أكبر رموز السياسة الأمريكية ضد قيام إسرائيل
يقول المؤلفان:
إن ترومان تحول في الفترة من 1945 -1948، إلي هدف، لسيل لا يتوقف من المطالب، والنصائح والتقارير والضغوط والتهديدات السياسية، وكلها تسعي للتأثير في سياسته، ليوافق علي الاعتراف بقيام الدولة اليهودية في فلسطين.
ودارت وراء الكواليس مواجهات شرسة، بين جانبين، أحدهما يعارض بقوة متناهية أي اعترف بقيام إسرائيل، والجانب الثاني ضم المؤيدين لقيامها، حتي إن ترومان وصف مواجهة الجانبين من حوله، بأنها كانت أشد معركة سياسية إصابته بالإرهاق.
- اليهود يتهمون الخارجية الأمريكية بالتآمر علي الرئيس
شخصيات عديدة كانت ضالعة في أحداث ما قبل القرار، التي دارت خلال شهور، ثم أسابيع ثم أيام، وحتي الدقيقة الأخيرة.
وجاءت أشد مظاهر المعارضة من وزارتي الخارجية والدفاع، وكشفت أبحاث المؤلفين في الوثائق التي اتيحت لهما، أن وزارة الخارجية، أدارت مقاومة عنيفة لمنع ترومان من الاعتراف بإسرائيل، وبدأت المقاومة من اللحظة التي صار فيها ترومان رئيسا، وزادت شدتها حين ظهر عليه ميل نحو الموافقة علي المشروع الصهيوني، لدرجة أن الياهو إيبشتين رئيس الوكالة اليهودية في نيويورك، أعلن أن وزارة الخارجية تدبر مؤامرة واسعة النطاق ضد الرئيس.
كان من ضمن المعارضين لقيام إسرائيل، جورج كيفان أحد أشهر أقطاب السياسة الخارجية المعاصرة، ومؤسس نظرية الاحتواء، التي صارت الاستراتيجية العالمية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وجورج مارشال وزير الخارجية، الذي ارتبط اسمه بمشروع مارشال لإعادة تعمير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
وأنني أضيف هنا، ما سبق أن سجله كولين باول وزير الخارجية الأسبق، في مقال له عام 2005، عقب استقالته من منصبه كوزير للخارجية في حكومة جورج بوش، وقال: إن مساعدي مارشال، انتظروه في مكتبه بوزارة الخارجية، ليعرفوا نتيجة مقابلته للرئيس ترومان في البيت الأبيض، حيث ذهب إليه، ليحاول إثناءه عن اتخاذ أي قرار بالاعتراف بقيام إسرائيل.
وعاد مارشال إلي مكتبه حيث قال له مساعده انه كان يجب عليه تقديم استقالته لعدم تقبل الرئيس نصيحته لأنه الوزير المختص بالسياسة الخارجية.
ورد عليهم مارشال: إنني أبلغته رأينا، ولم أكن استطيع أن أفرضه عليه، لأنه الرئيس الذي انتخبه الأمريكيون، وليس أنا.
ولم تكتف وزارة الخارجية بالمعارضة الحادة فحسب، لكنها ظلت حتي الدقائق الأخيرة، تبذل أقصي جهودها للحيلولة دون اتخاذ القرار، الي حد محاولة تخريب قرار الرئيس، علي حد تعبير المؤلفين.
علي الجانب الآخر لقي ترومان دعما من كثيرين في الولايات المتحدة من الرأي العام، والكونجرس، وقادة مؤثرين للرأي العام، الذين أثرت علي مواقفهم أخبار اضطهاد هتلر لليهود وقصص المحرقة (الهولوكوست)، بالإضافة إلي مساعدي الرئيس بالبيت الأبيض، المناصرين للصهيونية، وهم الذين خاضوا صراعا ضد خبراء الشرق الأوسط بوزارة الخارجية ومنهم لوي هندرسون، الذين أعربوا عن مخاوفهم من عواقب إثارة غضب العالم العربي.
وكان من أكثر الذين أثروا في ترومان من خارج الحكومة صديقه إدي جاكوبسون العضو النشيط في لجنة أمريكية داعمة لتهجير اليهود إلي فلسطين، شريك ترومان في أعمال تجارية في كانساس سيتي، وكان مسموحا لجاكوبسون بالدخول إلي البيت الأبيض في أي وقت، ولعب دورا رئيسيا في الضغط علي ترومان لدفعه ناحية المشروع الصهيوني، وهو الذي أقنعه بلقاء حاييم وايزمان، الذي صار فيما بعد أول رئيس لإسرائيل.
يشير المؤلفان إلي أن غالبية الأمريكيين كانوا مؤيدين لقيام إسرائيل كملاذ آمن لليهود، متأثرين بفكرة الاستيطان، التي قامت أمريكا علي أساسها، من جانب المهاجرين إليها من أوروبا.
