الثورة وصندوق البندورة المصري
في عام2003, وقبل أسبوعين تقريبا من الاستعدادات الأمريكية لغزو العراق, حذر رئيس الوزراء التركي آنذاك عبد الله جول مما سماه بفتح صندوق البندورة العراقي. كانت العبارة وجيزة ومعناها بسيط وهو أن العراق الذي نعرفه ليس هو العراق الذي سنعرفه بعد الغزو,
فهناك الكثير من المفاجآت التي علينا توقعها. قصة صندوق البندورة مثل قصة الصندوق الأسود في الطائرات, فهو الأداة الوحيدة التي تعرف أسرار الرحلة وتكشف عن العيوب التي قد لا تري بالعين المجردة. تماما مثل رفع السجادة لمعرفة ما تحتها.
مصر بدورها الآن, وبعد ثورة25 يناير, تعيش لحظة فتح صندوق البندورة الخاص بها, أو لنقل فتح الصندوق الأسود الذي يحوي كثيرا من الأسرار التي كانت تحت السطح وليست ظاهرة بما يكفي. هذا الصندوق ملئ بالمفاجآت العظام والأسرار السوداء والمضحكات المبكيات. ومع أن أسرارا بدأت في الانكشاف, تظل هناك أسرار أخري ستأخذ بعض الوقت حتي تفصح عن نفسها تماما من قبيل ماذا حدث في الثورة نفسها ومن قام بماذا ولماذا؟, ومن هنا يتجسد القلق المشروع عند الغالبية العظمي من المصريين حول ما الذي يمكن أن يحدث غدا؟
مما كشف حتي الآن نشير إلي خمسة ملفات مثيرة, الأول أن الفساد كان مقننا وشبه مؤسسي ولكن أصحابه حصروه فيما بينهم, وطال معظم رؤوس النخبة العليا, ومثل صدمة لكل مصري, خاصة فيما يقال إن جزءا كبيرا من الأموال المنهوبة ذهبت إلي غير رجعة. والثاني أن رأس النظام كان شبه مغيب عما يجري في البلاد, وكل الملفات الرئيسية كانت تحت سطوة الابن أو الزوجة. والثالث أن خطة التوريث كانت معدة بكل دقة وتشارك فيها رؤوس سياسية كبيرة وبمباركة رجال أعمال كبار, وفق صيغة الابن يحكم ورجال الأعمال يسرقون وينهبون بلا عائق. والرابع أن جهاز أمن الدولة كان جهازا مرعبا بكل معني الكلمة, وفاق رعبه ما هو معروف عن الجستابو في ألمانيا هتلر, والأجهزة المماثلة في بلدان أوروبا الشرقية سابقا. وخامسا أن حجم المظالم الاجتماعية الفئوية والمناطقية يفوق التصور ومعالجته أكبر من الموارد المتاحة حاليا.
اهتمام المصريين بغدهم أمر طيب علي كل حال, لكن التركة التي تتبلور معالمها هي تركة ثقيلة تحتاج إلي بصيرة وإلي منهج علمي في المعالجة, وهو للأسف ما نفتقده حتي اللحظة في الكثير من الملفات. وبعض التأمل في صندوق البندورة المصري سوف يكشف لنا بنية اجتماعية غير تلك التي كانت ظاهرة للجميع, وسوف نجد أيضا تيارات فكرية كانت كامنة في ثنايا المجتمع ولكنها وجدت الفرصة في الظهور بعد الثورة, وغياب كل أوجه الوصاية والقمع. وسوف نكتشف حجم التردي لهياكل ومؤسسات ملأت الدنيا ضجيجا, ولكنها في ظل الثورة باتت إما مجرد سراب كالحزب الوطني الذي حكم مصر ما يقرب من أربعة عقود متواصلة, أو هياكل تعيد اكتشاف نفسها استنادا لقوي مؤثرة في داخلها تطالب بحقها في الظهور وفي تحديد الاتجاه وفي تحمل المسئولية.
فالكل يعرف أن السفليين كانوا بمصر, وأنهم منتشرون في القري وفي الحضر, ولكن لم يكن يعرف الكثير حول حجم اهتمام هؤلاء السلفيين بالعمل السياسي والتطلع إلي السلطة وتديين المجال العام. الآن تتبلور أمام الجميع ملامح هذا الاهتمام وحجم التأثير الفعلي, ولعل ما جري في الفترة السابقة للاستفتاء حول التعديلات الدستورية تعطي ملمحا من حجم هذا الاهتمام السلفي بالعملية السياسية ككل. كما ترجح أيضا نتائج أولية لما يمكن أن يحدث إذا سادت الأفكار السلفية في السياسة وفي الاجتماع وفي الثقافة وفي العلاقة مع الآخر غير المسلم في الداخل وفي الخارج.
