مقال آخر , عن الفتح العُثمانى لـ مصر , لـ كاتب آخر
وهذه هي حكاية باب زويلة.. فماذا عن حادثة شنق السلطان طومان باي وتعليق جثته على الباب لمدة ثلاثة أيام؟.. إن حكاية طومان باي تبدأ بعد مقتل عمه السلطان الغوري في موقعة (مرج دابق) والتي اختفت فيها جثته ولم يعثر لها بعد على أثر!.. ولولا خيانة امراء المماليك لسلطانهم وقائدهم الغوري, لكان استطاع أن يهزم العثمانيين الزاحفين الى مصر, وأن يصدهم عن التقدم نحوها.. لكن الموقعة انتهت بهزيمة الغوري, وأخذت فلول جيشه تعود الى مصر, وأخذ جيش الغزاة العثمانيين يواصل زحفه الى مصر بقيادة السلطان سليم الأول, وساور الناس في مصر القلق, وأصبحوا في حيرة على المستقبل, وأثار بعض المماليك فتنة.. وتم نهب خان الخليلي, وقتل من فيه من التجار الأروام بحجة انتمائهم الى العثمانيين, وشماتتهم في مقتل الغوري, الذي كان قد عين ابن أخيه (طومان باي) نائبا له قبل خروجه لقتال العثمانيين, وبعد قتله, أجمع أمراء القاهرة على اختيار الأمير طومان باي سلطانا للبلاد.. لكنه امتنع لحرج الموقف وقلة المال وضعف وسائل الدفاع وتفرق قلوب الأمراء والجند, ثم عاد ووافق بعد إلحاح, وبعد أن أقسم أمراء المماليك أمامه على المصحف على عدم خيانة سلطانهم الجديد, وأخذ يعد العدة لمواجهة الغزاة.. ولم يعتمد طومان باي على المماليك وحدهم, وإنما حرص على أن يشترك أبناء القاهرة في الدفاع عن وطنهم, وكان معسكر تجمع القوات المصرية عند منطقة (الريدانية) وهي حي العباسية الآن
وكان من رأي طومان باي أن يخرج بقواته لقتال العدو قبل أن يصل الى القاهرة, لكن الأمراء لم يطيعوا وفضلوا الانتظار حتى يقتحم عليهم العدو ديارهم, ويشير ابن إياس أن طومان كان يرتدي رداء الحرب ويحمل الحجارة مع البنائين والتراب مع الفعلة أثناء حفر الخنادق, ويصف ما جرى يوم معركة الريدانية وهو يوم الأربعاء 28 من ذي الحجة سنة 92 2 هجرية فيقول: (وصلت طلائع عسكر ابن عثمان عند بركة (الحاج) بضواحي القاهرة, فاضطربت أحوال العسكر المصرية, وأغلق باب الفتوح وباب النصر وباب الشعرية وباب البحر.. وأغلقت الأسواق, وزعق النفير, وصار السلطان طومان باي راكبا بنفسه وهو يرتب الأمراء على قدر منازلهم, ونادى للعسكر بالخروج للقتال, وأقبل جند ابن عثمان كالجراد المنتشر, فتلاقى الجيشان في أوائل الريدانية, فكان بين الفريقين معركة مهولة وقتل من العثمانية ما لا يحصى عددهم). ويستطرد ابن إياس فيقول: (ثم دبت الحياة في العثمانية, فقتلوا من عسكر مصر ما لا يحصى عددهم.
وكان ذلك بارشاد بعض الأمراء الخونة.. لكن السلطان طومان باي ثبت وهو يقاتل بنفسه في نفر قليل من العبيد الرماة والمماليك السلحدارية, ثم تكاثرت عليه العثمانية ورأى العسكر قد قل من حوله, خاف أن يقبضوا عليه, فطوى (السنجق) السلطاني ـ أي العلم واختفى جهة طره).
