيل شرين، ومحمد علي رؤوف، وبعض ضباط الحرس، والجميع في وجوم شديد. وكان الملك ينظر إلى ساعته، بين لحظة وأخرى، حتى أعلنت السادسة فبدأ الرحيل، وهنا عزفت الموسيقى السلام الملكي. ثم أُنزل العلم الملكي. وطواه ضابط، من ضباط الحرس، سلمه إلى علي ماهر، الذي سلمه بدوره إلى الملك، وأطلقت المدفعية 21 طلقة، وأدى حرس الشرف التحية العسكرية، وصافح الملك مودعيه، بينما خدم القصر والمودعون يجهشون بالبكاء.
جدير بالذكر أن المحروسة هي أعرق وأفخم اليخوت المصرية، ولعلها، اليوم، أقدم اليخوت الملكية في العالم، على الإطلاق؛ فهي ما زالت منذ نيف ومائة سنة تجوب سواحل البحر الأبيض تحمل ذكريات ثلاثة أجيال، من الزمان لعل أشهرها يوم السادس والعشرين من يوليه 1952 ويوم السادس والعشرون من يونيه 1879، حين أُيقظ الخديوي إسماعيل من نومه، في قصر عابدين، ليسمع نبأ عزله من حكم مصر بفرمان سلطاني.
ولم يجد بداً من التسليم، وأعد نفسه لأن تحمله المحروسة إلى منفاه، في نابولي ذلك أن الملك إمبرتو، ما أن علم بمأساة صديق أبيه، فكتور عمنويل الثاني، الذي خلفه، قبل عام واحد، حتى أرسل، مرحباً باستضافة العاهل المصري، وأعد له قصر "فافوريتا ببورتيتشى" بضواحي نابولي داراً لإقامته.
فلما كان يوم الوداع، الثلاثين من يونيه، خرج الخديوي إسماعيل، من قصر عابدين، متكئاً على ذراع ابنه، محمد توفيق، تحملهما عربة تجرها عدة جياد، إلى محطة القاهرة، وتتبعهما عربات، تحمل الحاشية الصغيرة، التي قرر أن تصحبه في منفاه، وسبقتها عربات، ملأت أحمالها قطاراً حديدياً، من فاخر الأثاث والطنافس والتحف باعتبارها ملكاً خاصاً لإسماعيل، وكسرت نساء القصر شيئاً كثيراً، من الآنية الخزفية، والبللورية، والمرايا، والتحف، قُدرت قيمتها بآلاف الجنيهات، تعبيراً عن حزنهن على رحيل صاحب القصر!
واستقل إسماعيل قارباً نقله إلى المحروسة، وقد تجمع المودعون على ظهرها، من الأعيان، وكبار الجاليات الأجنبية، في الإسكندرية، وأطلقت طابية كوم الدكة مدافعها، كما أطلقت السفينة الإنجليزية العسكرية، زيوبرت التي كانت راسية في الميناء، مدافعها. وانطلقت عشرات الصفارات من السفن الأخرى. وعلى مياه نابولي أقام إسماعيل خمسة عشر يوماً، في المحروسة، ولكن عندما فكر في أن يضمها إليه، أنذرته حكومة القاهرة، وعلى رأسها ابنه الخديوي محمد توفيق، بأنها سوف تقطع عنه المعاش السنوي، الذي كان قد تقرر له، إذا ما فكر في الاستيلاء على المحروسة؛ لأنها من أملاك الدولة، فمن ثم انتقل إلى قصر فافوريتا، المطل على خليج نابولي.
وتدور الأيام دورة لتودع، على ظهر المحروسة، الحفيد المعزول فاروق، بصحبة ابنه الرضيع، الأمير أحمد فؤاد، في طريقها إلى نابولي، وقيل أنه، في طريقه بعد ذلك، إلى أمريكا، وقيل بل إلى أسبانيا، وكان وزير خارجيتها "مارتان أرتاخو"، قد زار القاهرة، في الرابع والعشرين من إبريل 1952 ولقي حفاوة من الملك وحكومته. رداً لجميل فاروق، حين استضاف، في عام 1944، ملكها المعزول فكتور عمنويل الثالث، وجعل من الإسكندرية مستقراً له، لحين وفاته، بعد أن تنازل لابنه ألبرتو الثاني، وهكذا تظهر الأسماء نفسها بعد ثلاث وسبعين سنة: المحروسة، نابولي، أحمد فؤاد، فكتور عمنويل، ألبرتو!
تناول الملك فاروق طعام الغداء، الغداء الأخير، قبل الرحيل، بالجناح الخاص من قصر رأس التين، وجلس معه، على المائدة كريماته الثلاث، من زوجته الأولى الملكة فريدة: فريال، وفوزية، وفادية، وبعض رجال الحاشية المقربين، وما أن انتهى، حتى وقف، وسلم يداً بيد على جميع الخدم الخصوصيين، وودعهم قبل أن يغادر قاعة الطعام، ومع الصمت، الذي كان يلف بالقصر، كانت هناك حركة دائبة لإعداد مطالب الرحلة، وقيل أن عدد الحقائب، التي أعدت على عجل، لنقلها إلى المحروسة، بلغ (204) حقيبة.
