-4-
فى الصباح الباكر الكل شارد فى مكتب قائد السرب .. الطبيب لم يحضر
( يعنى مش حنلعب شوية بالسماعة بتاعته..!!) لا طلعات للسرب اليوم , سيقوم السرب الآخر بمهمة اليوم..ومهمتنا ستكون إستقبال الطيارين الجزائريين بطائراتهم السوخوى والترحيب بهم وتسكينهم بالميس...الإنتظار ممل.. يسود بيننا هدوء غريب مش عادتنا دخل قائد ثان السرب بسرعة يبحث فى أدراج المكتب..فين حاجة أحمد ..؟ أقصد الشهيد أحمد....أهه..أخرج من الدرج محفظة وسلسلة ذهبية كان أحمد قد وضعهما فى الدرج قبل طلعته الأخيرة..( كان معظمنا يضع سلسلة ذهبية بها آية الكرسى هذا بخلاف الأقراص المعدنية الميرى التى بها الإسم والرقم العسكرى وفصيلة الدم...) وخرج مسرعا فخرجنا خلفه لنرى سيارات سوداء (رئاسة) يضع بعض الموظفين شنط وأغراض أحمد الخاصة..جاء قائد السرب هانى قائلا ..إيه مالكم ..؟ ياريتنا كلنا زيه..إنتم مش عارفين المستقبل فيه إيه ..إنما هو كوفىء.. هناك ..فوق ..ياللا الطائرات الجزائرية على وصول..قال زميل : على فكرة يافندم بلغونا فى طيارة منهم دخلت فى برج ضغط عالى غرب القاهرة وإنفجرت..سكت برهة ثم قال هانى بلهجة حاول أن تكون مرحة كعادته..الله الله دول إبتدوا بدرى بدرى...بس الجبهة الناحية التانية فى الشرق...نظرنا لبعضنا نحاول الإبتسام ..إبتسامة صفراء..أطلقنا عليها بعد ذلك فى مناسبات أخرى : إبتسامة البرسيم ( عندما يضع العربجى حزمة برسيم مرة واحدة فى فم الحمار فإن فمه ينسحب لأعلى كأنه يبتسم..!!مش قلتلكم عالم مخها مفوٍت ) .
وصل الطيارون الجزائريون , إستقبلناهم بحفاوة كبيرة وأخذناهم للميس..كانوا فى غاية الأدب والإحترام ..جلسنا معهم بعد ذلك لمناقشة مهمتهم وزودناهم بما يحتاجوا من خرائط ومهمات ملاحية , وكانت مهمتهم صعبة لأنهم على أرض جديدة يجب دراستها جيدا لأن الطيران المنخفض يحتاج إلمام جيد بطوبوغرافية المنطقة..و من المنتظر إشتراكهم معنا صباح اليوم التالى..
ذهبنا نبحث عن رضا والمفروض أنه أنهى تقريره ومناقشة ما تم أمس وظروف إستشهاد أحمد ..وعندما وصل سألناه بدورنا..فقال "لا أعلم بالضبط , لقد فوجئنا فى طريقنا للهدف بمجموعة كبيرة من الدبابات و الجنزرات تجرى بسرعة ثم توقفت وبدأت فى إطلاق نيرانها ولم أصب وكملت لهدفى وفوجئت بأحمد على يسارى يرتطم بالأرض..." إذن هو ماحدث معى بالضبط فى طلعتى التى أصيبت فيها طائرتى ومن دفاعات الدبابات أيضا ..فتوجهنا لقائد السرب نحيطه بموضوع التحركات السريعة لمدرعات العدو , فقام بإبلاغ مركزالعمليات بما رأيناه الى أن يصل له تقريرنا كذلك طلب أن تكون تقارير الإستطلاع مجددة أولا بأول قدر الإمكان , فتقارير الصباح الباكر لا تصلح بعد ساعات خاصة بتحركات العدو السريعة..
تابعنا بعد ذلك الزملاء فى السرب الآخر ..الحمد لله كلهم وصلوا بسلامة الله , وكانو دايما يقولون : وشكم حلو علينا ..فعلا لم يصب أى منهم الى آخر يوم عمليات ..كفاية اللى شافوه وخسائرهم قبل حضورنا..عزرائيل خلًص القايمة اللى عنده منهم ..ولكن مسك قوائم أخرى..!!
