يوم 10 أكتوبر 1973:
كانت إسرائيل تحارب جيوشاً عربية، ولكنها كانت أيضاً تواجه إلامدادات الكبيرة من الاتحاد السوفيتي، خاصة إلى سورية، فمخازن الاتحاد السوفيتي تقع على بعد حوالي ساعتَي طيران من سورية، كما تحركت عشرات السفن محملة بالإمدادات من مواني البحر الأسود. ويزداد من يوم لآخر تورط الاتحاد السوفيتي في الحرب، حيث تتدفق المعدات والأسلحة والذخائر بكميات كبيرة إلى السوريين والمصريين. وتتجسس السفن السوفيتية المنتشرة في البحر المتوسط لحسابهما، إذ تتنصت على الشبكات الإسرائيلية (أثناء الحرب، أطلق الاتحاد السوفيتي خمسة أقمار عسكرية، وهناك قمر عسكري آخر هو كوزموس 603 الذي أطلق للفضاء قبل الحرب، حيث يستطيع أن يمر يومياً فوق منطقة القتال، وهكذا كانت الاستخبارات السوفيتية تحصل على صورة واضحة لما يحدث في ميادين القتال).
أما الولايات المتحدة فقد كانت تعرف الموقف أكثر، وكانت مساعدتها لإسرائيل مهمة بالفعل، إذ وصل يوم 9 أكتوبر 1973، إلى إسرائيل، استعواضاً للطائرات التي خسرتها في أيام القتال الأربعة الأولى، بل أن تلك الطائرات وصلت وعليها علامات السلاح الجوى الإسرائيلي، ويمكن أن تدخل المعركة بعد وصولها مباشرة، وحتى يوم 10 أكتوبر 1973، كان السلاح الجوى الإسرائيلي قد فقد 66 طائرة، وجزء كبير من الطيارين والملاحين قتلوا أو اعتبروا بمثابة مفقودين. كذلك كان المسؤولون الأمريكيون يؤكدون أنه من المهم جداً أن تقوم إسرائيل بتلقين العرب درساً لا ينسوه.
توجه حاييم بارليف رئيس الأركان السابق إلى الجبهة الجنوبية لتولى منصبه، كمستشار لرئيس الأركان بالجبهة الجنوبية. وقبل سفره استعرض بارليف تجارب العبور التي قام بها الجيش الإسرائيلي. كان جونين منزعجاً من وجود بارليف في مركز قيادته، ورغم أن بارليف حاول طمأنته إلا أنه ظل متوتراً.
القتال على الجبهة الجنوبية:
هبط معدل القتال على الجبهة الجنوبية، وخفت حدته قليلاً ولم يعد هناك سوى عمليات محدودة، ولا توجد معارك كثيرة، ومع حلول الظلام يبدأ الجانبان المصري والإسرائيلي، في مراجعة ما تم طوال اليوم وحصر الخسائر، والاستعداد لإحباط محاولات الطرف الآخر للقيام بعمليات ليلية، وكذلك الإعداد لأعمال قتال الغد.
من نتائج القتال في الأيام الماضية، لاحظ الإسرائيليون، أن أي هجوم مصري، يسبقه عمليات قصف مدفعية شديدة، إذ يكثر المصريون من الاستعانة بضباط الملاحظة الأماميين، وهؤلاء يتوغلون بين الخطوط الإسرائيلية ومن ورائها، ويديروا نيران مدافعهم من مواقع قريبة من الأهداف المضروبة، وفي خلال أيام تعلم جنود الجيش الإسرائيلي، أن قصف المدفعية المباغت عليهم معناها ـ أحيانا كثيرة ـ وجود مجموعة من رجال الملاحظة المصريين مختبئة على مقربة منهم، وبينما النيران على أشدها، يبدءون في البحث عن ضباط الملاحظة المصريين.
كانت الخسائر في أفراد الدبابات كبيرة، وأثناء القتال ظهر قادة أصاغر، تولوا مهام قيادية بعد أن قتل قادتهم، وهناك أطقم دبابات لم يغمض لهم جفن منذ بدأت الحرب، أنهم يقاتلون من الصباح إلى المساء دون أن يعرفوا ماذا يجرى في القطاع المجاور.
