حدث في مطار القاهرة وليس في مطار بن غوريون
فلسطين الآن-شوقية عروق منصور-القدس العربي
قالوا قديماً إن الموانئ تكشف حياة الناس، حيث يتحول الميناء إلى ارض يقف عليها المسافر الذي لا يهمه ما رأي الآخر به، فهو على عجل ولن تسجل ملامحه في ذاكرة أي إنسان، في المقابل أهل البلد والعاملون في الموانئ لا يتذكرون الوجوه التي تأتي وترحل، لذلك يكون غالباً سلوكهم مشوباً بالبرود الممزوج بالمصالح الشخصية والكسب المالي، لا يحاولون حمل دفء العلاقات وتقاسيم الوجوه بصورة جدية وحميمية، فهم في حالة وداع واستقبال، دون النظر جيداً في حقيقة الأعماق البشرية .
وقد اتصف الذين يسكنون ويعملون في الموانئ بصفة عدم الجدية في العلاقات الإنسانية، حتى لُقب أصحاب السلوك العابر ( بالسلوك المينائي).
واليوم المطارات في العالم لم تعد - خاصة في السنوات الأخيرة - مجالاً للطيران والسفر بقدر ما هي مجالات لمعرفة سياسات الدول والخوف والارتياب والتمييز والعنصرية. في المطارات تظهر حقيقة الخداع التي تمارسها الأجهزة السلطوية وكذب الشعارات والخطابات ومدى الزيف الذي تغلفه جمعيات حقوق الإنسان بالعبارات الرنانة.
في المطارات تعرف الشعوب إلى أي فئة تنتمي، فئة الضعف أم القوة، حسب جواز السفر يكون الاحترام والتقدير، أو التجاهل ورميك في مجاهل الزمن حتى يعذبك المسؤول وتعترف بقوته وسيطرته، كل مسافر يحمل على ظهره تاريخ وسياسة وقوة قادته وعنفوانهم وكرامتهم.
في المطارات هناك (الناس اللي فوق والناس اللي تحت) وهناك الناس الذين يئن (التحت ) من شدة بؤسهم واحتقارهم وعقابهم.
إحدى النساء الفلسطينيات صرخت في مطار القاهرة: الشعب مات، الشعب مات.. عندما جلست إلى جانبها سألتها لماذا صرخت، ومن الذي مات؟ قالت بألم إنها منذ أسبوع في المطار مرمية على الأرض، ولا تعرف لماذا يمنعون سفرها، ومثلها الكثير هناك، وأشارت إلى إحدى زوايا المطار، رأيت العشرات يفترشون ارض المطار، ينامون بين الحقائب والأكياس، وقالت الشعب الفلسطيني مات، لأنه يسكت يومياً على الاضطهاد والاعتقال والاهانات، وكذلك القادة ماتوا لأنهم يسمحون باهانة شعوبهم.
كأن هذه المرأة كانت تصرخ في البرية، لم يلتفت إليها احد، ولم يحاول احد المسؤولين تفسير هذا الانتظار القاسي الطويل، الذي اتسم بالاحتقار الإنساني، أكثر من المحافظة على الأمن والأمان.
الفنان دريد لحام في مسرحية كأسك ياوطن قال (لما بضربك الغريب شي ولما بضربك ابن بلدك شي آخر) والفلسطيني في المطارات العربية صورة ليست قريبة من صورة ذلك اللاجئ الذي حرم من وطنه وعلى الآخرين التعاطف معه، بل صورة المطارد الذي يجب إلقاء القبض عليه ووضعه في السجن، أو صورة المجذوم الذي يخاف منه الآخرون.
إن هناك حبلاً يلفون به الفلسطيني ويجرونه إلى حافة الاتهام، عليه بعد مشقة وتوسل أن يثبت انه بريء ولا يملك النوايا لفعل الإجرام والإرهاب.
