جمهورية يوليو.. كارثة وخلاص
بقلم : د. عمرو الزنط
نعرف أن معظم الضباط الذين قاموا بحركة يوليو ١٩٥٢، ومن ثم ثبتوا ما أعتقد أنها أطول فترة حكم عسكرى متواصل فى التاريخ المعاصر، كانوا إما أعضاء أو تعاطفوا مع جماعة الإخوان. وأعتقد أن المناخ الذى خلقه هذا الحكم هو الذى أدى فى النهاية إلى السيطرة شبه الكاملة للتيار الدينى على المجتمع المصرى، والذى انعكس بصورة غاية الوضوح فى نتائج الانتخابات التى تجرى حالياً. وقد تطرقت فى مقال سابق (٢٦/١١/٢٠١١) لبعض جوانب العلاقة المذكورة، وأريد هنا تناول بعض الجوانب الأخرى، ثم عرضاً باختصار لسمات سبيل من الممكن أن يخرجنا من ورطة حقيقية.
أولاً: بالنسبة لحقبة عبدالناصر، هناك اعتقاد بأن هذه الفترة جسدت أزهى عصور مصر العلمانية. لكن الواقع هو أن مقومات عزلتنا عن العالم المعاصر تبلورت فى تلك الفترة بالذات. فقد دخل النظام الناصرى فى صراع ذى أساس صدِّى فكرى قوى ووجودى، حيث عرّفت الهوية العربية - المصرية كنقيض لبقية العالم وليس كتكملة له. وكان من السهل ترجمته فى إطار الدين، لأن ذلك كان كامنا بداخله بالفعل، لكنه كان مستتراً فى سياق بدا أكثر «تقدمية».. فى النهاية سادت الهوية المبنية على أساس دينى، التى توحد المجتمع على أساس تناقضه مع الآخر.. فالقومية المبنية على أمجاد حضارة قاسمها المشترك هى الهوية الدينية، من الصعب أن تروج لعكس ذلك.
ثم جاءت فترة السادات، الذى ربما تهيأ له أنه حارب الاشتراكية بـ«انفتاحه» السطحى الفاسد، وبتقوية التيار الدينى رسمياً، وكلامة المثير للغثيان عن قيم الريف المنغلق، التى كانت مستترة فى العهد الناصرى فصارت صريحة ساداتيا، فساد الفكر العشائرى القاتل للدولة، وتحولت اشتراكية الدولة القومية شبه الفاشية إلى رأسمالية الدولة التسلطية.
وبعد هذه التجارب المريرة اعتقد الناس أننا فعلاً مررنا بكل تجارب التاريخ الحديث، ولا ينقصنا إلا تجربة الإسلام السياسى!
والشعب صار مهيأ لهذا «الخيار الإسلامى» لأنه تم «تمرينه» فكرياً خلال العقود السابقة- نتيجة العزلة والصراع الثقافى مع الآخر، ونتيجة التجارب الممسوخة التى خضناها.. فبعد كل هذه الألاعيب البهلوانية صار الشعب كـ«الفرخة الدايخة»، فقد بوصلته وانصاع لما هو متعارف عليه ومفهوم ومريح، وربما ثورى.
ومن المفارقات المثيرة أنه يبدو أن من ضمن اختيار الشعب للتيار الدينى كانت فكرة أن هذا التيار قد ظلم فى ظل سيادة الضباط الأحرار... هذا حقيقى من الناحية الأمنية بالطبع، لكن من الناحية الأعمق فإن الإسلام السياسى تم قمعه ليس بسبب أنه كان مختلفاً جذرياً عن النظام القائم، لكن، على العكس، لأنه كان يستخدم نفس لغته وشعاراته تقريباً، ولذلك كان يشكل أكبر تهديد للنظام.. وكان القاسم المشترك بينهما، الآن كما كان الحال عام ١٩٥٢، هو رفض التعددية والتلاقى مع العالم المعاصر. وكان رفض التعددية هو سبب الصراع بينهما وليس أى تضاد جذرى فى نظرتيهما للعالم.
وفى الوقت نفسه، الذى تمتع فيه الإسلام السياسى بصورة المقموع، تمتع أيضاً - فى ظل الصراع الوجودى الأبجدى الذى يسيطر على الشارع المصرى - باحترام الشعب للالتزام الدينى، الذى مثّل قوة معنوية فى مجتمع لا يحترم فيه أحد الآخر لمجرد أنه إنسان، أو بسبب سيادة القانون، إنما قد يحترمه لأسباب تتعلق بعلاقات القوة والهيبة، التى تسلسلت من الأعلى للأسفل واعتمدت كثيراً على «الشرعية» المنبثقة عن التدين الصورى.
هكذا دمر نظام يوليو أخلاقيات الفرد المصرى، فغابت قيم الحوار المنفتح العقلانى، الذى يتيح المجال لتبلور وفاق عام، يمكن أن يساعد على تجسد برنامج عملى للمضى قدماً فى بناء مجتمع يسمح للفرد بأن يتمتع باستقلاليته، وفى الوقت نفسه يسهم فى تماسك وازدهار المجتمع ككل. فنسى الإنسان المصرى أنه أولاً محترم مستقل وله حرية الحركة، وثانياً أن هذه الحرية تنبثق عنها مسؤوليات جماعية ضخمة.
إن البرلمان القادم لا يجب أن يكون أداة لتكريس واقعنا المرير، إنما وسيلة لبلورة مستقبل أفضل متماش مع العالم الحديث الذى يشير تاريخنا إلى أننا يجب أن نكون قادة له. فهل سنستطيع التخلص من سلاسل الماضى، هل سنتمكن من استيعاب تراثنا المركب، الثقافى والدينى، فى سياق يضمن تماسك الجماعة دون أن يؤدى ذلك لنتائج مدمرة، تنتهى بقمع الفرد وفقدانه استقلاليته وآدميته، وفى النهاية انهيار جماعة واختفاء الفرد المبدع المنتج؟