في 26 يوليو، توفي في ظروف غامضة المهندس الرئيسي لـ "سد النهضة" الأثيوبي الكبير"، سيميجنيو بيكيلي، وذلك بعد يومين من إعلان رئيس الوزراء آبي أحمد عن إمكانية استغراق مشروع بناء السد عشر سنوات إضافية قبل اكتماله، رغم أن السد الممول من الحكومة نفسها سبق أن أرهق كاهل الاقتصاد الهش في ذلك البلد الفقير.
ولعلّ الجانب الإيجابي في الشكوك المتزايدة حول المشروع هو أن هذه الشكوك تمنح مصر فسحةً هي بأمسّ الحاجة إليها لوضع استراتيجية أفضل لصيانة المياه. وتراود المصريين مخاوف جمّة من العواقب التي سيخلفها السد على إمداداتهم من المياه بسبب الانخفاض المؤقت في منسوب مياه نهر النيل. وتسجل مصر المعدل الأدنى لهطول الأمطار على وجه الأرض، ووفقاً لبعض التقارير تعتمد مصر على نهر النيل لتلبية أكثر من 75% من احتياجاتها من المياه، ولذلك يرى المصريون أن أي انخفاض كبير قد يكون كارثياً. وفي عام 2017، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي (على توجهه فيما يخص مياه النيل قائلاً : "محدش يقدر يمس المياه في مصر" واصفاً الموقف بـ "مسألة حياة أو موت".
هذه بعض الحقائق التى كشفها تقرير مهم للغاية صدر مؤخراً عن " معهد واشنطن " بعنوان " كسر الجمود في الخلاف حول السدّ بين مصر وأثيوبيا " والذى أعده الباحث باراك بارفي الباحث في "مؤسسة أمريكا الجديدة" والمتخصص في الشؤون العربية والإسلامية " .
التقرير أكد أنه على واشنطن أن تعمل مع كلا البلدين لضمان توصّلهما إلى حل عادل لا يزيد من زعزعة استقرار مصر. وسيتطلب ذلك إلقاء نظرة فاحصة على العوامل السياسية والاقتصادية التي أدت إلى انطلاق المشروع وساهمت في تأخيراته.
وتحت عنوان " مساعدة مصر على حل النزاع " أكد التقرير الأمريكى أنه بإمكان مصر استغلال هذا التغيّر في أولويات آبي والاضطرابات المحيطة بموت بيكيلي كفرصة لوضع استراتيجية جديدة بشأن المياه، لكنها ستحتاج على الأرجح إلى النفوذ الدبلوماسي الأمريكي لتنفيذها. وتتمثل الخطوة الأولى الجيدة في توثيق كمية المياه المحددة التي تحتاج البلاد إلى سحبها من النيل فعلاً. فقد أفاد "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" التابع للحكومة بأن مصر استهلكت 76.3 مليار متر مكعب من المياه خلال السنة المالية 2015/2016، وهذا الرقم يشمل الموارد من غير النيل. وبموجب الاتفاقية المبرمة عام 1959 مع السودان، رُصِدت لمصر 55 مليار متر مكعب سنوياً من النهر، لكن الجانب السوداني لا يستخدم حصته كاملةً، مما يدفع الخبراء الدوليين إلى الاعتقاد بأن مصر تسحب حالياً ما يصل إلى 65 مليار متر مكعب من مياه النهر.
وكشف التقرير أنه فيما يخص التأثيرات الناتجة عن بناء السد، فسوف ينخفض منسوب النيل بشكل حاد خلال فترة تعبئة خزان المياه، مما سيجبر مصر على التعويض عن هذه الخسائر السنوية. وتنوي الحكومة حتى تاريخ كتابة هذه السطور زيادة معدل تحلية المياه بخمسة أضعاف على مدى الأعوام الثلاثة القادمة، في حين أشار رئيس الوزراء في عام 2016 إلى أن القاهرة ستكثف جهودها لتكرير مياه الصرف الصحي وقنوات الري. وبدأت أيضاً في فرض قيود على زراعة المواد التي تستهلك كميات كبيرة من المياه كالأرز، بينما شجعت على استهلاك الحبوب التي تتطلب كميات أقل من المياه كالكينوا. وتعتبر مثل هذه التدابير بداية جيدة، ولكنها لن توفر سوى 5 إلى 7 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً، وهذه كمية لا تكفي للتعويض عن الخسارة التي ستلحق بالبلاد خلال فترة ملء الخزان.
وفي حين تربط مصر وإثيوبيا علاقات جيدة وأن الدولتين تحاولان التوصل إلى حل ودّي، إلا أنهما لم تحرزا الكثير من التقدم. ولا تزال المشكلة الكبرى المتبقية في هذه المرحلة المتأخرة من بناء السد تكمن في فترة تعبئة الخزان. فمصر تودّ إطالة أمدها قدر الإمكان للتقليل من الانخفاض السنوي في مردود المياه من نهر النيل، حيث تطالب وسائل الإعلام المحلية بفترة تتراوح بين سبعة وعشرة أعوام، علماً بأن بيكيلي - قبل وفاته - كان يرتقب إتمامها خلال خمسة إلى ستة أعوام.
وللخروج من هذا الجمود،وفقا لما جاء فى التقرير الأمريكى ، فإنه على واشنطن أن تحثّ الطرفين على القبول بفترة سبع سنوات لامتلاء الخزان، فتُوازن بذلك بين حاجة أثيوبيا إلى تحقيق عائدات سريعة على استثمارها وبين الأضرار التي قد يسببها جدول زمني معجل لمصر. كما يمكن للمسؤولين الأمريكيين المساعدة في إعداد حزمة مساعدات دولية للمحاصيل التي تعتمد على المياه بشكل كبير على غرار البرسيم والثوم والحنّة، مما يتيح لمصر الحفاظ على مواردها القيّمة. إن هذا السد مشروع جدير بالاهتمام حيث سيوفر الكهرباء بكلفة أقل لبعضٍ من أكثر دول العالم فقراً، لكن يجب ألا تأتي مكاسب هذه الدول على حساب المزارعين المصريين المعوزين واستقرار أكثر الدولة العربية ازدحاماً بالسكان في العالم.
مزيد من التفاصيل