سياسة حكومة الوفد أثناء الكفاح في القنال
لم تستجب حكومة الوفد إلى دعوة الوحدة التي تقدم بها المعارضون، وصمت آذانها عن الاستماع إليها، واستمرت تتجاهل كل قوة وكل هيئة وكل فرد في البلاد سواها، وتبين أنها تقصد من توحيد الصفوف أن يخضع الجميع لأمرها، ويكفوا عن توجيه أي انتقاد إلى تصرفاتها.
ولم تكتف بذلك، بل انتهزت فرصة انشغال الأمة بالكفاح في القنال، ومساهمة الكثيرين في هذا الكفاح، ومضت في سياستها القائمة على الفساد والحزبية الجامحة.
فاستمرت تفصل العمد والمشايخ الذين كانت ترى فيهم عدم الولاء للوفد، ومضت في سياسة المحسوبية في الوظائف وما إليها، فكانت مرتعًا للأقرباء والأصهار والأنصار، واستمرت الصفقات المريبة في بيع أملاك الحكومة أو تأجيرها، وإغداق أموال الدولة على الأشياع والمحاسيب.
وفي الوقت الذي كان المجاهدون الفدائييون يسقطون شهداء في ميدان الجهاد والتضحية، كان الكثيرون من نواب الوفد وشيوخه يتغلغلون في المصالح والدواوين، في القاهرة والأقاليم، عاملين على تحقيق مطالبهم ومطالب أشياعهم وأنصارهم على حساب مصالح المواطنين، ولم يسهموا بأي مجهود أو أية تضحية في معارك القنال، وكان جُل همهم أن يتحسسوا مدى تأثير هذه المعركة في مركز وزارتهم، كأنما بقاء وزارة الوفد في الحكم هو الهدف الأكبر للقضية الوطنية!
وكان من نتائج اختلال التوازن في أواخر عهد حكومة الوفد أن ظهر عجز في الميزانية بلغ خمسة وعشرين مليون جنيه.
ومن تصرفات حكومة الوفد الدالة على الإهمال أنها تعاقدت على شاء 12512 صندوق ذخيرة من سويسرا تحتوي على 150 ألف طلقة للبنادق، وشحنتها الحكومة من مرسيليا بفرنسا على ظهر الباخرة شامبليون، إحدى بواخر شركة المساجري ماريتيم الفرنسية.
وقد تبين أن هذه الشركة المعروفة بنفوذ الصهيونيين فيها قد أوصلت هذه الذخيرة إلى ميناء (حيفا) قبل أن تبحر إلى ميناء الإسكندرية، وهناك (في حيفا) مكنت السلطات الإسرائيلية من الاستيلاء عليها، ثم واصلت الباخرة سيرها إلى الإسكندرية خالية منها.
وكان الأحكم أن تشحن الحكومة هذه الذخيرة على باخرة مصرية، لكي تضمن أن لا تسلمها الباخرة الأجنبية غدرًا وبطريق التواطؤ إلى إسرائيل.
ولكن إهمال حكومة الوفد جعلها تترك الاحتياط والحذر جانبًا، وتضيع على البلاد هذه الذخيرة القيمة.
نتائج الكفاح في القنال
كان لكفاح الشعب في القنال صدى بعيد في الخارج، وكان دليلاً مشرفًا على حيوية الشعب، وتعلقه بالجلاء والحرية، وكان خير دعاية للقضية المصرية.
ومع أن معارك القنال كانت صغيرة المدى، فإن نتائجها كانت بعيدة الأثر في تاريخ مصر.
فلم تكد حوادث الكفاح في القنال تتوالى، حتى كانت الصحف العالمية ومحطات الإذاعة في الشرق والغرب تتحدث عن هذا الكفاح وتطوراته، وكانت هذه الأنباء أكبر دعاية لجهاد مصر في سبيل تحررها من الاستعمار، وصارت القضية المصرية موضع حديث العالم وموضع تقدير أنصارها وخصومها على السواء.
وعلى الرغم من أن مصر لم تكن مستعدة الاستعداد الكافي للقتال سنة 1951، وعلى الرغم من أن الحكومة لم تعد العدة لتنظيم المقاومة، فإن هذا الكفاح، وما تخلله من بطولة وفداء، وجهاد وتضحية، ومقاطعة تامة، وعدم تعاون مع الاحتلال ومنع التموين عن قواته، قد أنتج ثمرات طيبة كان لها أثرها في تغيير وجهة النظر البريطانية في فائدة القاعدة الحربية في قناة السويس، فإن هذه القاعدة لا تكون صالحة للقتال أو إيواء جيش كبير إلا إذا كانت مسنودة من شعب صديق، وحكومة صديقة، وأن تكون مواصلاتها ووسائل تموينها سهلة ميسرة، مكفولة في وقت السلم، وخاصة في وقت الحرب.
ولقد تبين من كفاح المصريين سنة 1951 – 1952 أن هذه القاعدة مهددة بالخطر، وعديمة الجدوى للإنجليز في حالتي السلم والحرب جميعًا.