وكأنما كانت المحروسة على موعد لهذه الرحلة التاريخية، لأنها، في يوم 20 من الشهر، وقبل ثلاثة أيام من الليلة التاريخية، أُدخلت إلى الحوض الجاف، لاختبار بعض آلاتها، وهو إجراء يتم عادة قبل الإعداد لرحلة طويلة، فلما كان يوم 23، وأعلنت بعض القيادات البحرية ولاءها للحركة، غادرت المحروسة مرساها، في الميناء الخارجي، على الشمندورة. ومُنع الاقتراب منها.
في الساعة الخامسة مساء 26 يوليه 1952 وصلت المحروسة إلى مرساها أمام قصر رأس التين.
ولاء الــســلاح الــبــحــري
كان ولاء السلاح البحري موضع شك؛ لهذا كان هدف القائمين بالحركة تجنيب هذا السلاح أية مواجهة؛ فلم تحاول الحركة ضم أي من رجال البحرية إلى الخلايا السرية للضباط الأحرار؛ ذلك أن طبيعة السلاح البحري تختلف، عن بقية الأسلحة، في أية قوات مسلحة، فهو أكثر الأسلحة ولاء لرئيس الدولة، لاسيما في الدول الملكية؛ لأنه ينفرد بخصائص معينة؛ فهو يعمل على حدود الدولة، فمن ثم لا يشارك أسلحة الجيش الأخرى، في مناورات عسكرية، ولا في لقاءات اجتماعية وهو السلاح الوحيد، الذي تسمح التقاليد الدولية بأن يقوم بزيارات لأراض أجنبية، ويُسمح لقيادة الميناء، التي يزورها بالصعود إلى ظهر السفينة الحربية الزائرة، باعتبارها ضيف الميناء.
وعندما قامت الحركة، ليلة 23 يوليه، كان عدد قطع الأسطول في زيارات لبعض المواني الأجنبية، فكانت سفينة التدريب "دمياط" في زيارة، لميناء لشبونة، بالبرتغال. وغادرته على الفور. وكانت النسافات "فاروق"، و"أبو قير"، و"رشيد" في زيارة لعدد من مواني البحر الأبيض، كان آخرها ميناء بنغازى بليبيا، التي وصلت إليها، في يوم 21 يوليه، وأقام الملك السنوسي حفل تكريم لضباطها، وكان عليها 54 ضابطاً، و500 من مختلف الرتب. وبعد قيام الحركة، عادت إلى الإسكندرية، بناء على تعليمات لاسلكية، أما اليخت "فخر البحار"، الذي كان من ممتلكات الملك الخاصة، فقد أبحر، قبيل الحركة، في يوم 17 يوليه إلى نابولي، للاشتراك في مسابقة لليخوت. أما الطراد "إبراهيم الأول"، وقائده القائمقام سليمان عزت، فكان في مياه الإسكندرية، عندما قامت الحركة. وفي ليلة24، تحرك من الميناء إلى شاطئ المنتزه، وظل في وضع يسمح له بحراسة القصر، بينما وجَّه مدافعه إلى القطع البحرية الأخرى، الموجودة خارج الميناء.
تؤكد رواية صحفية أن القائمقام سليمان عزت حضر إلى الميناء، في ساعة متأخرة من ليلة24، وصعد إلى السفينة، وأمر ضباطها بالتحرك إلى شاطئ المنتزه. ولما عارضه بعض الضباط رد بأنه يتلقى أوامره من القصر مباشرة، وفي صباح اليوم التالي، اقترب زورق يحمل علماً، من أعلام نادي اليخوت الملكية، وعليه أنطون بوللي، وصعد إلى السفينة، وبعد قليل، نقل إلى الزورق جهاز لاسلكي. وعاد الزورق إلى القصر؛ فكان الجهاز حلقة الاتصال، بين السفينة والقصر، ثم اتصل القصر بقائد السفينة (صباح 25 أو 26)، وأبلغه تحرك قوات الجيش؛ فانسحبت السفينة إلى الميناء، ثم قدم قائدها استقالته من السلاح، ولكنها لم تُقبل. ونقل القائمقام سليمان عزت إلى إدارة الكلية البحرية (تولى بعد ذلك قيادة السلاح البحري).
وكان الذي قاد المحروسة بالفعل، (استجابة لطلب الملك)، هو الأميرالاي بحري جلال الدين علوبة بك، قائد اليخوت الملكية. وكان الملك قد أنفق على تجديدها، نحو مليون جنيه، في تاريخ سابق، مما أثار ضجة في لجنة الميزانية، بمجلس النواب حينذاك.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ومصطفى صادق كان ضابطا بسلاح الطيران ثم شغل منصب مدير شركة طيران سعيد.
[2] وقد انتحر الأميرالاي محمد وصفى بك فيما بعد.
[3] الكلفوات عبارة عن آنسات تركيات. يختارهن القصر وهن صغيرات السن من اللقيطات من ملاجىء تركيا!..وفى مصر يربين تربية خاصة لكي يصبحن رفيقات وخادمات خصوصيات للملكة والأميرات. وكان عدد الكلفوات الموجودات في قصر رأس التين يوم التنازل ستة.
د. يحي ألشاعر