مثل درويش أشعث الشعر عاري الجسد بعمامة خضراء وعلي ظهره لوح من المسامير المدببة، تصورت نفسي علي هذا الحال وأنا أدور وألف في ميادين القاهرة وشوارعها وحاراتها وأزقتها "أدعو" بالبلاء والجرب والضمور علي هذا المجرم المتوحش آكل لحوم المصريين ومصانعهم ومبانيهم في كرشه الواسع!
أسف لا تسألوني عن أوصافه وملامحه وشكله واسمه، لأنني لا أعرفها، ولا حتي الحكومة تعرفها، هو مثل الأشباح يظهر فجأة ويضرب فجأة ويختفي مثل دخان في الهواء، فقط يترك وراءه الخراب والدمار والرماد.آه لو ينفع أن نسأل خبيرا أجنبيا عنه لأرحنا أنفسنا من اللف والدوران علي الفاضي، فالأجانب مثل الجان، عفاريت في الشغل والنظام والترتيب، وقد يرسمون لنا فخا نصطاده فيه، لكن الأجانب من سوء حظنا لا يعرفون هذا النوع من المجرمين وخبراتهم محدودة، مع أن التاريخ يحفظ بين دفاتره اسم أكبر مجرم عرفته الدنيا كلها وهو "نيرون" الذي أحرق روما عاصمة العالم القديم!
لكن يبدو أن نيرون كان آخر "مشعل حرائق" بالجملة في بلاد الفرنجة، فأغلقوا ملفه وحولوا اسمه إلي "فضيحة وجرسه" يفر منها القاصي والداني" حتي لا يأتي ذكره معه ولو من باب المصادفة.فانتهت حرفة "الحرق" عند الأجانب.ونيرون ولع في روما بمشاعل النيران، لكن المجرم الداهية الذي نبحث عنه هنا لا يستخدم هذه المشاعل، ولا عيدان الكبريت ولا ولاعات ليبون ولا مفجرات القنابل، حتي لا يترك آثارا تدل عليه وتفضح أمره، وإنما هو متخصص في "إشعال الحرائق" بالماس الكهربائي، ولا من شاف ولا من دري، فالكهرباء مادة حريق نظيفة، لا تنفع معها تحاليل الـ"دي إن أيه" ولا يحزنون."والماس الكهربائي" ليس اختراعا مصريا، فقد عرفه الغرب أولا ثم نقلناه عنه، ولأنه تسبب في حرائق كثيرة عند اكتشاف طاقة الكهرباء في القرن التاسع عشر، اخترع العالم وسائل ضبط وربط وأمان قللت من حرارته وحبست شرارته وكتمت حممه وغطت أسلاكه إلي درجة أنه نسي أمره تماما، فلم يتذكره وقد أوجد له فيوزات تقطع عنه الكهرباء أوتوماتيكيا كلما حاول أن يتمرد ويشعل حريقا، ليموت في لحظتها بالسكتة القلبية.
لكن يبدو أن واحدا من أولاد الحلال أو الحرام في بلادنا، والحرام والحلال في بلادنا سيان، والمقصود أن الخير والشر لا يفرق معنا، والحق والباطل توأم لا تستطيع الحكومة التمييز بينهما، فتخلط الحق بالباطل، أو تسيب الحق وتمسك في الباطل، فهما أخوان أيا منهما قادر علي أداء المطلوب، وحبذا لو كان الباطل هو صاحب النصيب، فالباطل بلا ضمير يمكن أن ينفذ أي مهمة وكل مهمة دون تردد ولن يسأل أو يستفسر أو يماطل، وكمان الحكومة تعمل بالمثل الشعبي "اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش"، وبالطبع الباطل شاطر في تسهيل حاجات كثيرة جدا، فساد علي عمولات علي عشوائيات علي تزوير انتخابات، علي ضرب الناس علي القفا في الحجز والمعتقلات، (لأ مش حاقدر أقول أكتر من كده علشان عيب)، علي غش في مقاولات البناء والكهرباء.. الخ.
المهم أن واحدا من أولاد الحلال عرف بطريقة أو بأخري "أسرار الماس الكهربائي"، ربما وجدها في كتاب قديم اشتراه من بائع روبابيكيا، أو ورثه عن جماعة محظورة كان لها تنظيم سري يؤدب أعداءها حرقا بالماس الكهربائي.عموما يصعب تحديد بدء العلاقة بين الماس الكهربائي والمجرم الشرس الذي يلعب به في كل مرة تولع عندنا "حريقه" كبيرة.وعلي فكرة أول مرة في حياتي سمعت بالماس الكهربائي كنت صبيا، حين لقيت أهل شارعنا يصرخون: الأوبرا أتحرقت.. الأوبرا اتحرقت!
