المستعربون الأوائل
مارست الحركة الصهيونية وعلي نطاق واسع مختلف أشكال الإرهاب وجرائم القتل والتدمير ضد الشعب الفلسطيني قبل عام 1948. وبعد قيام الدولة العبرية علي أرض فلسطين، إستمرت هذه الأعمال الإرهابية برعاية وتواطؤ من أعلي الجهات والمرجعيات الرسمية وبوسائل أكثر تنوعاً وتطوراً. وإذا كان الجيش الإسرائيلي نفسه هو ثمرة المنظمات والحركات الصهيونية العسكرية التي نفذت العمليات الإرهابية ضد العرب خلال فترة الإنتداب البريطاني علي فلسطين، فإن تشكيل المستعربين في هـذا الجيش والتي تحمل أسماء (دوفدوفان) و (شمشون)، والتي كانت وليدة الواقع الجديد الذي نجم عن تعاظم الإنتفاضة هي أيضاً ثمرة وحدات النخبة في تلك المنظمات العسكرية. ذلك أن (الإستعراب) كوسيلة إرهابية غير تقليدية مارسها الإسرائيليون الأوائل وجسدتها منظماتهم بأشكال شتي.
1 ـ جماعة المستعربين في الإيتسل والأرغون
أُطلق إسم (مستعرب) علي اليهودي الذي يمتزج في الوسط العربي الذي يتواجد فيه، يعيش بأساليب حياته ويمتص ثقافته، ولكنه في نفس الوقت يتمكن من المحافظة علي قيمه القومية. وكان أفراد (هاشومير) يعتبرون تقليد حياة البدو والتكيف مع أسلوب حياتهم أمراً مثالياً. ومن أجل تحقيق ذلك، لا بد من التعرف علي أبناء البلاد وسبل حياتهم بالسكن بينهم حتي وإن تطلب الأمر في خيام عربية وممارسة رعي الإبل والغنم وفلاحة الأرض.
وقد إنعكس الإستعراب هذا إيجابياً علي نشاط المنظمات الصهيونية فيما بعد مثل المنظمة العسكرية القومية في أرض إسرائيل (ايتسل)، والمحاربون من أجل حرية إسرائيل (ليحي) أو (شتيرن) حيث نفذت هذه المنظمات ونفوذها داخل قطاعات واسعة من الشبان الصهيوني علي أرض فلسطين، أعمالاً إرهابية أوقعت عشرات القتل والجرحي في صفوف الشيوخ والنساء والأطفال العرب وعدداً من البريطانيين الذين تصادف وجودهم بين العرب وفي تجمعاتهم. ويذكر يعقوب الياب، قائد العمليات العسكرية لمنظمة (ايتسل) في مدينة القدس بأنه كان يستعين بما أسماه (جماعة المستعربين) في الجهاز الإستخباري التابع للمنظمة لتنفيذ تلك الهجمات، وأن رئيس (جماعة المستعربين) كان يعقوب مشبتاي. وأن تلك العمليات كانت تتم بالتعاون بين جماعة المستعربين والقسم الفني والمجموعات الميدانية في كل من القدس وحيفا.
2 ـ الدائرة العربية في البالماخ
تأسست وحدة المستعربين الجديدة خلال فترة التعاون بين الوكالة اليهودية مع الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية، ضمن كتائب القوات الخاصة بجيش الهاغاناة (البالماخ)، وعرفت هذه الوحدة داخل البالماخ باسم (الدائرة العربية)، وكانت مهمتها في البداية أمنية، تجمع المعلومات وتطلع علي إتجاه الشارع العربي، ولذلك كان هؤلاء المستعربون يتنكرون بالزي العربي ويتحدثون باللغة العربية ويتصرفون علي الطريقة العربية، ويعيشون مع العرب في قراهم ويصَّلون معهم في مساجدهم، وكانوا في غالبيتهم من اليهود القادمين من الدول العربية ومن فلسطين كذلك. وفي مراحل متقدمة من غزو الجيش الألماني لشمال أفريقيا، عندما إقتربت طوابير دبابات رومل من حدود مصر، برز التنسيق والتعاون مع السلطات البريطانية أكثر من ذي قبل، وذلك من أجل الإستعداد لإحتمال السيطرة النازية علي المنطقة. ولكن بعد زوال خطر الجيش الألماني، قطع الصهاينة الإتصالات مع السلطات البريطانية، وقررت قيادة البالماخ حل الدائرة العربية.