كان معدل التغيير في المواقف سريعاً، لدرجة أن العديد من الدبابات قد تغير تشكيل أطقمها، حيث إن الدبابات التي بها جرحى تخلى إلى الخلف، وبعد إخلائهم يتم تشكيل أطقم جديدة للدبابات، وهناك أفراد دبابات استبدلوا ثلاث دبابات أو أكثر، أنهم يحاربون مع أفراد طاقم لم يعرفوهم من قبل، وفي حالات كثيرة لقي أفراد دبابات جدد مصرعهم بدون أن يعرفهم زملائهم في الطاقم. وفي فرقة آدن فقد طاقم إحدى الدبابات قائدهم، الذين تدربوا معه، وعملوا معه طوال سنوات، وعندما يحضرون جثته إلى محطة التجميع، يصعد إلى الدبابة قائد جديد من الاحتياط، وفي خلال حوالي ساعة يلقى مصرعه هو الآخر، ويعودون مرة أخرى. ولا يصدق الرجال في محطة التجميع أعينهم، من مشهد الدبابة وهي عائدة للمرة الثالثة، وهي تحمل معها هذه المرة أيضاً جثة القائد، ويرفضون هذه المرة العودة إلى الدبابة. فالطاقم مذهول بحيث لا يستطيع القتال. كانت حرب لم يألفها الإسرائيليون، يعالج فيها الأطباء جنوداً كثيرين، مصابين بصدمة القتال، مئات المصابين بهذه الصدمة، والكثير منهم يحتاج إلى علاج نفسي، هناك من نسوا أسماءهم، وهؤلاء يجب إرسالهم سريعاً إلى المستشفيات في الخلف.
موقع قطع بورفؤاد:
بعد خمسة أيام من الحصار، نجحت قوة ماجن اقتحام الموقع المحصن المحاصر على ساحل البحر والمعروف لدى المصريين باسم موقع قطع بور فؤاد، والذي يسمى لدى القيادة الإسرائيلية باسم "موقع بودابست"، حيث تمكنت عناصر المظلات بالتعاون مع الدبابات وبجهد مشترك من اقتحام الطريق الساحلي إلى هذا الموقع من اتجاه الشرق، وكان هذا الموقع الوحيد الصامد في القتال إلى النهاية. كان هناك موقع آخر لا زال محاصر، في لسان بور توفيق، ولا زال صامداً.
الجديد في الموقف بعد أربعة أيام قتال طويلة، وصول تعزيزات جديدة إلى الجبهة، خاصة وحدات المدفعية، حيث وصلت العديد من وحدات الهاوتزر عيار 155مم، والهاونات الثقيلة عيار 160 مم، والهاونات 120مم.
أعمال القتال الرئيسية على الجبهة المصرية يوم 10 أكتوبر 1973:
بدأت هجمات القوات المصرية الساعة العاشرة صباح يوم 10 أكتوبر 1973، لتوسيع رؤوس الكباري، ولكن بقوة محدودة، لا تتعدى كتائب مشاة أو دبابات، وأشتد القتال بين الجانبين وتدمر لكل طرف عدد من الدبابات.
تركز هجوم المصريين في اتجاه "هافيفا"، في شرق قطاع الفردان، وبدأت قوات آدن تدعم أوضاعها لصد الهجوم المصري، وبدأت الكاتيوشا المصرية تصب نيرانها على وحدات فرقة آدن.
تمكنت القوات الإسرائيلية من صد الهجوم وإحداث تدمير في بعض الدبابات، وأبلغت عناصر الاستطلاع عن تحركات القوات المدرعة المصرية على الاجناب، فاتجهت إليهم الدبابات الإسرائيلية لملاقاتهم وتمكنت من تدميرهم، ومع ذلك استمر ضغط وحدات المشاة، وتصاعدت الخسائر الإسرائيلية حيث قتل بعض قادة السرايا ونواب قادة الكتائب، واستطاعت الصواريخ "ساجر" والقواذف ر. ب. ج ـ 7 التي تطلق من مسافات قصيرة أن تدمر العديد من الدبابات الإسرائيلية مجدداً. كان الموقف خطيراً، سرعان ما وجهت نيران المدفعية على القوات المصرية المهاجمة، بتوقف الهجوم من شدة النيران، وتراجع المصريون غرباً على طريق "أروف Arov" "شمال الفردان"، تاركين العديد من الخسائر خلفهم، لقد أطلقت وحدات المدفعية الإسرائيلية 4700 قذيفة على مدار هذا اليوم، تزن نحو 250 طن، واستطاعت المدفعية الإسرائيلية من معاونة القوات، على الرغم من القصف المضاد عليها من المدفعية المصرية.