والكل كان يعرف أن الإخوان منظمون أفضل من غيرهم, وأن بداخلهم توجد إرهاصات حركة تغيير علي الصعيدين التنظيمي والفكري, ولكنها كثيرا ما كبتت بفعل الحصار الأمني والسياسي علي الجماعة, لكن الذي ظهر أن حركة التغيير أعمق بكثير مما كان معروفا من قبل, وأنها حركة ليست مرهونة بشباب الإخوان وحسب ـ كما ظهر في المؤتمر الذي عقد قبل ثلاثة أيام لشباب الإخوان برغم اعتراض مكتب الإرشاد وتحذيراته القوية بعدم عقد المؤتمر أو المشاركة فيه ـ بل وبقيادات وسيطة لا يمكن التشكيك في إخلاصها لفكر الإخوان, لكنها تطرح أفكارا وتنادي بأساليب تراها الأنسب مع اللحظة التاريخية التي تمر بها مصر الآن. وما حدث في مؤتمر شباب الإخوان يقدم بدوره فكرة عن التفاعلات الداخلية التي فرضتها الثورة علي الجميع, فالحجة بأن الجماعة تحت الحصار وأن أساليب البقاء تحتم ممارسات غير شفافة لم تعد تناسب ولم تعد تقنع أيضا. والحجة بأن الجماعة تصارع من أجل البقاء وليس لديها وقت لكي تراجع الكثير من أفكارها ومسلماتها لم تعد تقبل المنطق السليم. ومن هنا فالدلالة الأكبر في مؤتمر شباب الإخوان تكمن في أن عدوي التغيير سوف تصيب الجميع, وأن مراجعة الذات باتت أمرا لا مفر منه.
بعض مؤسسات الدولة نالتها عاصفة التغيير, وإن لم تتبلور بعد كل ملامحه, لكن الثابت أن الأزهر بحاجة إلي مراجعة شاملة, والأوفق ان يتم ذلك عبر حوار مجتمعي ومؤسسي في آن واحد بدون تجريح أو إهانات. كما أن الكنيسة الارثوذكسية بحاجة إلي أن تعيد التفكير في دورها العام الذي لعبته في العقدين الأخيرين, وأن تتخلص من فكرة أنها بديل عن الدولة لجزء من شعب مصر, وأن تترك لكل قبطي فرصة الحركة السياسية وفقا لاقتناعاته المدنية.
القوي اليسارية والقومية بدورها بحاجة إلي وقفة كبري مع النفس, إذ تأكد أنها بلا أساس مجتمعي برغم قوة وعمق الأفكار اليسارية بشأن العدالة والحرية, بيد أن وجودها في الشارع حتي اللحظة محدود جدا وغير مؤثر, ولكي يفرض نفسه ثانيا فهو بحاجة إلي قفزات كبري في التنظيم والرؤية والحركة. وما يجري داخل حزب التجمع مثلا وهؤلاء الذين قرروا أن ينشئوا تيارا اشتراكيا جديدا ومستقلا تعد مؤشرات أولية علي عدوي التغيير ولكنها بحاجة إلي اختبار علي أرض الواقع.
المعضلة في كل هذه التطورات أن قوي الثورة تبدو غائبة, وفي المقدمة الشباب الذين عول عليهم كثيرون في دفع المجتمع المصري من حال إلي حال استنادا إلي حيويتهم ورغبتهم في العطاء لبلدهم. والظاهر أن التشتت هو السمة الأبرز بين القوي التي قادت الاعتصام في ميدان التحرير, فهناك أكثر من سبع جماعات كل منها يطرح تقريبا الأفكار ذاتها حول الدولة المدنية الديمقراطية والناهضة علميا واقتصاديا وبشريا, ويبدو عدم توافق هذه الجماعات علي الحركة المنظمة والموحدة أمرا عصيا علي الفهم, أو لعله نابع من رغبة ذاتية لكل جماعة أن تكون هي الواجهة بغض النظر عن إمكانية تحقيق أهداف الثورة نفسها. والمعضلة الأكبر هو ان الوقت ليس في صالح هذه القوي أو غيرها إن لم تبدأ العمل المجرد والمنظم منذ اللحظة. فتنظيم الأحزاب لم يعد مستحيلا كما كان من قبل, والمهم البداية والعزيمة والإخلاص.