وجلسنا يومها حول الراديو نسمع الخبر، وجاء صوت المذيع الحزين، وتشير أصابع الاتهام إلي الماس الكهربائي في غرفة تبديل الملابس ومخزن الديكور.وبكيت يومها بكاء مرا، لأن الأوبرا الملكية "أتحرقت" قبل أن تتاح لي فرصة دخولها.ونسيت الموضوع مثلي مثل كل المصريين، فنحن شعب طيب، نصدق الحكومة، ولم نسألها وقتها ولا بعدها: لماذا اختار الماس الكهربائي الأوبرا الملكية وولع فيها؟!
وهي بدورها لم تسأل فينا ولم تحاول قط أن تريح بالنا بتقرير يفسر ما حدث للأوبرا التي تحولت إلي جراج قبيح متعدد الطوابق في واحد من أجمل ميادين القاهرة، فلم تحترق الأوبرا فقط، وإنما شوهنا ميدانا رائعا وصنعنا به أول "عشوائيات" رسمية في قلب العاصمة!
نسينا حريق الأوبرا، لكن الماس الكهربائي لم ينسنا أبدا، وظل يواظب علي مطاردتنا كل صيف مع أيام الجرد في الشركات والمؤسسات والمصانع دون أن يخلف مرة واحدة في موعده أو يستبدله بموعد آخر.. وعشنا مع حرائق الصيف كل سنة.ولم تحاول الحكومة من أول وزارة الكهرباء إلي وزارة الداخلية القبض علي "الماس الكهربائي" مطلقا، أقصد من يلعب به.ويبدو أننا اعتدنا العيش معه، فكثرة الحزن تعلم البكاء ويجعله عادة لا تثير الانتباه.لكن فجأة استيقظنا علي كارثة إنسانية، لم نكن نهتم بالمخازن والشركات والمؤسسات، فهي أموال، ومصر طول عمرها منهوبة أو مسروقة، لكن أن يصل الحال إلي حرق الناس داخل مسرح، كما لو أنهم يعاقبون في جهنم.. فكان أمرا لا يصدق.. ولا أظن أن له مثيلا في أي دولة في العالم في الخمسين سنة الأخيرة علي الأقل، بما فيها الدول التي تقع وراء الشمس أو في بحر الظلمات.محرقة إنسانية في بني سويف، ولأول مرة لم يكن الماس الكهربائي مسئولا عن "الحريق"، فقد تخلي عن مهمته هذه المرة وتركها للشموع.. لكن من الماس الكهربائي إلي الشموع يا قلبي لا تحزن، فكل الطرق تؤدي إلي الحرق الذي صار عادة مصرية عصرية لا أصل لها في التاريخ المصري القديم ولم يعرفها الفراعنة.هذا فضل نحن أصحابه من الألف إلي الياء، فإذا كان قدماؤنا قد بني الأهرامات وتركوا لنا المعابد والتماثيل الدالة علي حضارة عظيمة.. فنحن تفوقنا عليهم في الحرائق، حرقنا الأوبرا وحرقنا مخازن الشركات والمؤسسات، وحرقنا مكاتب التوريدات في دار القضاء العالي، وحرقنا البشر في مسرح بني سويف وحرقنا مجلس الشوري، وحرقنا المسرح القومي، وحرقنا خمسة عنابر في مصانع المحلة الكبري التي نظمت أكبر موجة احتجاجات وإضرابات في تاريخ الجمهورية الثالثة.
باختصار وحسب الأرقام صنعنا ما يقرب من 30 ألف حريق في السنوات الخمس الأخيرة فقط، حسب إحصاءات المنظمة العربية للتنمية الصناعية، خسائرها أكثر من 400 مليون جنيه. ولأننا شهب خفيف الدم ابن نكتة، فقد أقترح البعض إنشاء وزارة للحرائق، ترصد 25 مليون جنيه لمن يقبض علي الماس الكهربائي الهارب من العدالة متلبسا بشراراته الجهنمية أو لمن يرشدنا إلي من يلعب به في الخفاء ويشعل فينا الحرائق. وبعث ملايين المصريين رسائل علي الموبايل إلي بعضهم البعض في عيد الفطر في منتهي السخرية الموجعة: تعلن كتائب الشهيد ماس كهربائي الجناح العسكري لحركة "مصر بتولع بينا" عن تقديم هدية لكل مواطن علبة كحك وجركن جاز!، أو تعلن جمعية "حرائق مصر الكبري عن تنظيم أكبر مسابقة جماهيرية جوائزها رحلات مجانية إلي مارينا لمن يتنبأ بالحريق القادم!
فعلا شر البلية ما يضحك.
https://www.elfagr.org/TestAjaxNews.a...673&secid=2788