صراع المائة ساعة لإسقاط فاروق
|
اقتباس |
|
|
|
|
|
|
|
|
....
....
زيارة مبنى إدارة التدريب
وفي الساعة 8.20 صباحاً، ذهب اللواء محمد نجيب، إلى مبنى إدارة التدريب المجاور، حيث اجتمع بكبار الضباط، الذين لم يعتقلوا، وأوضح لهم أهداف الحركة، وطلب منهم عدم التواجد في وحداتهم، واعتبار أنفسهم في إجازة مفتوحة، حتى تصدر إليهم أوامر أخرى. كما أوفد اللواء نجيب القائمقام أحمد شوقي، إلى الكلية الحربية، التي تحولت إلى معتقل للاطمئنان على أن المعتقلين يعاملون معاملة كريمة.
الملك يرسل إلى السفير الأمريكي
في صباح 23 يوليه 1952، وقبل أن يعرف فاروق ماذا اعتزمته الثورة، بعث برسول خاص، هو إيلي، عامل اللاسلكي بالقصر، إلى المستر جفرسون كفرى Jefferson Caffery، سفير الولايات المتحدة في مصر، يدعوه لمقابلته، فجاء السفير كفرى إلى قصر المنتزه، وتحدث معه حديثاً مقتضباً ووعده السفير إنه سيتصل بحكومته، ويبلغه نتيجة اتصاله، فعلم فاروق أن لا فائدة ترجى من تدخله. وفي الوقت نفسه، اتصل الملك فاروق، تليفونياً، بالإنجليز، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن السفير الأمريكي أبلغ الحكومة المصرية أن الولايات المتحدة تعتبر الأحداث، التي وقعت في مصر، مسألة داخلية.
البيان الثاني
في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، أذيع البيان التالي، من دار الإذاعة، موجهاً من، القائد العام للقوات المسلحة، إلى ضباطها:
"تعلمون جميعاً الفترة العصيبة، التي تجتازها البلاد. ورأيتم أصابع الخونة تتلاعب بمصالح البلاد، في كل فرع من فروعها، وتجرأت حتى تدخلت في داخل الجيش، وتغلغلت فيه وهي تظن أن الجيش قد خلا من الرجال الوطنيين. وإننا في هذا اليوم التاريخي، نطهر أنفسنا من الخونة، والمستضعفين. ونبدأ عهداً جديداً، في تاريخ بلدنا. وسيسجل لكم التاريخ هذه النهضة المباركة، أبد الدهر. ولا أظن أن، في الجيش، من يتخلف عن ركب النهضة، والرجولة، والتضحية، التي هي واجب كل ضابط منا والسلام".
البيـان الثالـث
ثم أذاع القائد العام للقوات المسلحة البيان التالي:
"باسم القوات المسلحة، أبعث بتحيتي، إلى جميع، الذين توجوا، بهدوئهم وثباتهم، العمل، الذي قمنا به لمصلحة الوطن، دون إراقة دماء. لقد طفت بشوارع القاهرة، في صباح اليوم، وسرني، كل السرور، أن وجدت الأمن يسود كافة أرجائها، والهدوء يملأ قلوب كل سكانها، والتعاون، لإنجاح مهمة القوات المسلحة، يربط الجميع من رجال الأمن، والمدنيين، وإخواننا الأجانب، والعسكريين، برباط قوى متين. ورجائي إلى المواطنين، ألا يستمعوا إلى الإشاعات المغرضة، فالحالة هادئة، في كل مكان. حقق الله لمصر ما تصبو إليه من آمال، وجعل النصر حليفها".
ويذكر اللواء محمد نجيب
وعلمنا أن الملك اتصل بالسفير الأمريكي، وطلب منه أن يبلغ الإنجليز، أنه في حاجة إلى عونهم، لكن السفير الأمريكي اعتذر، بحجة عدم تدخل حكومته في الشؤون الداخلية، لكنه وعد الملك بحمايته، وحماية أرواح عائلته، إذا احتاج الأمر ذلك. وغضب الملك من رد كافرى، وطلب قائد القوات البريطانية في مصر، وطلب منه أن يضع خطة لتهريبه، هو وأعوانه، خارج مصر، لكن القائد البريطاني تراخى في الاستجابة لطلب الملك، فإذا بالملك يطلب منه احتلال القاهرة، وضرب الإسكندرية بالأسطول. ورفض طلبه تماماً.