قائد السرب هانى ينادى ..تعالوا بسرعة معايا..قفز داخل السيارة الجيب وعدد منا معاه..سألناه فيه إيه يافندم..قال : مرتضى فى دشمة على أول الممر...قلنا فى نفس واحد..مرتضى..؟؟؟ ( الرائد مرتضى ر. هو احد مدرسينا فى وحدة تدريب القتال..من أشرس الناس عسكرياً ملتزم و وطنى لأقصى درجة كنا نهابه حتى بعد أن أصبحنا زملاء سرب , معلومته متجددة لا يكل ولا يمل فى التكرار للتلقين الجوى حتى نهضم المعلومة ويحاسبنا على أصغر هفوة ..ولا ننسى جملته الشهيرة " الطيار غلطة واحدة "أى ليس هناك فرصة لأن يخطأ مرة أخرى..عاصرنكسة 67 ولم يتمكن من الإقلاع بطائرته بسبب تدمير الممر فى أحد مطارات سيناء ..إشترك بالطبع فى بعض الطلعات فى حرب الإستنزاف ..منذ حوالى أسبوعين أصيب بانفجار فى الزائدة الدودية وتم نقله للمستشفى وهناك مكث ساعات فى العمليات الجراحية لإنقاذ حياته من التلوث البريتونى و ازالوا جزء من أمعاؤه..قبل العمليات زرناه على دفعات وكان يعانى من فتق كبير فى بطنه ونقص وزنه بدرجة كبيرة كل هذه المؤشرات تفيد بأنه لن يكون لائقا للطيران مرة أخرى , وهذا أثر على نفسيته جدا..) وصلنا الدشمة وفى مشهد لاننساه وجدنا مجموعة من الفنيين تحاول منعه من الصعود الى الطائرة..يلبس قميص وبنطلون عادى وبطنه تتدلى من تحت القميص..ومازالت آثار أربطة المحاليل فى أيديه.. وما أن رأينا إلا وصاح يا شوية عيال إتنقلتوا من (الغرب ) وجيتوا الجبهة ومش عايزينى أشارك معاكم خلاص ما انفعش دلوقت.. سحبه قائد السرب برفق قائلا تعالى يا مرتضى نتكلم شوية فى المكتب دى كل الناس عايزينك معاهم ونفسهم يشوفوك..فتح بذلك الحديث لنا.. فانضممنا كلنا نحيه ونحضنه قائلين إحنا تلامذتك يافندم ومانقدرش نستغنى عنك وأخذناه فى مظاهرة ترحيب وإنضم إلينا بعض الفنيين بينما ألمح آخرين يحاولون السيطرة على عبراتهم..ذهبنا الى مكتب القائد .. أخنا ندردش فى أى شىء بعيدا عن العمليات , وفى نفس الوقت قام قائد ثان بالإتصال بالمستشفى الذى كان يبحث عنه , وقاموا بإرسال سيارة مجهزة لنقله بعد أن أعطاه طبيب السرب حقن مهدئة ومحلول عندما فوجىء بحالته..كانت سيارته ال128القديمة التى وصل بها مازالت لدينا ..طبعا تطوع مصطفى العريس الجديد لتوصيلها للقاهرة ..فسمح له القائد مبتسما..على أن يعود فجر الغد ..خرج مرتضى البطل من الخدمة بسبب عدم اللياقة الطبية بعد حوالى ثلاث سنوات..إشترى خلالها سيارة 128 أيضا جديدة بتقسيط قوات مسلحة , وكان يحب أن يصطحب أسرته الصغيرة الى بورسعيد , وعلى طريق الاسماعيلية - بورسعيد يشاء القدر أن يذهب ضحية حادث أليم ..يرحمه الله رحمة واسعة .
صباح اليوم التالى , ذهبنا كالعادة للتلقين , سأشترك بإذن الله فى طلعة بعد الظهر قبل آخر ضوء..وسيكون تسليحنا صواريخ جو - أرض الخارقة للدروع و سيقوم السرب الجزائرى بطلعات فى الصباح وأيضا بعد الظهر ..طلعنا فوق الدشمة لنراقب إقلاع طائراتنا بعدما أقلع الجزائريون , وإنتظرنا كالعادة عودتهم ..واحد.. إثنين ...الخ الحمد لله عادة كلها سالمة , اما الجزائريون فعادوا ماعدا واحدة..ثم رأينا طائرة البحث و الإنقاذ الهليكوبتر تنطلق فى إتجاه الشرق , علمنا بعدها أن الطيار قَفذ بالكرسى المنطلق من طائرته المصابة على مسافة غير بعيدة من المطار..ثم توجهت طائرة الإنقاذ به للمستشفى بالقاهرة ...
