إبراهيم عيسى يكتب فى العدد الاسبوعى: تشتري شعب كان المشهد غرائبيا ومضحكا، فالرجل ملتح ويرتدي جلبابا واسعا يجلس فيه براحته في صالون بيته وكل البراويز المعلقة علي الحوائط لآيات من القرآن الكريم والرجل نفسه لم يتوقف منذ دخل صاحبي عن الكلام في الدين وإنه كل حاجة باظت في البلد عشان بعدنا عن ربنا، وعن زوجته المنقبة وبنته التي تحجبت وعمرها ست سنوات ليربيها علي الإسلام وأنها بسم الله ماشاء الله لاتنام إلا وقناة المجد مفتوحة علي القرآن، صاحبي بدا مترددا في تنفيذ هدف زيارته وكانت كل المؤشرات تدفعه للرحيل بسرعة لكن مرافقه الذي لم يتوقف لحظة عن موافقة الرجل الملتحي في كل ما يقول غمز لصاحبي أن يصبر ولا يأخذ في باله، وبدأ يتكلم عن أمانة هذا الرجل الموظف في المحكمة لكنه رغم نفوذ وظيفته وحرجها فإنه مثال للأمانة والشرف، والرجل سعيد بكلام المرافق ويومئ برأسه ويتمتم بالحمد لله وكله من فضل ربنا، صاحبي لم يعد يطيق فقد كادت أعصابه تنفجر ولم يعد يفهم فهو هنا يزور موظف المحكمة في بيته كي يرشوه بخصوص قضيته فإذا به يشعر أنه دخل عند الإمام ابن تيمية،
المذهل أن مرافق صاحبنا قال بمنتهي الوضوح الذي أخجل الراشي ولم يؤثر إطلاقا في المرتشي : ها يا حاج فلان نقول خمسمائة جنيه.
فرد الرجل مبتسمًا : أنت عارف يا حاج علان إحنا بنعمل شغلنا بما يرضي الله وبندي للمواطن حقه بصرف النظر عن أي مقابل أو أجر، ولولا إن الأخ (يقصد صاحبي ) صاحب حق مكنش ممكن أمد إيدي علي مليم من فلوسه إحنا ناس بنخاف المولي عز وجل.
رد مرافق صاحبي وهو الوسيط المبتسم : طبعا يا عم الحاج هو إحنا نقدر نتجاوز في حق ربنا، المهم همه خمسمائة عشان خاطري، أذن أذان العشاء ساعتها فكاد مرافق صاحبي أن يطير فرحا شفت وبركة الأذان ده ما أنت واخد غير خمسمائة، ضحك الرجل وهو يشير لصاحبي طيب نقوم نصلي العشا جماعة وربنا يعمل ما فيه الخير !
هذا المشهد تحديدا هو الذي يجعلني أخاف الانتخابات الحرة النزيهة في مصر !
بداهة فأنا أؤمن بأن هذا الشعب المصري صاحب الحضارة العريقة العميقة يستحق تطبيق الديمقراطية في وطنه وأن يتمتع بجميع حقوق المواطن الأساسية من حق الترشيح لحرية الانتخاب، وأجزم أن كارثة مصر وبلاءها أنها لم تشهد انتخابات ديمقراطية واحدة في تاريخ الرئيس حسني مبارك وأن كل الانتخابات البرلمانية الرئاسية (الوحيدة ) والاستفتاءات مزورة شكلا وموضوعا، أصلا وفرعا، ومع ذلك فإنني أعرف يقينا أن نتائج أي انتخابات ديمقراطية في مصر هذه الأيام لن تسعد الديمقراطيين !
طبعًا يحلو للنظام الحالي ورموزه ابتزاز حكومات الغرب ومثقفي مصر وأقباط الموطن والمهجر بأن أي انتخابات نزيهة سوف تجلب للحكم الإخوان المسلمين حتي تخشي كل هذه الأطراف إجراء انتخابات نزيهة وحرة وترتضي هذا التزوير السافر والسافل الذي يعتنقه النظام منذ نعومة أظافره (أو بالأحري مخالبه)، وهو في الوقت ذاته اعتراف مخز بأن إجراء انتخابات حرة يعني بالضرورة سقوط الحزب الحاكم مدويا ومفجعا وأن لا نجاح له إلا بالتزوير !