ولم ييأس الملك، فاتصل بإيدن، وكرر عليه الطلب نفسه، فعرض إيدن الأمر على حكومته، التي عرضتها على الرئيس ترومان، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، في ذلك الوقت، فعارض بشدة أي تدخل، في شؤون مصر الداخلية. وباءت محاولات الملك الأخيرة بالفشل.
محاولات يائسة
في التاسعة صباحاً، خرج قائد الحركة، في سيارة مكشوفة، تتقدمها وتتبعها عربات الجيب وطاف موكبه بشوارع المدينة الوسطى، التي شملت قصر النيل وعلوي وشريف، وكان يقابل بالتصفيق، من الواقفين على أرصفة الشارع، وفي الوقت نفسه، كانت الإذاعة تعيد تسجيل البيان الأول، فيتجمع الجمهور حول أجهزة الراديو في المقاهي، وحول أكشاك السجائر، مع أنه لا جديد يذكر.
في العاشرة والنصف صباحاً، وصل وزير الداخلية، المراغي باشا، وبصحبته اللواء عبدالمنصف محمود، وكيل الوزارة، من الإسكندرية، بطائرة مدنية إلى مكتبه بالوزارة. واتصل باللواء محمد نجيب، طالباً منه الحضور، والاجتماع به، ولكن قائد الحركة اعتذر، وطلب أن تُجرى المقابلة، في مبنى القيادة، على أن يرسل حراسة عسكرية تصحبه إليها، وقد اتصل المراغي، وهو في مكتبه، بالهلالي باشا، في الإسكندرية، الذي كان يرأس اجتماعاً مستمراً لمجلس الوزراء، فأمره بعدم الذهاب إلى القيادة، وطلب منه بعد ذلك، العودة إلى الإسكندرية، إذ أن الوزارة بصدد تقديم استقالتها، كان هناك توجس متبادل من الجانبين، على الرغم من المهادنة التي أعلنها وزير الداخلية، باسم الهلالي باشا، بين قوات الأمن والجيش.
تشكيل وزارة جديدة
في الساعة 11,00 صباحاً، أصبحت مسألة تشكيل وزارة جديدة قضية ملحة، فإن الهلالي ليس رجل الموقف، وهو، وإن كان ينادي بالتطهير؛ فإنه كان يعني التطهير، بمفهومه الحزبي، وإن كان قد اشترط شروطاً، لوضع حد لتدخل الحاشية، في شؤون الحكم، وأعد قراراً بتنحية كريم ثابت من الإذاعة، إلا أنه أُخذ عليه قبوله اشتراك القائممقام إسماعيل شرين بك، صهر الملك، وزيراً للحربية، وإن كان لا اعتراض على شخص شرين، إلا أن صلته بالقصر كانت كافية لرفضه، لهذا انحصر تفكير قادة الحركة في أن يتولى الوزارة، رئيس، ليست له ارتباطات حزبية، وكان بهي الدين بركات باشا من الأسماء، التي استعرضتها القيادة، غير أنه رؤى، مع الاعتراف بنزاهته، أنه تنقصه الخبرة بالمناورات السياسية، وهي ما يتطلبه الموقف، كما أنه ليست له سابقة للتصدي للأزمات.
برز اسم علي ماهر، وأُجمع عليه، فهو سياسي مخضرم، وليست له ارتباطات حزبية، ولهذا، هادن جميع الأحزاب والهيئات، في وزارته، التي أعقبت حريق القاهرة، كما شهد اللواء محمد نجيب، بدوره في المفاوضات، التي أجراها مع الجانب البريطاني، وتمسكه بحقوق مصر، في قيام وحدة وادي النيل.
في الساعة 12,00 ظهراً، وأثناء انعقاد مجلس القيادة، وصل إلى إدارة الرقابة والنشر والمطبوعات، بوزارة الداخلية، ضابطان، من ضباط الجيش، بصحبة بعض الجنود، وأصدرا تعليمات خاصة بالرقابة على النشر، وعلى البرقيات الخارجية.