ترومان أيد حل الدولتين وقبلته إسرائيل التي تعارضه اليوم المحور الرئيسي للكتاب يدور حول إظهار كيف أن ترومان أصبح أول رئيس دولة في العالم، يعترف بإسرائيل، وبدون هذا الاعتراف، ما كان لإسرائيل وجود.
وتحت الضغوط المكثفة والمنظمة من جماعات الضغط مثل الوكالة اليهودية، وشخصيات يهودية ذات نفوذ مثل وايزمان، وعلاقات شخصية مع يهود، تبني ترومان قرار حل الدلتين.
يقول المؤلفان:
هناك حقيقة جوهرية وهي أن ترومان لم يتدخل بالقوة العسكرية لفرض قرار التقسيم عام 1947، الذي اتخذته الأمم التحدة، تجاوزت إسرائيل حدوده، واحتلت عام 1948، مساحة من الأرض تزيد عما نص عليه القرار.
وكلنا نعرف كيف انتهت القصة، بمعجزة لليهود، الذين هاجروا إلي الدولة الجديدة، وكابوس ثقيل للفلسطينيين، ثم وصولنا إلي مشهد يدعو للسخرية في قراءة هذا التاريخ، وهو ما نراه اليوم من أن اليهود الذين دافعوا عن قرار الأمم المتحدة رقم 181، بحل الدولتين، هم الذين يرفضون اليوم ما ينص عليه هذا القرار، من عودة اللاجئين الفلسطينيين.
وعد روزفلت للملك عبدالعزيز الذي انتهكه ترومان إلي جانب ما أورده المؤلفان في كتابهما، فإن الوثائق الأمريكية، تحمل من المعلومات الموثقة، ما يضيف تفصيلات أخري، ويفتح نوافذ لرؤية أعمق لهذه القضية منها:
(1) إذا كانت بريطانيا قد أعطت اليهود وعد بلفور، بتمكينهم من وطن قومي في فلسطين، فإن أمريكا أعطت وعدا للعرب، لم تلتزم به: فالرئيس روزفلت وعد الملك عبدالعزيز آل سعود ملك السعودية شفهيا عام 1945، بأن الولايات المتحدة، لن تتخذ أي قرارات سياسية بشأن فلسطين بدون التشاور مع الدول العربية.
ثم أعاد روزفلت تأكيد هذا الوعد كتابة بخطاب بتاريخ الخامس من أبريل 1945، أكد فيه تمسكه بالوعد الذي قطعه علي نفسه، لكن روزفلت توفي بعد ذلك بأسبوع، وخلفه نائبه ترومان الذي نقض الوعد، وخرج عن سياسة تعهد بها سلفه.
(2) مفكرة ترومان التي يعود وقت كتابتها إلي يوليو 1947، أظهرت أنه لا يكن حبا خاصا لليهود، وتنطق عباراتها بإحباط من اليهود بسبب ضغوطهم عليه، ليغير السياسة الخارجية لبلاده.
ويسجل دين رسك وزير الخارجية في حكومتي كندي، وجونسون، في أوراقه التي كتبها وقت أن كان رئيسا لإدارة شئون الأمم المتحدة، بوزارة الخارجية في واشنطن، أن الضغط وصل إلي حد لي الذراع من جانب يهود، وأمريكيين غير يهود في العاصمة واشنطن، وأن الضغط كان شديدا لدرجة لا يمكن وصفها.
حتي إن الصهيوني جاكوبسون الذي لعب دورا في ترجيح كفة التأييد لقيام إسرائيل، قال عقب لقائه مع ترومان: "إن ترومان كان في حالة هياج غاضب بسبب تكتيكات قادة الصهاينة في الضغط عليه".
(3) كتب جورج مارشال وزير الخارجية. أنه في يوم 8 مايو 1948 بعد اشتداد الاشتباكات المسلحة في فلسطين كتب الرسالة التالية إلي موسي شيرتوك رئيس الوكالة اليهودية، وهو الذي صار رئيسا لحكومة إسرائيل بعد أن غير اسمه إلي موسي شاريت.
قال مارشال: انني شددت عليه أن من بالغ الخطورة، إقامة سياسة طويلة المدي، علي نجاحات عسكرية مؤقتة، وليس هناك شك في أن الجيش اليهودي حقق نجاحات مبدئية، لكن لا يوجد ضمان علي المدي البعيد، يمنع من تحول التيار ضدهم.
وقلت لشيرتوك: إن ما يقومون به هو مغامرة، واذا تحول التيار، وسارعوا باللجوء إلينا يطلبون أن نساعدهم، فيجب أن يتنبهوا إلي أنهم لا يتوقعون ترخيصا بالمساعدة من الولايات المتحدة، والتي سبق أن حذرناهم من المخاطر الشديدة لما يفعلونه.
