بعض الفصول في دليل الاستملاك الصهيوني للقدس وفلسطين
(3/3)
أنطـوان شلحـت
تاريخ النشر: 21/12/2010 - ساعة النشر: 21:17
مرحلة أوسلو وما بعدهـا
في المرحلة الأولى من المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، أي مرحلة اتفاقيات أوسلو (إعلان المبادئ، 1993)، اتفق الجانبان على إرجاء البحث في مسألة مكانة القدس، مثلما حصل في مسائل جوهرية أخرى، إلى مرحلة المباحثات على الحل الدائم بين الجانبين. وتقرر في هذه الأثناء ألا تكون للسلطة الفلسطينية أي صلاحيات في القدس الشرقية، رغم أنه سيكون في إمكان سكان القدس الشرقية المشاركة في الانتخابات لمجلس السلطة الفلسطينية. ومنذ ذلك الوقت عملت الجهات الأمنية الإسرائيلية ضد أي تدخل لجهات رسمية من السلطة الفلسطينية في المدينة، إذ إن هذا الأمر كان منافيا للاتفاقيات. من جهة ثانية، فإن المصادر الإسرائيلية تدعي أن موافقة إسرائيل على مشاركة سكان المدينة الفلسطينيين في الانتخابات البلدية تعتبر "دليلاً على أن إسرائيل تعي الحاجة إلى منح السكان العرب في المدينة منفذًا للتعبير السياسي- الوطني، وأنها تعترف بارتباطهم بالسلطة الفلسطينية"!.
وفي ذروة انتفاضة الأقصى، التي بدأت في خريف 2000، قررت الحكومة الإسرائيلية إقامة جدار فاصل بين الأراضي الإسرائيلية ومناطق الضفة الغربية الآهلة بالفلسطينيين. وتم بناء القسم الأكبر من الجدار داخل مناطق الضفة الغربية وليس على طول الخط الأخضر. وهذا ما حدث في القدس أيضا؛ فقد تم بناء سور مرتفع داخل قسم من الأحياء العربية (التي ضُمت في العام 1967)، أدى إلى عزل أبناء العائلة الواحدة عن بعضهم البعض، وإلى عزل المزارعين عن أراضيهم، وإلى وضع عراقيل كبيرة أمام عبور الفلسطينيين من المدينة وإليها.
وبطبيعة الحال فإن هذه الدراسات كلها تتعاطى مع السؤال: هل يمكن التوصل إلى تسوية سياسية متفق عليها بشأن مسألة القدس؟!
إن الذين يعتقدون بأنه يمكن التوصل إلى تسوية (هيلل كوهين مثلاً) يقولون إن الحدود الحالية للقدس هي حدود مصطنعة، وعمليا يمكن تقليص منطقة نفوذ البلدية وإبقاء الأحياء اليهودية فقط في يدي إسرائيل. وهذا التوجه شبيه من ناحية مبدئية بالاقتراحات التي طرحها رئيس الولايات المتحدة الأسبق، بيل كلينتون، خلال المفاوضات في كامب ديفيد في نهاية العام 2000. ويؤيد هذا التوجه قسم من الجمهور الإسرائيلي بسبب ما يوصف بـ "الخطر الديموغرافي"؛ فهؤلاء يعتقدون أنه يتعين على إسرائيل تقليص السيطرة على السكان الفلسطينيين من أجل الحفاظ على أغلبية يهودية كبيرة في الدولة. وبحسب هذا المنطق، يجب على إسرائيل التنازل، إن كان ذلك في إطار مفاوضات أو حتى بصورة أحادية الجانب، عن تلك المناطق في المدينة التي توجد فيها تجمعات سكانية عربية كبيرة، مثل مخيم اللاجئين شعفاط وضاحية بيت حنينا في شمال المدينة، أو صور باهر وأم طوبا في جنوبها.
لكن هؤلاء يؤكدون أنه حتى لو تم التوصل إلى تسوية تتعلق بمسألة الأحياء العربية في شرق المدينة، فإن قضية البلدة القديمة ستبقى ماثلة بقوة، أو على وجه الدقة قضية ما يُسمى بـ "الحوض المقدس" (the holy basin) الذي يشمل أيضا محيط ما يسمى بـ "مدينة داود" (سلوان) وجبل الزيتون. هذه المنطقة تتجمع فيها الأماكن المقدسة للديانات الثلاث وتعارض أجزاء كبيرة من الجمهور اليهودي التنازل عن سيادة إسرائيل فيها. وهناك معارضة مماثلة في الجانب الفلسطيني.
ويعكف "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" منذ العام 1988 على بحث ودراسة بدائل متنوعة لحل مسألة القدس. وقد عرضت البروفسور روت لبيدوت، وهي خبيرة في مجال القانون الدولي، وتقف على رأس طاقم باحثين، وثيقة اشتملت على سلسلة بدائل لحلول في موضوع الحوض التاريخي للمدينة وعلى تقويم لأفضليات ونواقص كل واحد منها (في إطار "مؤتمر هرتسليا حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي"، في كانون الثاني 2006). ويستخدم هذا الطاقم مصطلح "الحوض التاريخي" بدلاً من "الحوض المقدس" لأن المنطقة قيد البحث تشمل مواقع تاريخية أيضا.