ودخل العثمانيون مدينة القاهرة في اليوم الثاني للمعركة وخطب باسم السلطان سليم شاه على منابر المساجد, إلا أن طومان باي لم يستسلم وراح ينظم الصفوف وانضمت اليه جموع حاشدة من فتيان القاهرة وشجعانها, واستمرت المواجهات بين طومان باي وبين العثمانيين فترة طويلة شهدت فيها شوارع القاهرة وأحيائها القديمة معارك وهجمات المقاومة الشعبية ضد العثمانيين, وفي واحدة من هجمات المقاومة الشعبية والتي جرت في بولاق, كاد أن يقتل سليم الأول بعد أن أحاط طومان ورجاله بمعسكره وأخذوا يرجمونه بالنيران والحجارة, وفي مرحلة من مراحل المقاومة ضد الغزاة, اتخذ طومان باي من جامع شيخون مركزا للمقاومة الشعبية, وهذا الجامع يقع في شارع شيخون بالجمالية, وكان يسمى قديما شارع (الصليبة) وعرفت المنطقة من حوله بمنطقة الصليبة, وقد دارت في هذه المنطقة معارك عنيفة بين قوات المماليك والعثمانيين استبسل فيها طومان باي ثم هرب وانسحب بعد أن تأكد أن ميزان القوة لم يعد في صالحه.
وبعد هربه أحرق العثمانيون جامع شيخون والبيوت من حوله, وقتلوا أكثر من عشرة آلاف من العامة والغلمان, ورغم بشاعة هذا الانتقام إلا أن المقاومة لم تنته, واستمر طومان يحشد الرجال لصد الغزاة, الى أن كانت المعركة الأخيرة التي وقعت عند منطقة وردان (إمبابة الآن) وأحرز فيها عسكر مصر انتصارات في البداية, إلا أن العثمانيين قد انتصروا في النهاية لتفوقهم في العدد والعتاد, وكانت تلك هي المعركة الفاصلة التي أنكسرت بعدها المقاومة, وأخذ طومان باي يبحث عن مكان يلجأ اليه حتى لا يقع في أيدي غريمه السلطان سليم الأول, ولجأ الى صديقه شيخ العربان (حسن بن مرعي) والذي كان قد أخرجه من السجن الذي دخله أيام السلطان الغوري, ولكن شيخ العربان وشى به.. وأبلغ عنه السلطان سليم! الذي أعجبته شجاعته وصلابته في حواره الأخير معه, إلا أنه أمر في النهاية بشنقه..
ليلة شنق طومانوكان المؤرخ المصري ابن إياس شاهد عيان على ما حدث وقدم وصفا دقيقا لوقائع يوم شنق طومان باي قال فيه: (عند باب زويلة توقف ركب السلطان الأسير طومان باي.. كان في حراسة 400 جندي من الانكشارية.. وكان مكبلا فوق فرسه.. وكان الناس في القاهرة قد خرجوا ليلقوا نظرة الوداع على سلطان مصر..
وتطلع طومان باي الى (قبو البوابة) فرأى حبلا يتدلى, فأدرك أن نهايته قد حانت.. فترجل.. وتقدم نحو الباب بخطى ثابتة.. ثم توقف وتلفت الى الناس الذين احتشدوا من حول باب زويلة.. وتطلع اليهم طويلا.. وطلب من الجميع أن يقرأوا له الفاتحة ثلاث مرات.. ثم التفت الى الجلاد, وطلب منه أن يقوم بمهمته).. وبشنق السلطان طومان باي استتب الأمر للسلطان سليم بمصر والشام وأقام في القاهرة لفترة رتب خلالها أحوالها ودبر أمورها, وأمر بحمل أموال مصر وذخائرها وتحفها ونفائسها ومخطوطاتها الى عاصمة ملكه, وجمع مئات من الصناع والعمال وذوي الخبرة وأهل الحرف وقام بترحيلهم الى القسطنطينية, وغادر مصر الى عاصمة ملكه بعد ثلاثة أشهر من شنق طومان باي الذي بقيت سيرته كبطل قومي ورمز للمقاومة, وبقى سيفه المحفوظ في متحف الفن الاسلامي بالقاهرة, والذي يحمل ألقابه مكتوبة بالذهب.. وهي السلطان العادل أبو النصر طومان باي.. سلطان الاسلام والمسلمين.. أبو الفقراء والمساكين.. قاتل الكفرة والمشركين.. محيي العدل في العالمين!