فالتضحيات التي بُذلت، إيجابية أو سلبية، والدماء التي سُفكت في معارك القنال، لم تذهب عبثًا، بل إن لها فضلاً كبيرًا في جنوح الإنجليز إلى قبول الجلاء، بعد أن كانوا مصرين على رفضه.
لقد اعترف الإنجليز في غمرة الكفاح بهذه الحقائق.
قال اللورد ستانسجيت في هذا الصدد في مجلس اللوردات : "إن القاعدة البريطانية في منطقة القنال أصبحت لا تصلح عسكريًا، وإن الكره الذي يحف بها يجعلها مهددة، فلا معنى لبقائها".
ونشر مراسل صحيفة التيمس في منطقة القنال مقالاً في عدد 37 ديسمبر سنة 1951 وصف فيه حالة المعسكرات البريطانية، واعترف بفداحة الضربة التي أصابت القاعدة الإنجليزية في القنال حين أجمع العمال المصريون على الانسحاب منها، وما أعقب هذا الانسحاب من إشاعة الفوضى والارتباك فيها، واعترف بفشل المحاولات التي اتخذت لجلب العمال من الخارج،
وقال إن الأعمال الحيوية في المعسكرات أصيبت بارتباك خطير، وأصبح من المتعذر صيانة المقادير الهائلة من المعدات العسكرية، وأنه ليس من ينكر أن جو الاضطراب قد شاع في جوانب كثيرة من المعسكرات البريطانية، وأشار إلى أن أعمال الفدائيين المصريين قد أقضَّت مضاجع الجنود البريطانيين،
وأن الحياة العادية قد اختفت في المعسكرات على طول القنال، كما أن كثيرًا من المؤسسات التي قامت لضمان صلاحية القاعدة العسكرية والسهر على صحة الجنود ورفاهيتهم قد عطلت،
وانقلبت الأمور في منطقة القنال بالنسبة للجيش البريطاني رأسًا على عقب، فبدلاً من أن يركز قواته في الاحتفاظ بالقاعدة والنهوض بها من كافة الوجوه، أصبح يركز جهوده في حماية نفسه من هجمات الفدائيين والاحتفاظ بمواقعه، وبلغ من شدة توتر أعصاب الجنود البريطانيين أنهم "باتوا يتساءلون عن جدوى الاحتفاظ بقاعدة عسكرية فقدت قيمتها نتيجة الشعور الوطني المعادي، وعما إذا كان من الأوفق تجنب احتكاكات سياسية جديدة بالبدء في إنشاء قاعدة أخرى في جهة تعرب حكومتها عن رغبتها في الانضمام إلى قيادة الشرق الأوسط، أو على الأقل في منطقة لا يكون وجود القوات الإنجليزية فيها مدعاة للسخط والاستنكار.
وقالت مجلة "نيو ستيتمسان" في مقال لها عن مصر :
"إن من أهم الأخبار التي وردت إلينا من مصر نبأ إباحة حمل السلاح للمواطنين هناك، فمن هذا النبأ، ومن الطريقة التي يسلكها الجنرال أرسكين في مصر، يبدو واضحًا أن خطر قيام حرب العصابات في مصر بات على الأبواب، ويتبين من سياسة الحكومة البريطانية أنها تود إنقاذ موقف بريطانيا بطريق القوة المسلحة، وكثيرًا ما حذرنا من مغبة هذه السياسة، وهاهي ذي الأنباء الأخيرة تؤكد أننا على حق في ذلك التحذير، فالشعور الوطني في مصر متأجج، ولا سبيل إلى التفاهم مع مصر إلا بالطريق الودي، كما كانت سياسة وزارة العمال من قبل بالنسبة للهند، وإن كانت قد تناست تلك السياسة في المدة الأخيرة بالنسبة لإيران، وإن مستقبل المصالح البريطانية قد أصبح الآن هزيلاً، فإما جلاء، مخجل عن مصر، وإما اشتباك عسكري وفترة طويلة من الكفاح في ظل الأحكام العسكرية.
ومن الحق أن نقول إن الكفاح في منطقة القنال سنة 1951 – 1952 كان ولا ريب من العوامل الفعالة فيما انتهى إليه الإنجليز من إيثار الجلاء عن هذه المنطقة، لأنه إذا كانت مصر من غير استعداد قد زعزعت مركز الإنجليز في قاعدة القنال وجعلتهم يتشككون في إمكان الاعتماد عليها إذا شبت الحرب، فكم يكون مركزهم فيها واهنًا ويزداد ضعفًا إذا أكملت مصر استعدادها الحربي والاقتصادي والمعنوي لتحرير القاعدة من كل ميزة حربية للعدو.
لا شك أن الإنجليز قد بدأوا بعد كفاح سنة 1951 – 1952 يغيرون رأيهم في مبلغ الاعتماد على هذه القاعدة، وخاصة بعد أن بعثت الثورة في جيش مصر روحًا جديدة، وزودته بالقوة المادية والمعنوية، كل هذا ولا ريب كان له أثره فيما انتهوا إليه من إيثار الجلاء عن هذه القاعدة في اتفاقية سنة 1954.
"منقول من وكيبيديا الأخوان عن معارك القناة"
......................"
د. يحي ألشاعر