ذهبت مع عدد من الضباط والمرافقين لاستقبال الوفد الروسي والاحتفاء بهم كما يجب كان ذلك مساء يوم الخميس ، وفي تمام الخامسة مساءً وصل في سيارة دبلوماسية تخص السفارة الروسية في إسرائيل الجنرال فلاديمير ومساعده العميد الدكتور سيرجي بوغدانوف ، نزل رجل طويل القامة ونحيف تجاوزت سنوات عمره السبعين وكان خلفه الضابط الاربعيني الشاب صافحني بحرارة وقال انك كما اعتقد الدكتور كامل ، قلت له نعم فقال وأنا الجنرال فلاديمير وهذا مساعدي العميد سيرجي بوغدانوف نحن نجيد الحديث قليلا باللغة العربية وخاصة الدكتور سيرجي وباعتباره خريج معهد آسيا وأفريقيا التابع لجامعة موسكو الحكومية في قسم الشرق الأوسط وهو نفس القسم الذي تخرجت منه يا دكتور كامل عام 1985م.
قلت له ما علينا أيام جميلة وانقضت تفضل لنجلس في سيارتي فقال لا أنا سأقود السيارة الدبلوماسية الروسية وأن ستجلس بجانبي ، والرفيق سيرجي في المقعد الخلفي والبقية يتبعونا في سياراتهم وهذا ما تم بالفعل ، ومن بداية الطريق حاولت أن أتحدث معه في الشأن السياسي وإذ به يهمس همساً في إذني نحن في هذه السيارات لا نتحدث في شئون السياسة والأمن لاعتبارات لا أظن انك تجهلها ، ابتسمت وقلت له حسناً سنتحدث عن جمال وعظمة روسيا والسماجون والفودكا والكفيار والنساء الروسيات الجميلات ، ابتسم وقال: هل حقاً شربت السماجون؟ فقلت له ولماذا تستغرب ذلك ، لقد أحضروه من القرى أصدقاء وصديقات لنا ونحن على مقاعد الدراسة من عند جداتهم ، وكما يبدو فإنه من الضروريات عند الفلاحين في شتاء روسيا القارص ، ضحك بصوت مرتفع سيرجي بوغدانوف في المقعد الخلفي وقال يا رفيق فلاديمير كما أن روسيا تعيش في وجدان الدكتور كامل فإنه أيضا يعيش في وجدانها فقد ترك بصماته الايجابية علينا حتى في داخل المعهد فهو ليس الفلسطيني الوحيد فقط الذي درس ونال شهادة الدكتوراه بل والعربي الوحيد وهو السابع مع ستة مرشحين لنيل هذه الشهادة كانوا مبعوثين من الدول الاشتراكية وقد تفوق عليهم جميعاً وبدلاً من أن يطلب عاماً إضافيا لاستكمال دراسته اختصر من الوقت المحدد لثلاثة سنوات ستة شهور وكانت هذه سابقة تستحق التنويه.
دخلنا مدينة غزة وبدأنا نسير باتجاه بيت اللواء أمين الهندي نظر نحوي فلاديمير وقال بحسب علمي فإن أمين الهندي كان مساعداً ورفيقاً مخلصاً للشهيد أبو إياد وصديقا حميماً ولدوداً للشهيد عاطف بسيسو أليس كذلك؟ ابتسمت وقلت له: إنك يا رفيق فلاديمير تعرف عنا كل شئ ، فرد قائلا انه عملي الممتع والشاق في نفس الوقت فهو ممتع لأنني من خلاله تعرفت على معظم زعماء الشرق الأوسط من زعماء وقادة وملوك وشاق في نفس الوقت لأنه سرق مني حياتي الشخصية.
وصلنا إلى بيت اللواء أمين الهندي حيث كان بانتظارنا عند الباب فاستقبل الوفد الروسي بحرارة وبترحاب كبير فصعدنا سوياً إلى المنزل لتناول وجبة العشاء قبل الدخول في جلسة العمل وعلى المائدة قال فلاديمير مخاطباً الأخ أمين شكرا لكم على هذه الحفاوة وهذا الكرم الأصيل ثم نظر نحوي وقال هنا يمكن الحديث عن الأمن والسياسة فنحن الآن في بيت الرفيق أمين الهندي ولسنا في السيارة الدبلوماسية المراقبة من كل الاتجاهات.
استغرقت جلسة العمل حوالي الساعة والنصف بدأها الجنرال فلاديمير بالحديث عن العلاقات التاريخية التي كانت قائمة بين الاتحاد السوفيتي ومنظمة التحرير الفلسطينية وأن لديهم الرغبة الأكيدة في مواصلة وتطوير هذه العلاقة بين جمهورية روسيا الاتحادية والسلطة الوطنية الفلسطينية.