وهذه البدائل هي:
· سيادة وسيطرة لإسرائيل بصورة كاملة على كل أنحاء الحوض التاريخي، مع إمكان منح حكم ذاتي في مجالات معينة للسكان العرب، ومنح مكانة خاصة للأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية. ويمكن الافتراض بأن الفلسطينيين والمجتمع الدولي لن يوافقا على هذا الحل.
· سيادة وسيطرة للفلسطينيين بصورة كاملة على كل أنحاء الحوض التاريخي، مع إمكان منح حكم ذاتي في مجالات مختلفة للسكان اليهود، ومنح مكانة خاصة للأماكن المقدسة اليهودية والمسيحية. ويمكن الافتراض بأن إسرائيل سترفض هذا الحل.
· تقسيم إقليمي للحوض بين الجانبين وإشراف دولي من جانب جهة ثالثة تساعد في مراقبة (monitoring) النزاعات وتسويتها.
· إدارة مشتركة، تقسيم الصلاحيات بين الجانبين ودعم دولي. وإذا فشل الجانبان في الإدارة المشتركة، تنتقل الإدارة إلى يدي هيئة دولية يتم تفويضها أيضا بتسوية النزاعات.
· إدارة الحوض التاريخي من قبل هيئة دولية ومنح صلاحيات لكلا الجانبين في مجالات معينة.
وفي رأي الباحثين فإن البديل الأخير هو الأكثر واقعية من بين جميع البدائل، خصوصا إذا ما تم عرض فترة إدارة الهيئة الدولية على أنها فترة مرحلية. وبهذه الطريقة يمكن للطرفين الادعاء بأنهما لم يتنازلا عن سيادتهما على "جبل الهيكل" (الحرم القدسي الشريف) و"حائط المبكى" (حائط البراق) ويواصلان عمليا إدارة كلا الموقعين وفقا للنظم التي تبلورت منذ العام 1967.
ما هو جوهر الفرضيات
الإسرائيلية وراء "اتفاق أوسلو"؟
في أيلول 2009 صادفت ذكرى مرور ستة عشر عامًا على توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبهذه المناسبة اعترف الوزير وعضو الكنيست الإسرائيلي السابق يوسي بيلين، الذي كان بمنزلة المهندس الرئيس لهذا الاتفاق، في سياق مقابلة أدلى بها إلى إذاعة الجيش الإسرائيلي، بأن هذا الاتفاق قد غيّر مجرى التاريخ في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وأتاح إمكان عقد اتفاقية السلام مع الأردن، وأوجد عنوانًا جديدًا لتمثيل الشعب الفلسطيني (السلطة الفلسطينية) بدلاً من منظمة التحرير الفلسطينية، وأدى إلى ازدهار اقتصادي غير مسبوق في إسرائيل، وحسّن صورة الدولة العبرية داخل نادي الأسرة الدولية، وفتح أمامها مجالاً كبيرًا لإقامة علاقات دبلوماسية مع دول كثيرة بما فيها دول عربية، وأدى إلى نشوء خريطة سياسية- حزبية جديدة في إسرائيل (من أبرز مظاهرها تعزّز ما يسمى بـ "تيار الوسط")، لكنه وعلى الرغم من ذلك كله أخفق في تحقيق غايته الأصلية، وهي إحراز سلام إسرائيلي- فلسطيني دائم، على حدّ تعبيره.
بيد أن اعتراف بيلين الأهم في المقابلة نفسها يبقى من نصيب حقيقة أخرى ليست غائبة عن الأذهان مطلقًا، هي توكيده أن اتفاق أوسلو لم يكن اتفاقية سلام إسرائيلية- فلسطينية على الإطلاق، وإنما مجرّد اتفاق مبادئ عامة تتعلق بهذا السلام الدائم، وذلك في إثر بدء أول مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين استمرت أقل من سبعة أشهر (في إطار مفاوضات مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد في خريف 1991) من دون أن تسفر عن أي نتائج حقيقية، وكان الهدف الأساسي منه، على الأقل من وجهة نظر إسرائيل، هو إجراء محادثات مباشرة من وراء الكواليس، كي يكون في إمكان عملية مدريد أن تستمر بعد أن وصلت إلى ما يشبه الطريق المسدودة. إن هذا الاعتراف يعني، في أقل تعديل، أن إحراز السلام الدائم ظلّ رهن المحادثات، التي استمرت عقب أوسلو، والتي لا تزال حتى الآن عالقة وعاجزة عن تحقيق اختراق حقيقي تترتب عليه نتائج قوية تؤسّس لهذا السلام.
