التباين الفكري داخل مجلس القيادة
والواقع الاجتماعي لضباط التنظيم
كان لا مفر من أن يحدث الانقسام، داخل تنظيم الضباط الأحرار، بعد نجاحه في الاستيلاء على السلطة، وتوطيد أركانه. والواقع أن بوادر الانقسام ظهرت منذ طرد الملك فاروق من البلاد.
كانت أسباب الانقسام تكمن في عدم التوافق والانسجام، داخل مجلس قيادة الثورة، وفي التباين الفكري العقائدي، الذي ينتمي إليه الضباط الأحرار. ولم تكن هناك نظرية محددة واضحة يلتف حولها التنظيم. هذا فضلاً عن الأطماع الذاتية، التي نشأت من تعيين بعض الضباط، في مناصب مجلس القيادة، أو مناصب حكومية أخرى.
جمع التنظيم مجموعة من الضباط الوطنين، متبايني الفكر، والثقافة، والاتجاه والمزاج الشخصي. كانت مجموعة الضباط، من الذين شكلوا ما أطلق عليه مجلس القيادة، ثم تحول إلى مجلس قيادة الثورة، ينتمون إلى اليسار، وأخرى إلى اليمين، فمثلاً انضم إلى جماعة الإخوان، عام 1945، أي قبل قيام تنظيم الضباط الأحرار، كل من جمال عبدالناصر، وكمال الدين حسين، وعبداللطيف البغدادي، وحسن إبراهيم، وخالد محيي الدين. ولكن سرعان ما انفضت هذه المجموعة بعد حرب فلسطين، عن الإخوان.
والغريب أن أحدهم، وهو خالد محيي الدين، تحول من أقصى اليمين، إلى أقصى اليسار، حينما ترك جماعة الإخوان، وانضم إلى تنظيم (حدتو) الشيوعي، أو ما يطلق عليه "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني". كما كان جمال عبدالناصر على اتصال، بهذا التنظيم الشيوعي، وذلك عن طريق القاضي أحمد فؤاد، الذي ظل على اتصال بتنظيم الضباط الأحرار، من خلال جمال عبدالناصر، حتى قيام الثورة. كانت وجهة نظر جمال عبدالناصر، في اتصالاته بهذه التنظيمات، أن يتعلم أسلوب عملها، ويقف على أسرارها، لدرجة أنه فكر في أن يرتبط بجماعة من الحرس الحديدي، التي شكلها الملك فاروق لأغراض سياسية، منها القضاء على خصومه. وقد روى عبدالناصر هذه القصة لصلاح نصر وذكر أنه جاءه الضابط مصطفى كمال صدقي، وحدثه عن الانضمام إلى جماعة الحرس الحديدي. وفعلاً حددَّ له عبدالناصر موعداً للانتظار، عند تقاطع شارع مصر والسودان بشارع رمسيس، وكان من المفترض أن تنتظره عربة من السراي، تقله إلى مكان الاجتماع. وتوجه عبدالناصر، في الموعد المحدد إلى مكان اللقاء، ووجد العربة في انتظاره، ولكن هاتفاً مفاجئاً جعله يقود سيارته الصغيرة بأقصى سرعة ممكنة. وقد سأله صلاح نصر عن الدافع، الذي جعله يغير فكره، فأجاب بأن غرضه كان الإلمام بدخائل هذه الجماعة، ولكنه خشي أن يتورط في أعمال تتنافى مع ضميره، ومبادئه.
وكان عبدالمنعم عبدالرؤوف شديد الولاء لجماعة الإخوان المسلمين، وكان يسعى إلى احتواء حركة الضباط الأحرار، داخل جماعة الإخوان، وقد استمر ولاؤه لهذه الجماعة، حتى بعد قيام الثورة. وقد حوكم في قضية الإخوان عام 1954، وحُكم عليه بالإعدام، ولكنه استطاع أن يهرب إلى الخارج، أو بصورة أدق، ساعده عبدالناصر على الفرار.
وكان يوسف صديق، الذي ضُم إلى مجلس قيادة الثورة، بعد قيامها، ماركسياً واضحاً، ومع ذلك كان يميل إلى تسليم السلطة للوفد، حزب الأغلبية. وكان جريئاً في آرائه، متحمساً لأفكاره، شجاعاً في مواجهة الموقف. لم يخف ماركسيته، ولم يحاول أن يسلك أسلوب المناورات. وقد اشتم عبدالناصر رائحة خطر ازدواج الولاء، داخل التنظيم، حتى أثناء فترة الإعداد للثورة، ولذا أصر على استقلال التنظيم. ومع ذلك، كانت المناقشات الدورية، التي كانت تجري في خلايا الضباط الأحرار، تبدو فيها بوضوح، هذه الاتجاهات السياسية المتباينة.
وهكذا حمل مجلس القيادة بين طياته، بذور الانقسام والصراع، وإن ظلت مختفية تحت حماس الوطنية، والكفاح من أجل الاستقلال.
........"
د. يحي الشاعر