بظهور الدكتور محمد البرادعي بعد اختفاء استمر خمسة عشر شهراً، صار مطلوباً منا أن نخرج لاستقباله بـ"الطبل البلدي"، على قارعة الطريق، ومن لم يفعل فإنه يضيع "فرصة ذهبية" لعودة "وحدة الثوار"!.
لقد نطق البرادعي بعد صمت، بما يؤكد أنه ليس راضياً عما يجري في مصر، وفي جامعة "هارفارد"، ورداً على سؤال لسائل قال إن "مصر كانت على شفا حرب أهلية" في عهد الرئيس محمد مرسي. وذلك ليبرر موقفه الذي مكن خصوم الثورة من أن يزنوا بها. ولا يكون مسموحاً لنا أن نوجه نقداً له ولدوره، ومن ينتقده بشطر كلمة، يستحق الويل والثبور وعظائم الأمور، باعتباره المسؤول الأول عن تشتيت شمل الثوار!.
أضع النقاط فوق الحروف وأعود بالقارئ لسنوات خلت عقب عودة البرادعي لمصر، في زمن المخلوع، وكيف أنني كتبت ست مقالات هنا في " الراية " عن هذه "العودة المباركة"، ودفاعي عنه، لم يكن في مواجهة رجال نظام مبارك فحسب، ولكن أيضاً في مواجهة أصدقائه، الذين سعوا لتأميمه لصالحهم، ولما لم ينجحوا قاموا بالهجوم عليه، من أمثال الدكتور حسن نافعة، وقد كتبت مقالاً حمل عنوان: "البرادعي والذين يبغونها عوجاً".
وعندما قامت الثورة، كان هو الوحيد الذي لو ترشح للرئاسة، لأيدته، وشاركت في الدعاية له، لكنه انسحب من المشهد، كعادته، بعد أن وجد حلفاؤه السابقين، أن بإمكانهم بعد سقوط مبارك، أن يتخطوا الرقاب، ويقدموا مرشحيهم. وبعد نجاح الرئيس مرسي كنت أرى أنه الأنسب لمنصب رئيس الحكومة، لأن بعلاقاته بالغرب ولمكانته الدولية، بإمكانه أن يطمئن الدوائر الغربية، وأن يعزل الجيش عن الحكم، ولهذا كان هو الوحيد الذي لم يدع بعد الثورة لاجتماعات المجلس العسكري، فقد ورث هذا المجلس كراهيته من زعيمهم مبارك، وكانوا يعلمون أكثر من غيرهم خطورته عليهم.
الإخوان، لم يعرضوا عليه رئاسة الحكومة وإن أشاعوا أنهم عرضوها عليه وأنه طلب صلاحيات أكثر في رواية، وأنه اعتذر في رواية أخرى. ودوره بعد ذلك المتآمر مع أحزاب الأقلية ضد الحكم المنتخب كان مدفوعاً بالانتقام لتلاعب الإخوان به.
لقد طويت أنا صفحة البرادعي مبكراً، عندما ذهب من ينتمون للقوى المدنية، للمقر العام لجماعة الإخوان المسلمين، قبل الانقلاب، وقاموا بالاعتداء على من فيه. وفي هذا اليوم والدماء تنزف، انتظرت أن يخرج البرادعي بتغريدة، دفاعاً عن الدم لكنه لم يفعل، وطلبت ذلك منه صراحة على صفحتي على "الفيس بوك"، وهو الذي عودنا على أن ينتفض كلما رأى دماً، وباعتبار أن الدم المصري كله حرام!.
عندها تبين لي أن الرجل صار، بكل هيلمانه الدولي، يمارس السياسة وفق نظرية "كيد النساء"، ورأينا كيف أن البرادعي المنحاز للحكم المدني، يرفض طلب الرئيس المنتخب من قبل الشعب باللقاء به، ويوافق على دعوة وزير دفاعه بلقاء القوى المدنية المختلفة مع الرئيس، في اللحظة التي أطلقت فيها الدعوة، على قاعدة "دعاني لبيته". وكان في هذا يخصم من شرعية الرئيس لتقوية نفوذ المؤسسة العسكرية في الحكم!.
لقد بدا البرادعي والأحزاب المتحالفة معه، أن لديهم استعدادا لأن يذهبوا للقاء عبد الفتاح السيسي محلقين ومقصرين، لكن الرئيس محمد مرسي ألغى اللقاء، ولم ينتبه الرئيس إلى خطورة الدعوة، وإلى معنى توجيهها وقبول خصومه بها، وترك وزير الدفاع بدون محاسبة، لثقته بأنه ما دام قادرا على إلغاء الدعوة، فقد انتهى الأمر. وهي الغفلة التي أوردت الثورة مورد التهلكة، والتي نتج عنها ما نحن فيه الآن من انقلاب على المسار الديمقراطي، وعودة نظام مبارك!.
البرادعي لم يكن من أهل الغفلة، فقد كان يعرف ماذا يفعل، ولا أذيع سراً إذا قلت أن البداية كانت هو، فهو من ذهب لمحمد حسنين هيكل في منزله، وطالبه بما له من علاقة بوزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، أن يدفع به للانقلاب، مع توفير الغطاء المدني له، وبعد ذلك ظل باعترافه ستة شهور، يقنع الأوروبيين بقبول مبدأ الانقلاب على الحكم المنتخب، وقد وفق بعد جهد جهيد!.