بعد الظهر, راجعنا على تلقين الطلعة ..ثم ذهبنا للدشم , الأعصاب أقل توترا من السابق , دخلت على الطائرة بخطى أكثر وثوقا , ثم وجهت كلامى للطاقم الفنى إيه دى..برضة 1613 هى مش كانت إتخرمت واتخربأت هو مافيش غيرها فى مصر , قالوا مالها يا فندم , دى إتصلحت تماما واتسمكرت والكابلات كلها جديدة , صحيح ما ادهنتش الرقعة بس تمشى مع التمويه بتاع الطيارة..قلت لهم ألسطة اللنش يا رجالة... والله حبيتها .. بصوا ..خلوهالى كل طلعة ..والله الناس كلها مقدرة تعبكم وسهركم فى إصلاح الأعطاب تفتكروا إحنا مش عارفين ؟ إحنا شايفين هناجر الصيانة طول الليل شغالة ...ربنا ما يحرمنا منكم..قالوا فى صوت واحد : منصور يا رب منصور سيادتك و الزملاء ..هيلا بيلا ألاقى نفسى مربوط فى ثوان وكلهم يتمتموان بالأدعية...يا ربى.. الروح الجميلة دى تخلينى فى جو آخر من الراحة والصفاء وتجعلنى أتقبل أى شىء...خرج بعضهم لرؤية الخرطوشة الخضراء التى تنطلق من البرج...برغم وجود تليفون عمليات يعطى الأوامر , الناس دى فرحانة ..زى مايكونوا فى زفة..رؤيتى لما يحدث تغيرت عن طلعتى الأولى.. هل نضجت مثلا فى يومين..؟ هل ثقتى بالحدث كله زادت ..؟ الأكيد أننى تغيرت ..ربنا يقدرنى وأفرًح الناس البسيطة دى..اللى كل حياتهم هذه الطائرة..
كانت الطئرات الجزائرية قد أقلعت قبلنا بمدة ..تأخرت الأوامر كثيرا..تليفون باحتمال إلغاء الطلعة..ثم خرطوشة خضراء ..تم إدارة المحرك ..إختبار سريع للأجهزة.. فعلا الناس دى رجعَت كل شىء كأنه جديد..تحرك للممر .. ثم إقلاع .. إنضم التشكيل كالتعليمات..وبدأنا خط السيرعلى إرتفاع منخفض.. الأجواء ليست كالطلعة السابقة..السماء تخلو من الطائرات ..بعد فترة قليلة بدأت أرى إنفجارات أرضية ودخان أسود كثيف ناحية القناة..الطائرات الجزائرية تعود وتمرمن فوقنا ..لم أحصرعددها ..إتصال من القاعدة بالعودة فورا.. العودة ..لماذا ؟ قائد التشكيل يناورلأخذ إتجاه العودة .. قمت بتأمين ذخيرتى من الصواريخ حتى أستطيع الهبوط بها مؤمنة..أخذنا مسافات الهبوط ..وكنت أحدثهم فكنت الأخير ..هبطت بالطائرة وقبل أن أخلى الممر لجهة اليسار إذا بالمراقب الجوى الله يكرمه يصرخ : إستمر لآخر الممر لاتخلى الآن..لا تخلى الآن.. لم أناقش واستمريت ..أكيد فيه حد نازل بحالة طارئة..وقفت عند نهاية الممر وقبل أن أسأل المراقب.. وجدت نار جهنم تفتح عن يمين الطائرة ويسارها ..وابل من الذخيرة ينتشر حولى ..ويصل حتى الأشجار بعد نهاية الممر...مين الى بيهاجمنى..؟ سألت المراقب إيه اللى بيحصل ؟ قال : خليك زى ماانت ..الطيارة الجزائرية تحترق على أول الممر ودى طلقات المدافع بتاعتها تنطلق من شدة الحرارة..إنتظر. أنتظر ؟ يا حول الله ..لا أقدر أخرج من الطائرة..ولا اتحرك بها ... وانتظر فرج ربنا لغاية ما تخلص ذخيرته...إستطعت النظر خلفى بصعوبة ..فوجدت أفرول طيران برتقالى -الذى يتميز به الجزائريون- يجرى بعيدا عن الحطام المشتعل...الحمد لله إنه إستطاع أن يترك الكابينة ..إنتظرت حتى إنتهت آخر طلقة عنده , وسمح لى المراقب الله يكرمه مرة أخرى بالعودة للدشمة..........كانت الطائرة الجزائرية قد أصيبت وإشتعلت وحاول الطيار الوصول للمطاربدلا من القفز منها ولكن تقديره خانه فارتطم بعتبة الممر وإنشطرت الطائرة.. الكابينه إنفصلت لحسن الحظ لذلك إستطاع الخروج منها أما بقية الهيكل فقد إشتعل وانطلقت المدافع بتأثير الحرارة الشديدة...ورش علينا رشة جريئة...!!
وللذكرى بقية بإذن الله