فرد الأخ اللواء أمين عليه بالقول نحن في الشعب والسلطة الفلسطينية نثمن عالياً دعمكم المستمر للشعب الفلسطيني في كفاحه من اجل الحرية والاستقلال ونأمل في استمرار هذه العلاقات ، وبعد أن تم التداول في أمور كثيرة على الصعيدين السياسي والأمني قدم الرفيق فلاديمير دعوة رسمية لنا لزيارة موسكو وللتوقيع على اتفاقيات للتعاون الأمني بين روسيا الاتحادية والسلطة الفلسطينية ، وعبر تجاذبات الحديث أبلغنا بأنه صديق شخصي ومقرب من الرئيس العراقي صدام حسين وهو يأسف لما جرى ويجري في العراق ومع نهاية الاجتماع شرب كاساً أخرى من الفودكا وقال: هناك معلومة أرى من الضروري إعلامكم بها ، قلت له ما هي؟ قال: لقد اتخذنا قراراً اكيدً باسترجاع سلطة روسيا الاتحادية وهيبتها المخطوفة من قبل الخنزير بوريس يلتسن ، ونحن نعد في رئيس شاب من داخل المؤسسة الأمنية اسمه فلاديمير بوتين وسيكون رئيساً لروسيا بعد 6 أشهر ولسوف نرفع صوتنا مجدداً في وجه طواغيت الإمبريالية الأمريكية الظالمة ، وعندما نقلت الحديث للأخ أمين ابتسم مازحا وقال: ( ولك يا دكتور احنا مالنا ومال الإمبريالية نحن الآن في وضع جديد وعلاقات جديدة ) وبعد أن نهضنا جميعا وخرجنا لوداعه نظر نحوي فلاديمير وقال: كانت جلسة لطيفة وجميلة ولكنا تعجلنا في الأمر لان الوقت يسرقنا فنحن وبعد ساعتين على موعد آخر قلت له مع من؟ فقال مع الرئيس عرفات في رام الله ، هذا يعني إننا سنتجه مباشرة من غزة إلى المقاطعة ، أبلغت الأخ أمين عن وجهتهم الجديدة ابتسم بصوت مرتفع وقال: يعني على الفور يريد إبلاغ الأخ أبو عمار ( مليح ما تورطنا في أحاديث تخص الأخ الرئيس ابوعمار ).
ضحك فلاديمير بصوت مرتفع وهو يصافح أمين وقال نحن يا رفيق أمين كلنا جنود عند الرئيس عرفات وإلى أن يتم تحرير واستقلال فلسطين أنا اعرفه منذ الثلاثين سنة ، وبالضبط منذ أول زيارة حضر بها إلى موسكو مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، هذا الرجل لديه سحر مغناطيسي خاص فهو يجذبك إليه وبدون أن ينجذب إليك أو لأي إنسان أخر ، وهو مثله ومثل الآخرين من الزعماء قد يقع في الأخطاء أحياناً إلا أنه وبقدرة عجيبة يحول هذه الأخطاء وعبر الممارسة إلى هفوات يسهل اجتيازها بأمان إنه بالنسبة لي صديق عجيب وممتع في نفس الوقت فقال أمين نحن سعداء أن نسمع منك هذا الكلام الجميل والطيب بحق الرئيس عرفات ، ولكن هل ستبلغه بأن الدكتور كامل شرب معك الفودكا؟ فقال فلاديمير وهو يبتسم سأبلغه بالحقيقة الدكتور كامل جاملني بكأس والرفيق أمين شاركني بالزجاجة حتى آخر قطرة إلى اللقاء أيها الأصدقاء وموسكو في انتظاركم.
وبعد انهماك الأخ أمين ولمدة أسبوعين في التحضير لزيارة موسكو وحيث تم تحضير العديد من الهدايا القيمة والتذكارية دخلت عليه في صبيحة احد الأيام وسألته عن موعد السفر ، وإذا به يفاجئني وبصوت لا يخلو من الغصة والحزن ويقول: انسى يا دكتور زيارة موسكو فنحن لن نذهب وسنعتذر وبكل أسف عن تلبية الدعوة وبانتظار ظروف أخرى فأرجو أن لا تسألني عن الأسباب ، أنت وحدك تعرفها ، فنحن وحتى هذه اللحظة مسيرين ولسنا مخيرين فقلت له مازحاً: لعنة الله على الأمريكان لا تغضب يا أخ أمين إن للباطل جولة.