أعادت البالماخ تشكيل الوحدة مرة أخري علي أساس التطوع ودون أية شروط للخدمة، ووصل تعداد أفرادها (33) مقاتلاً معظمهم من الذين أرادوا الإستمرار في الخدمة ضمن كتائب القوات الخاصة ومن بعض المجندين الجدد. وفيما يختلف الجنرال أوري أور والكولونيل يعقوب نمرودي حول تاريخ عودة المستعربين للخدمـة، فيذكر الأول 1943 والثاني يقول أنها في سنة 1945م، إلا أن المهم في هذه العودة أنه تم ولأول مرة تجميع المتطوعين القدماء والجدد في كيبوتس عين هحوريش، وأُطلق عليهم اسم محكاة هشاحر (وحدة الفجر). وكانت الوحدة بقيادة يروحام كوهين، والمدرب شمعون سوميخ وهو من مواليد بغداد ويجيد لغة العرب وعاداتهم. وبعد عدة سنوات برزت أسماء أصبحت معروفة في النظام السياسي والعسكري للدولة العبرية مثل شمادية جوتما، وبيرس جوردن ضابط العمليات، ويعقوب نمرودي ضابط الإستخبارات في الوحدة. وهذه المرة لم يكتف المستعربون بمهام إستخبارية، بل وضعوا نصب أعينهم وظائف أكثر تعقيداً، وحصلوا علي صلاحيات واسعة جداً مكنتهم من الخروج إلي الميدان يومياً لجمع المعلومات عن مخططات العرب، والعمل علي إختراق المنظمات الفلسطينية شبه العسكرية, وكشف أي مخططات لمهاجمة المستوطنات اليهودية ومعاقبة المقاتلين الذين يهاجمون اليهود. وإلي جانب كل ذلك، ساعد المستعربون في عملية الهجرة اليهودية الثانية لفلسطين وكانوا قاعدة أساسية لتشكيلات الجواسيس في إسرائيل وهم (أساس جميع العمليات الكبيرة والتي تحدث العالم بأسره عنها وبعض هذه العمليات لم يتبنها أحد)، وفق تقرير الكولونيل نمرودي الذي نشره بعنوان (وحدات المستعربين بين الماضي والحاضر).
وفي سبيل تحقيق هذه المهمات، كان تأهيل مقاتلي الوحدة طويل المدي ويتطلب الشيء الكثير بعد تدريبات تستـــغرق سنة كامـــــلة، منها ثلاثة أشهر يتم فيها إرسال الأفراد للإختلاط في وسط السكان والتجمعات العربية، يشارك في إجتماعاتهم وصلواتهم في المساجد، ويتجول في الأسواق، ويحضر المؤتمرات الشعبــــية والمهرجانات مثل التي تجري في النبي روبين، ويجلس في المقاهي. ولم يطلق اسم (مستعرب) علي كل مــــن يتحدث العربية ويشرب الشاي والقهوة، وإنما إقتضي الأمر أيضاً الظهور بمظهر العـــرب بكل ما تعنيه الكلمة، سواء كان ذلك من حيث المظهر والشكل والزي أم من حيث اللغة والسلوك والمســـكن والتزود بوثائق عربية ملائمة تشير إلي تاريخه العربي. وفي بعض الحالات كان يطلب منهم الإمتزاج والعيش بين العرب لفترة طويلة، وإقامة بعض المحلات التجارية والصناعية.