لكن هذا ليس صحيحا ولا دقيقا فلن يفوز الإخوان بالأغلبية في انتخابات حرة قادمة لو جاءت ولو صارت حرة لثلاثة أسباب.
الأول أن الإخوان لن يترشحوا بعدد من المرشحين يكفي فوزهم لتحقيق الأغلبية فالإخوان أحرص التنظيمات علي عدم استفزاز النظام ولا الغرب ويريدون مشاركة لا مغالبة خصوصا بعد التعلم من تجربتي جبهة الإنقاذ في الجزائر وحركة حماس في فلسطين حيث الدخول العنفواني الذي أدي لارتباك كبير وحصار أكبر في فلسطين وإنهاء لنفوذ التيار الإسلامي في الجزائر.
السبب الثاني أن أغلب الأصوات التي يحصل عليها الإخوان تأتي نكاية في الحزب الوطني ثم تعاطفا مع الإخوان الذين يعانون من ضربات ومطاردات الحكومة فإذا جاءت انتخابات بلا قيود ولا تزوير ولا ملاحقة للإخوان أو تضييق عليهم سوف ينزع الناس عن الإخوان هالة المجاهد المضطهد ويتم التعامل معهم باعتبارهم مرشحين كبقية خلق الله ينطبق عليهم ما ينطبق علي غيرهم.
السبب الثالث أن أداء الإخوان في البرلمان في الدورة الماضية كان حاضرا لكنه لم يكن مؤثرا أو متأثرا بالاهتمام وكان موجوداً لكنه لم يكن جاذبا ولا فاعلا لأي تغيير فانضم نوابهم إلي نواب المستقلين في تقدير الناس لنواياهم مع يأس الناس من قدراتهم علي إحداث فارق فضلا عن سقوط هيبة النواب الإخوان بضربهم العلني أو القبض الفاضح عليهم واقتحام مقراتهم الانتخابية وهو ما يجعل موقفهم مهزوزًا مهتزا ولا أقول ضعيفا مهترئا (مع الاعتبار للضعف التقليدي للإنجاز الفعلي في دوائر النواب ).
هذا إن جرت انتخابات نزيهة وهو ما يجعلني لا أثق كثيرا في قدرة النظام المصري علي فهم مجتمعه فقد نجح الرئيس مبارك علي مدي 28عاما في إحداث تغيير هائل في الشخصية المصرية سحبت منها العزة والكبرياء والنخوة والرجولة وساقتها للتشوه والانحراف وسقوط المعايير واختلال المبادئ، الأمر الذي جعل الرشوة في بلدنا منهج حياة من أول الغني المليونير الذي يرتشي ويرشو إلي الموظف الصغير الفقير الذي يرتشي ويرشو كذلك !
نعم الرشوة منهج حياة في مصر وكان طبيعيا إذن لمواطن يسمي الرشوة «الحلاوة بتاعتنا» أو «عرقنا» أو يطلبها مشفرة في جملة «عايزين الشاي بتاعنا يابيه» أن يقدم صوته الانتخابي مقابل رشوة انتخابية !
ما المناسبة لهذا الكلام ؟
أولاً: هو لايحتاج مناسبة
ثانيا: إذا أردت مناسبة فهي اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية فضلا عن تمام خمس انتخابات (نقابتا الصحفيين والمحامين ونادي القضاة وناديا الزمالك والأهلي) معبرة كلية عن أن الرشوة هي ريموت كنترول الحياة الانتخابية في مصر الآن !
الذي جري أن المواطن الذي تعود أن هناك مقابلا سواء لما يطلبه من حقوق أو ما يمنحه من حقوق أو حتي أباطيل فقد تعامل مع صوته وموقفه الانتخابي باعتباره موضوعا للرشوة التي نخففها بوصفها رشوة انتخابية والرشوة هي رشوة سواء كانت انتخابية أو باذنجانية، كيف يحدث ذلك ؟
أبدًا هناك حالة من الضيق الاقتصادي والتضييق علي الرزق والتفاوت الطبقي الرهيب وتضاؤل الدخول المشروعة فأدي ذلك إلي وجود.
1-حاجة لدي الفقير يسعي لتلبيتها.
2-احتياج لدي محدود الدخل يسعي لإشباعه.