لم يضيع المجتمعون وقتاً لمزيد من التشاور، وكانت الخطوة التالية، الاتصال برئيس الوزراء السابق، علي ماهر باشا وكانت واسطة هذا الاتصال الصحفي، إحسان عبدالقدوس، رئيس تحرير مجلة روز اليوسف، الذي كان حاضراً، والذي كانت له صلات سابقة، مع عدد من الضباط الأحرار، حين كان يفتح صفحات مجلته لإثارة قضايا الفساد، وانحرافات بعض قادة الجيش، والدعوة إلى التطهير، وكانت بعض هذه المقالات، بقلم ضباط بأسماء مستعارة، ويروى إحسان عبدالقدوس دوره، على النحو التالي:
"اتصلت، من القيادة، بخمسة أرقام خاصة بالرئيس علي ماهر، فلم أعثر عليه، اتصلت برئيس حركة التليفونات، وطلبت منه باسم القيادة، أن يصلني بالقصر الأخضر، (المقر الريفي لعلي ماهر)؛ فأوصلني به مباشرة، ولم أجده فيه، اتصلت بإبراهيم عبدالوهاب بك، الوزير السابق وهو الصديق الشخصي لعلي ماهر. وأبلغته، باختصار خطورة الحالة. وطلبت منه أن يسرع إلى بيت علي ماهر، ويطلبني، من هناك، على تليفون القيادة العامة. ذهب عبدالوهاب إلى بيت علي ماهر، ومرت نصف ساعة، بعد الثانية عشرة، فاتصلت، مرة ثانية، بحرم إبراهيم عبدالوهاب. وحصلت منها على الرقم السري للرئيس علي ماهر، أخيراً، رد علي ماهر. ولم أقل من المتكلم؟ بل قلت: هنا القيادة العامة، اللواء محمد نجيب يريد من رفعتك أن تأتي إلى القيادة، لأمر مهم، فإذا وافقت، سُترسل إليك حراسة تصحبك إلى هنا. "سكت علي ماهر قليلاً وقال: الباشا (أي هو) في الحمام. إستنى شويه لما أبلغه (يريد أن يمنح نفسه فرصة للتفكير). غاب قليلاً، ثم عاد يقول: أنا علي ماهر. إني لا أستطيع أن أحضر إلى القيادة، قبل أن أفهم الموضوع. أرسلوا لي مندوباً من عندكم لأتفاهم معه".
وهكذا تم الاتفاق على إرسال مندوبين إلى علي ماهر، باسم القيادة، للتعرف علي مدى استجابته، للطلب بتشكيل وزارة جديدة، فانطلقت سيارة، تحمل ضابطين، أحدهما البكباشي محمد أنور السادات، يصحبه الصحفي إحسان عبدالقدوس، تتبعها سيارة جيب، بها عدد من الجنود، مسلحين بالرشاشات (التوبى جن)، للحراسة. واتجهت إلى منزل علي ماهر، في شارع الطحاوية، بالجيزة، واتفق الثلاثة على تحاشي أية إشارة إلى موقف الحركة من الملك، وأن يكون التوكيد على استشراء الفساد، وضرورة الإصلاح والتطهير، وفي أثناء هذا الحوار، وصل، إلى دار الرئيس علي ماهر، إدجار جلاد باشا، صاحب جريدة الزمان المسائية، وجريدة جورنال ديجبت الفرنسية، وأحد المقربين من الملك، ولكن مندوبي القيادة رفضا مواصلة الحوار، في حضوره، فمُنِع من الدخول.
وافق علي ماهر، من حيث المبدأ، على تشكيل وزارة، متقيداً بمبادئ الدستور، ومبادئ التطهير، التي تقرها القيادة الجديدة، من دون أن يتقيد بالتفاصيل، وأنهى المقابلة بتحديد موقفه، على النحو التالي".. إنني لا أستطيع اتخاذ خطوة، إلا بعد تكليف الملك لي باتخاذها، كما سأبلغ السراي ما دار بيننا من حديث. فإن واجب الأمانة يدعوني أن أبلغ الملك." وقبل انصراف مندوبي القيادة، انتحى علي ماهر جانباً، وسأل إحسان عبدالقدوس عن اسم الضابطين.
.....
... |
|
|
|
|
|
د. يحي الشاعر