الصديقة الصحافية صابرين ذياب من مدينة طمرة في الجليل، صحافية نشيطة ولها صداقات مع كبار الكتاب والصحافيين المعددوين على الناصرية والفكر القومي، على رأسهم الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل، وكلما سافرت إلى القاهرة تفتش في مطار بن غوريون، طبيعي في ظل العنصرية والعربي المتهم دائماً بانه قنبلة موقوتة.
لكن هذا الأسبوع تعرضت لعملية تفتيش مهينة في مطار القاهرة. الحادث عادي في أجواء تمطر يومياً مطراً اسود، تصريحات وسلوكيات مصرية، تفسرها الوقائع اليومية، إغلاق معبر رفح وزيارات لمسؤولين مصريين لتل أبيب والعكس زيارات لوزراء وقادة إسرائيليين، يعقبها لوم وتقريع القيادة الفلسطينية ودفعها إلى التنازلات وتشديد الحصار على قطاع غزة، غير رمي الكرة في الملعب الفلسطيني دائماً وبشكل اتهامي مقيت، حتى تحولت صورة السياسة المصرية إلى صورة سريالية غير واضحة المعالم وبحاجة إلى خبير في العلوم السياسية والتاريخية وفلسفة الشعوب لمعرفة كيف يفكرون.
لكن غير العادي أن التفتيش كان من قبل ضباط ومجندة إسرائيلية، في مطار القاهرة وقبل الصعود إلى طائرة العال تم استدعاء صابرين للتفتيش واكتشفت أن الأمن المصري لم يحاول التساؤل عن هذا الإجراء وتعمد تجاهل الموضوع، لقد ادخلها الضابط والجندية إلى غرفة في مطار القاهرة وتم تفتيشها بطريقة تبعث على القهر.
والمحزن أن العيون المصرية رأت ذلك، ولم يحاول احدهم التدخل والاعتراض على انتهاك حرمة المطار المصري، بل تم التفتيش الإسرائيلي بمنتهى الهدوء والاستفزاز، لم يحاول احد المصريين معرفة ماذا يجري في الغرفة المغلقة التي دخلت فيها صابرين.
كنا نعرف أن المطارات ً قد تتفاوت في الخدمات والهندسة والشكل والفخامة، لكن في إسرائيل المطار له عدة وجوه . إذا كانت الأبواب الزجاجية الدوارة تعبر عن حيرة الإنسان والدوران حول نفسه بطريقة تدفع لتأمل السذاجة، فأن الأبواب في المطارات الإسرائيلية لا تعرف هل هي دائرية ام مربعة ام مثلثة لأن من الممكن أن تدخل مثلث التحقيق والسؤال والجواب، أو مربع الانتظار والاستفزاز والنظرات والهمهمات.
لكن أن يصل الانتهاك إلى مطار دولة عربية - القاهرة - وهناك ايضاً يعاقب الفلسطيني من قبل الإسرائيلي فهذا مخجل و محزن. منذ زمن طردنا عبارة - وظلم ذوي القربى لكن لم نتوقع أن يصمت القربى ايضاً في ارض تعتبر جزءاً منا بسماها وبترابها على رأي عبد الحليم حافظ وهو يغني لأبطال العبور في حرب أكتوبر.
صديقتي صابرين مندهشة من هذا التصرف المصري الذي وصل إلى حد اغتيال الكرامة وانتهاكها، وعاتبة على الصمت والسكوت، وهي تؤمن أن مصر (الأحرار) لابد أن ترفض السلوك المشين الذي انتهك سيادتها على المطار. رغم أن الإعلام نشر هذه الحادثة إلا انه لا يوجد أي تفسير من السلطات المصرية حول هذا الموضوع.
عندما كانت بريطانيا تحتل الهند، كانت النساء البريطانيات اللواتي يسكن الهند يلدن أطفالهن على إحدى السفن البريطانية، لأنهن كن يعتبرن السفينة البريطانية جزءاً من بريطانيا الأم، وحتى يكون الطفل بريطانيا مئة بالمئة.
هل غرفة في مطار القاهرة يستطيع فيها الإسرائيلي التحقيق والتفتيش هي جزء من فكرة (إسرائيل) الكبرى ؟.