وكان لترومان رأي آخر سابق لهذه الواقعة، في خطاب إلي السناتور جوزيف بول في 24 نوفمبر 1945 قال فيه: قد أبلغت اليهود أنهم اذا كانوا قادرين علي تجهيز خمسة الاف رجل للحرب في مواجهة العرب، عندئذ يمكننا ان نوافق علي مطلبهم بقرار الاعتراف بالدولة اليهودية. ان الموقف متفجر للغاية، وإنني أشعر بالأسف الشديد له، لكنني لا اعتقد أنك أو أي عضو آخر في مجلس الشيوخ، سيكون من رأيه إرسال جنود إلي فلسطين لدعم قيام الدولة اليهودية.
إنني أحاول أن أجعل العالم مكانا آمنا للدول، ولليهود، وعلي ذلك لا أشعر بأنني ذاهب إلي حرب في فلسطين.
(4) ان وزارة الخارجية ورجالها الذين التزموا في مواقفهم بالمصالح الوطنية للولايات المتحدة، بالإضافة إلي قيادات وزارة الدفاع، ظلوا يبذلون الجهد المستميت للحيلولة دون اتخاذ ترومان القرار وتمسك كل من لوي هندرسون مدير إدارة الشرق الأدني بوزارة الخارجية، ووزير الخارجية جورج مارشال، وجيمس فورستال وزير الدفاع، بضرورة مراعاة أهمية بترول العرب لصالح الولايات المتحدة.
كذلك قدمت المخابرات الأمريكية تقارير تشير إلي أن كثيرين من المهاجرين اليهود هم شيوعيون، وأن هجرتهم إلي فلسطين، يمكن أن تؤدي إلي زيارة النفوذ السوفيتي في المنطقة.
كما قدم مارشال أدلة تسلمها من بريطانيا بأن الصهاينة في البلقان منهم كثيرون من الشيوعيين.
وكان ينظر إلي هذه النقطة، علي ضوء ما هو معروف من أن الحركة الصهيونية سعت منذ بدايتها، إلي الارتماء في أحضان القوة العظمي الأولي في العالم، فقد بدأت بالارتباط بالامبراطورية البريطانية، ثم نقلت الارتباط إلي أمريكا بعد أن ورثت مكانة الامبراطرية البريطانية. ولم يكن هناك ما يمنعها من أن تمد جسور الولاء إلي الاتحاد السوفيتي، إذا كان سيحتضنها، كقوة عظمي توفر لها الحماية والدعم.
(5) حين انتهي ترومان إلي تأييد قرار التقسيم فإن وزارة الخارجية حاولت منع ضم صحراء النقب للدولة اليهودية، لكن ترومان لم يستجب لهذه المحاولات، خاصة بعد زيارة قام بها حاييم وايزمان للبيت الأبيض في نوفمبر 1947، رتبها له إدي جاكوبسون، ليضمن تأييده لضم النقب إسرائيل، والتي تمثل مساحتها نصف مساحة إسرائيل.
- الكتاب يزيح الستار عما جري وراء الكواليس
ان هذا الكتاب يسجل وقائع تاريخية تنبع قيمتها المعاصرة من رفع الستار عما كان يجري وراء الكواليس، ولا يظهر منه للعيان سوي مشهد النهاية، وهو قرار ترومان الاعتراف بالدولة اليهودية.
لكنه يكشف أيضا عن مجموعة من الحقائق تظل معانيها سارية حتي يومنا هذا، في إدارة السياسة الخارجية لأمريكا، تجاه العرب وإسرائيل.
وأولي هذه الحقائق هي كيف تلعب الضغوط دورا حاسما في التأثير في القرار السياسي، فأمريكا حتي يومنا هذا ساحة مفتوحة، يسمح نظامها السياسي بدخول من يريد أن يمارس نشاطا وضغوطا لصالح قضيته، والأمريكيون من طبعهم الاستماع إلي من يحدثهم ويشرح لهم خطابه داخل هذه الساحة.
ثاني هذه الحقائق، ان المشهد السياسي عام 1948، لم يكن يخلو من معارضة قوية قادتها شخصيات من أكبر وأهم الشخصيات في تاريخ الولايات المتحدة، وعلي رأسهم جورج كينان، وجورج مارشال. وكان موقف هؤلاء محكوما بالنظر إلي المصالح الوطنية، ومصالح الأمن القومي لبلادهم.
وثالثها: أن أمريكا علي يد ترومان، قد انتهكت وعد روزفلت للملك عبدالعزيز آل سعود، بعدم اتخاذ أي قرار بشأن فلسطين بدون التشاور مع الدول العربية، وبقي هذا الانتهاك بمثابة إدانة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
https://digital.ahram.org.eg/articles...81381&eid=1104
تعقيب:
العجيب أنني لم اجد على النت ترجمة لهذا الكتاب الذي يسجل حدثا يهمنا جميعا ..