الفجوة بين رزق الفقير وبين حاجته للحياة شبه الآدمية تغطيها وتردمها الرشوة، والهوة بين دخل محدود الدخل واحتياجه للحياة شبه الكريمة تحققها الرشوة.
علي صعيد آخر فإن قيم الاستهلاك السائدة والسقوط في طموحات الرفاهية الكذوبة تجعل حتي المستورين الأغنياء يلجأون إلي الرشوة، ويمكن أن تقوم بحصر لقضايا الرشوة التي يعلن عنها وطبعا هي لا تتجاوز عشرة في المائة بينما تسعون في المائة من حالات الرشوة لا يتم ضبطها فتكتشف شخصيات غنية ومستورة ترتشي وترشو بمنتهي البساطة، لأنها لم تعد جريمة من وجهة نظر الكثيرين بل صارت شيئا عاديا معتادا لا هو مستنكر ولا مستنكف ومن ثم بات مهما أن يختلق المواطن تبريرا لرشوته وأعذارا لتلقيه الرشوة.
أولا قرر أن يتدين هذا التدين القشري الشكلي الذي يختصر الدين في أشكال وطقوس من اللحية والجلباب والبكاء في دعاء ختم القرآن وغير ذلك أو في تعليق الصليب وثانيا قرر أن يتطرف فيتهم المسيحيين بالكفر (أو المسلمين بالكفر لو كان المواطن مسيحيا) ويسأل طوال الوقت عن الحلال والحرام كأنه لايعرفه .
ثالثا: أن يتحدث عن أن ما حصل عليه بالرشوة هو حقه، هذا الحق الذي انتزعوه منه (أنت عارف إني بأقبض كام، أنت عارف إن زميلي في وزارة كذا بيقبض أكتر مني، أنا بأتعب قد إيه وغيري بياكلها والعة، أصلك بتقبض آلافات وبتطلع في التليفزيون وفاكر الناس كلها مرتاحة زيك، ده حقي وشقايا ).
ولأن الطبقة المتوسطة وأصحاب المهن التي تبدو مرتاحة من خارجها يجيدون الضحك علي النفس ويلبسون الحق بالباطل فقد قرروا تحويل كلمة الرشوة الانتخابية العلنية الواضحة الفاضحة إلي فيلم جديد يعرض علي شاشة النقابات المهنية والأندية الرياضية منذ سنوات وهي فيلم الخدمات !
فكل مرشح يقدم حزما من الرشاوي يسميها هو ومتلقوها خدمات تماما كما يطلق الموظف علي الرشوة الحلاوة أو الشاي، ومن هنا تبدأ عملية شراء الأصوات التي تسعي بلهفة وبهوس مندفعة نحو الذي يدفع ويرش من أول أوهام الشقق والسكن إلي الرحلات المجانية والمعسكرات إلي توزيع لعب وأجندات إلي دفع مباشر وفج لمبالغ محددة، هكذا علي عينك يا تاجر ويؤجر الناخب في هذه المحافل صوته ويقوم بعملية تثمين لصوته فينجح بعض المرشحين في نقابة لأنهم وفروا للناخبين تليفونات محمولة مجانا أو حتي كروت شحن مجانية، ويكتسح بعضهم لأنهم رفعوا شعارات لا للسياسة ولا للمواقف السياسية هذه جمعية الغرض منها تقديم خدمات لأعضائها (لاحظ أن أعضاءها يطلق عليهم الناس لقبين إما باشا والشاب منهم يبقي البيه، ومع ذلك فهم يقفون أمام الكاميرات ويقولون نريد خدمات وخذ يا سيدي من الخدمات وعبي بلا قيم بلا مبادئ بلا نيلة، وينجح آخرون، لأنهم وزعوا سجاجيد صلاة.. ويفوز بعضهم لتمكنه من تخصيص أرض من خلال نفوذه أو فلوسه أو المباحث وتوزيعها علي الأعضاء للمتاجرة فيها فيما بعد، والمتأمل لنتائج جميع الانتخابات الدائرة في مصر سيجد هذه النوعية من مرشحي الرشاوي والخدمات وعلي قمتهم رجال الأعمال الذين توحشوا في محاولة نيل هذه المقاعد للتغطية علي نشاط مجهول أو استغلال الاسم والدعاية أو اللعب بفائض من الفلوس في نشاط مربح إعلاميا، بل شهدت دوائر الإعلام الفضائي والتليفزيوني مجموعة من الداعمين لهؤلاء المرشحين ويحصلون علي مقابل مالي ضخم تحت دعوي أنهم مستشارو حملة انتخابية رغم أن الموضوع كله رشوة لا فصال فيها لكن تعمل إيه في الكذب حين يصير دينا للبعض !