بيد أن غفلته في أنه تصور أن العسكر يمكن أن يقوموا بالمهمة لصالحه، فيسقطوا الإخوان بقوة السلاح، ليسلموا الحكم لأحزاب الأقلية وينصرفوا في أمان، فما فاته هو ما قاله هيكل لمقربين له: "لم يكونوا يعلمون أنهم يطلبون مني استدعاء وحش". والذي استغلهم ليصبح هو رئيساً، ويضن حتى على هذه الأحزاب بمقابلته، وشلح وزراء جبهة الإنقاذ، بعد قيامهم بدور التابعين غير أولي الإربة!.
لقد طلب البعض من القوى الموالية للشرعية، أن تقيم "زفة" للبرادعي عندما استقال احتجاجاً على الدم الذي أريق في "رابعة وأخواتها"، وهو أمر يُذكر فيشكر، لولا أن الدماء التي أريقت في هذه المجازر، كانت تتفق مع السياق العام للانقلابات العسكرية، فقد سبقتها مجزرتا الحرس الجمهوري والمنصة. وما حدث في مجزرتي "رابعة والنهضة" أن الدماء كانت أكثر غزارة، والجريمة أكبر من ان تبرر!.
ثم، إن المجازر الأولى كانت والبرادعي "يعيش اللحظة"، وينتظر قرار تعيينه رئيساً للحكومة، كما طالبت بذلك استمارة "تمرد"، لكن عندما تحقق المراد، وحضر ديكور الانقلاب، وطمأن وجوده الدوائر الغربية، دفعوا بحزب "النور" ليرفض هذا الاختيار. ولم يكن البرادعي يعلم أن العسكر الذين يشعرون بالامتنان لمبارك، لا ينسون له، أنه من تآمر عليه، فضلاً عن أنهم يعلمون أن رئاسته للحكومة لن تمكن عبد الفتاح السيسي من أن يتصرف في البلاد تصرف المالك فيما يملك!.
لقد غادر البرادعي مصر مستقيلاً من منصب نائب الرئيس بسبب محرقة رابعة، غير المتفق عليها والتي كان يمكن تجاوزها، لكن مجازر كثيرة بعدها ارتكبت، وعلم القاصي والداني أننا أمام حكم عسكري عضوض، عاد ليتواصل مع ستين سنة بدأت بانقلاب العسكر في سنة 1952، وبخل البرادعي بتغريدة تدين هذا، ليصبح المطلوب منا أن ننتظر إذا تنفس وأخذ شهيقا، لنقيم له "حلقة ذكر" قبل أن يخرجه زفيراً، وأن تتعلق أعيننا بفمه الشريف في انتظار كلمة منه، وعندما ينطقها فإن القوى المناضلة التي تستكمل الثورة، في غيبة البرادعي والذين معه، ممن تآمروا عليها من الثوار، فكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، مطلوب من هذه القوى أن تهتف: "تكبير"!.
لا أستطيع أن ألوم ثائراً رأى ثورته هشيماً تذروه الرياح، لأنه لم يتفاعل مع البرادعي، ولم ينس جريمة الرجل في حق الثورة، والذي أعاد لنا حكم مبارك لأن تركيزه كله كان في رغبته العارمة في الانتقام من الإخوان، فكان كالذي أراد أن يغيظ زوجته فخصى نفسه. وكان المشهد واضحاً من اول يوم، فقد دخل أحمد جمال الدين وزير الداخلية السابق الميدان والقصر معه. والبرادعي نفسه هو من قدم ضده بلاغاً للنائب العام يتهمه فيه بقتل الفتى جيكا في أحداث شارع "محمد محمود".
ولا أستطيع أن ألوم الأم الثكلى التي فقدت ابنها بتغييبه في السجون أو في واحدة من مجازر 3 يوليو، أو الزوجة التي فقدت سندها في الدنيا، أو الأب الذي قتلوا ابنه أو سجنوا ابنته، إن عبس وتولى!.
هؤلاء ليس مطلوباً منهم أن يعتذروا للبرادعي، فالبرادعي إلى الآن لا يزال يلف ويدور ويبرر لجريمة الانقلاب التي شارك فيها، ويتحدث عن مرسي الذي كانت البلاد في عهده على شفا حرب أهلية، فاته أنه بالانقلاب الذي شارك فيه تم تكريس الانقسام رسمياً باعتماد دولة الانقلاب لأغنية "احنا شعب وهما شعب"!.
يمكن أن نغفر للبرادعي ذنوبه في حق الثورة، وهي كزبد البحر شريطة أن يعتذر هو، ولا يبرر ولا يلف ويدور، وليس على الذين يناضلون في الشوارع، أن يعتذروا للبرادعي، وهم لم يسجنوه، ولم يقتلوا ابنه ويحرقوه بعد قتله.
إن من أجرم في حق الثورة يعتذر.
سليم عزوز