وعاود المصريون هجومهم بعد ساعتين (الواحدة ظهراً) بآلالاف من جنود المشاة المدعمة بالدبابات، بدأ الهجوم هذه المرة من (أروف) في اتجاه زراكور "Zrakor"، شرق البلاح، ووقعت القوات الإسرائيلية تحت ضغط الهجوم المصري، ووقع العديد من الخسائر في لواء جابي من قوات آدن، كما وقعت القوات الإسرائيلية تحت تأثير نيران المدفعية والكاتيوشا المصرية، ودمرت العديد من الدبابات في منطقة "هافراجا Hafraga" "جنوب شرق البلاح"، استمرت الهجمات المصرية في الضغط على وحدات آدن شرق الفردان والبلاح. حتى تمكن لواء جابي من إيقاف الهجوم المصري تجاه اروف بعد أربعين دقيقة عصيبة من بدءه. ومع ذلك فقد استطاع المصريين أن يوقعوا العديد من الخسائر في الدبابات الإسرائيلية باستخدامهم الدقيق للصواريخ "ساجر".
وفي الساعة الثانية عاود المصريون هجومهم، تحت ستر نيران مدفعيتهم، التي تمكنت من تدمير عدد من الدبابات الإسرائيلية، ولكن هذا الهجوم لم يحقق نجاحاً، بسبب كثافة نيران المدفعية الإسرائيلية، والتي بدأت تؤثر على الهجوم المصري. كرر المصريين الهجوم في قطاع لواء "ناتك"، على محور الطريق الأوسط، بإعداد كبيرة من الدبابات والمركبات المدرعة المصرية والآلاف من المشاة، واستمر القتال لمدة ساعة كاملة، لم يكن لدى "ناتك" وحدات مشاه، وهو في حاجة شديدة إلى دعم من المشاة على وجه السرعة، لقد تحملت دباباته العديد من الخسائر، وكانت نقطة ضعف كبيرة، أن الوحدات المدرعة لا تعمل معها وحدات من المشاة، إذ كانت المشاة محملة في المركبات نصف جنزير ولا يمكنها مرافقة الدبابات.
مع تزايد حجم الخسائر في قوات آدن، قرر الجنرال جونين سحب إحدى كتائب دباباته واستبدالها بأخرى أقل خسائر على حساب وحدة أخرى. التي حدثت بها مزيد من الخسائر. أعمال قتال يوم 11 أكتوبر 1973:
قامت وحدات كوماندوز إسرائيلية بالإغارة خلف الخطوط المصرية، إذ نقلت قوة من المظلين بالطائرات العمودية إلى جبل عتاقة غرب السويس، وقصفوا على مدى 25 دقيقة إحدى مراكز القيادة المصرية، في السهل الواقع تحتهم، ورغم أنها عملية ثانوية إلا أنها ساهمت في رفع الروح المعنوية للمظليين وقيادتهم، وليزداد الاعتماد عليهم في المراحل التالية.
وعلى طول القناة توقف الهجوم المصري، واستطاعت وحدات الجيش الإسرائيلي أن تتوقف على طريق المدفعية (الطريق العرضي الرقم 2)، وكان من الواضح أن القوات المصرية تسعى للسيطرة على هذا الطريق، والقطاعات على جانبه، وكذلك على التلال المجاورة له.
إلا أنه يبدو أن المصريين كانوا غير قادرين على استكمال المرحلة الثانية من هجومهم، لاقتحام متلا والجدي، لذلك يديرون حرب استنزاف ضد القوات الإسرائيلية، ويتمسكون برؤوس كباري الفرق الخمس شرق القناة. فكرت القيادة الإسرائيلية، منذ هذا اليوم، كيفية استعادتها للتوازن على الجبهة المصرية، خاصة بعد تصفية الموقف تقريباً على الجبهة السورية لمصلحة إسرائيل، بفضل الأسلحة الأمريكية. وكان التوازن المطلوب غير متيسر إلا بالعبور غرب القناة، واختراق مؤخرة القوات المصرية.
أصبح عبور القناة ضرورة، وقد تدرب الجيش الإسرائيلي على مثل هذا إلاحتمال، وفي القيادة الجنوبية ملفات تفصيلية عنه. كما قامت القوات بمناورة كاملة على هذا النمط، عندما كان شارون قائداً لقيادة الجبهة الجنوبية، وفي نفس المنطقة تقريباً، تقرر أن يكون العبور عند البحيرة المرة، حيث تركت القيادة المصرية ثغرة كبيرة بين الجيشين، وكذلك كانت طبيعة الأرض تسمح بالهجوم من هذا الاتجاه، كما أن غرب القناة به قناة مائية عذبة واحدة، ومن وراءها سهل كبير تستطيع المدرعات أن تعمل فيه بحرية.
|