وقد تسلل المستعربون إلي مراكز العمل الكثيرة مثل ميناء حيفا وشركة البوتاس ومعسكرات الجيش البريطاني ومصافي تكرير النفط في حيفا، وأيضاً إلي أمكنة عمل خاصة مثل مراتب إصلاح السيارات ومحطات البنزين وحاولوا أن يفتتحوا لهم أعمالاً صغيرة في المدن العربية مثل ورش السمكرة ودكاكين لبيع الصحف أو بسطات باعة متجولين، كما كُلفوا القيام بذلك النوع من الأعمال الذي لا يمكن ليهودي القيام به من دون أن يفتضح أمره أو يفقد عامل المفاجأة.
وكان من نتيجة ذلك أن زودوا جهاز الإستخبارات بمعلومات عن تهريب الأسلحة والتدريبات والإستعدادات العسكرية للعرب، واستكشفوا المناطق التي كان رجال البالماخ ينوون القيام بعمليات فيها، حتي أنهم شاركوا في هذه العمليات. وعند الضرورة كانوا يُرسلون في جولات إستطلاعية في شرق الأردن وسورية. وبالإضافة إلي ذلك، شكل المستعربون دوريات إستطلاعية تنطلق في جولات إستكشاف وإستطلاع لتجميع المعلومات حول القري العربية ومصادر المياه والمسالك الوعرة وهي معلومات أُستخدمت فيما بعد في حرب 1948. ومن الضروري ملاحظة التكتم الكامل الذي يلف عمليات وحدة المستعربين في الدول العربية قبل وبعد قيام الدولة العبرية وكذلك نشاطات أعضائها.
وحتي تاريخ حل البالماخ نهائياً من قبل ديفيد بن غوريون أول رئيس للوزراء في الكيان الصهيوني في 7/11/1948، نفذت وحدة المستعربين أعمالاً إرهابية عديدة ضد المدنيين العرب، نجم عنها العشرات من القتلي الأبرياء الذين لا علاقة لهم بأي نشاط. وقبيل حرب آيار (مايو) 1948، وجهت المنظمــــات الصهيـــونية جل نشاطها لإختراق الأحياء العربية من خلال التنكر بأزياء عربية كان أبرزها خمـــس هجـــمات قام بها رجال الإيتسل علي تجمعات سكنية عربية في باب الزاهرة بالقدس، يافا، العباسية، الطيرة (حيفا)، ويازور، وقد خلفت هذه العمليات عشرات القتلي من العرب. وإمعاناً في التضليل إختار المستعربون يوم السبت لتنفيذ عملياتهم، وهو يوم عيد الحانوكاه، الذي يفرد له اليهود اهتماماً خاصاً، علي أساس أن العرب لن يتوقعوا هجمات من هذا النوع في ذلك اليوم.(25)
وبعد دخول الجيوش العربية إلي فلسطين، إستخدم الجيش الإسرائيلي الذي ورث بعد تشكيله في نهاية شهر أيار (مايو) 1948 تقاليد الهاجانا والمنظمات الصهيونية المتطرقة أساليب التنكر علي نطاق واسع، وخصوصاً علي الجبهة الجنوبية، إذ تنكر العديد من أفراده الذين يتكلمون العربية بلكنة ممتازة وجندوا من أوساط اليهود الشرقيين وخصوصاً العراقيين، كبدو عرب وقاموا بإختراق المواقع العربية وخلقوا جواً من الشعور بعدم الثقة وإثارة الشك تجاه البدو.
كما تدل الشهادات الشفوية علي إستخدام وحدات مستعربة لألبسة ومعدات الجيش المصري لتحقيق مفاجأة تكتيكية علي وحدات مصرية أخري، وكذلك ضد وحدات جيش الإنقاذ، والجيش السوري في مناطق الشمال.