إذا انتقلت من هذه الدوائر المرتشية الخجلة إلي مجتمع العشوائيات فأنت لن تصادف هذا اللف والدوران اللزج من البهوات والسادة المرتشين بالخدمات بل ستري وضوحا فخورا بنفسه فمواطن العشوائيات ومناطق في الريف كذلك يبيع صوته مقابل أجر محدد بيعا مباشرا بلا حياء ولا تردد ولا يتصور أنه يرتكب شيئا معيبا أو مشينا، ثم إذا خضت بتأملك حتي الريف والأقاليم ستجد المرشح الذي يدخل برجليه القرية فيسأله الأهالي عن قيمة ما سيتبرع به لمركز الشباب أو للنادي أو للمفارقة المخزية للجامع ويصبح امتياز المرشح ومكانته مرهونا بدفعه تبرعات (لاحظ هي تبرعات حسب الشفرة الريفية)، ثم التبرع ينتقل إلي أن المرشح بني نافورة أو عمل ميدانا أو أقام سورا للمقابر أو للمدرسة أو دفع مصاريف المدرسة لمائة طفل محتاج، الأمر كله يعود بك إلي ثقافة التسول التي تشاهدها في برامج التليفزيون التي تتباهي بالزكاة العلنية أو الصدقات غير الخفية ولا المستورة وبهذا الوش المكشوف الذي يظهر به طلاب الحاجة ومتسولو مصر الجدد من أصحاب الحاجات الحقيقية لكن حياءهم سقط وكرامتهم عرت عورتها !
المحصلة كلها بائسة لكنها حقيقية، إن الانتخابات القادمة ولو حرة ولو نزيهة فنتائجها لن تساهم في وصول عناصر وطنية محترمة للبرلمان ولا وجود كفاءات راقية وشريفة في مجلس الشعب، ولن تعبر عن تمثيل حقيقي للأمة ولا لطبقات وشرائح الشعب المصري، بل ستكون نتاجا وإفرازا شائها لمجموعة من ذوي المال والنفوذ ومالكي قدرات الرشوة وإفساد الضمير العام، وهؤلاء جميعا لا أستثني منهم أحدا مصلحتهم مع نظام فاسد ومفسد ولا يمكن أن يكونوا دعاة ديمقراطية وحرية أبدا ولا نقدر علي الرهان علي أنهم قد يقودون وطنا نحو التقدم والتطور !
بالمال في بلدنا تستطيع أن تشتري أي انتخابات مهما تصورت أنك لا تستطيع أن تشتريها (الاستثناءات واردة فقط لتثبت القاعدة )، لأن المناخ كله صار مشبعا بالرشوة منهج الحياة وبالمال قانون الوجود ومصر كلها بقت تفكر بذات طريقة اللاعبين تعساء الثقافة ومنحطي الوعي «اللي يدفع أكتر يشيل» ولتسقط العقود وكلمة الشرف واحترام الاتفاقات فقد صار البلد كله في حالة مزايدة علي شراء الضمير (الوظيفي -القانوني -الإعلامي -السياسي ).
نتيجة الانتخابات الحرة سوف تصعد بقوي المال والنفوذ حتي دون أي تدخل أو تزوير، فالانتخابات (أي انتخابات في الدنيا ) تعبير عن مجموع الثقافة والوعي والأخلاق والمصالح في المجتمع، قد ينجح علي هامش الانتخابات الحرة رجال الدين لكن الناجح الحقيقي والكاسح سيكون رجال المال.
هنا يأتي امتحان المؤمنين بالحرية والديمقراطية !
الواجب أن يرحب المدافعون عن الحرية وطلاب الديمقراطية عن إجراء الانتخابات الحرة النزيهة بصرف النظر تماما عن محصلة نتائجها ولا توقع فرزها، فالتغير ثم التغيير الذي ينشده الجميع لهذه الأمة وهذا الوطن لن يتحقق إلا بالانتخابات الحرة ...لكن ربما في دورتها الحرة التالية !