ومع أهمية هذا الاعتراف، الذي لا يمكن إغفال صحتـه، فإن هناك اعترافًا آخر لا يقل أهمية انطوت تصريحات بيلين عليه، ويحيل إلى "الظروف الخاصة"، التي مهّدت لأول اتفاق مباشر بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. مهما تكن هذه الظروف فلا بُدّ من أن نشير إلى سعي رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، إسحاق رابين، إلى أن ينجز تفاهمات مع السوريين والفلسطينيين، من شأنها أن تضمن تحييدهمـا في سياق المواجهة مع العراق وإيران، عبر الاستفادة القصوى من انهيار الاتحاد السوفييتي واستفراد الولايات المتحدة بزعامة الحلبة الدولية، ومن عزلة منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات في ضوء تأييدهما نظام صدام حسين خلال حرب الخليج الأولى في العام 1991.
وفضلاً عن ذلك يلمح بيلين إلى أن المظاهر الاحتفالية، التي رافقت توقيع اتفاق أوسلو، في حدائق البيت الأبيض الأميركي، كوّنت انطباعًا وهميًا قويًا بأنه اتفاقية سلام، بينما لم يكن أكثر من خطوة أولى بسيطة للغاية على طريق التوصل إلى اتفاقية كهذه.
في واقع الأمر فإن وجهة النظر الإسرائيلية إزاء اتفاق أوسلو ومسارات العملية السياسية التي أطلقها كانت محكومة بفرضيات كثيرة ترتبط، أكثر من أي شيء آخر، بدفع المصالح الإسرائيلية الإقليمية والعالمية قدمًا. وقد بدأت ملامحها تتضح، رويدًا رويدًا، مع كل جولة مفاوضات بين الجانبين جرت في وقت لاحق، بدءًا من مفاوضات القاهرة في إثر عملية أوسلو مباشرة، وانتهاءً بآخر جولة مفاوضات عُقدت بين الحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة إيهود أولمرت (أنهت ولايتها في 31 آذار 2009) وبين السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عباس، والتي انطلقت في إثر مؤتمر أنابوليس المنعقد في تشرين الثاني 2007، وتوقفت في أواخر العام 2008 بالتزامن مع شنّ الحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة.
ويمكن أن نستقطر من هذه الفرضيات الكثيرة فرضيتين اثنتين تبدوان في حكم الأبرز، وذلك استنادًا إلى رصد عمودي لمختلف التصريحات والتحليلات الإسرائيلية المتعلقة بسيرورة المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية، منذ اتفاق أوسلو وصولاً إلى الآن:
· الفرضية الأولى- أن السلطة الفلسطينية، التي أصبحت العنوان الجديد لتمثيل الشعب العربي الفلسطيني في عُرف إسرائيل، كما لمّح بيلين أعلاه، ستعمل على تطبيق حق تقرير المصير لهذا الشعب بواسطة إقامة دولة فلسطينية في المناطق التي احتلتها إسرائيل في إبان حرب حزيران 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، فقط.
· الفرضية الثانية- أن السلطة الفلسطينية ستتطلع إلى تلك الغاية في نطاق الاستعداد الأشمل للتوصل إلى تسوية تاريخية، تشمل تسوية جغرافية (إقليمية)، مع دولة إسرائيل والحركة الصهيونية.
ولا شكّ في أن مصطلح "تسوية تاريخية- جغرافية" هو مصطلح بلا ضفاف وإشكاليّ للغاية، لكن يمكن القول إن العناصر، التي تشتمل عليها تسوية من هذا القبيل تعتبر موضع إجماع واسع من وجهة النظر الإسرائيلية، تتمثل في ما يلي: إقامة دولة فلسطينية على مناطق تعادل نسبة 22 بالمئة من مساحة فلسطين الانتدابية؛ تقسيم شرقي القدس؛ تسوية خاصة لما يسمى بـ "منطقة الحوض المقدّس" في البلدة القديمة من القدس؛ حل قضية اللاجئين الفلسطينيين بمنأى عن حق العودة. ويؤكد بيلين أن مثل هذه التسوية كانت مدرجة في جدول الأعمال الإسرائيلي منذ اتفاق أوسلو.
إن ما نعنيه بقولنا إن مصطلح "تسوية تاريخية- جغرافية" إشكاليّ للغاية، هو أن التسوية السالفة التي تبدو، في الظاهر، مقبولة إسرائيليًا ليست مقبولة فلسطينيًا بتاتًا، وهذا ما أثبتته، على الأقل، جولتان من المفاوضات اعتبرتا حاسمتين: الأولى في كامب ديفيد في صيف 2000، والتي أدى فشلها إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والثانية جولة المفاوضات التي أعقبت مؤتمر أنابوليس.
ولا بُدّ من التوقف هنا عند الرواية، التي يتم تداولها في الإعلام الإسرائيلي، بشأن عناصر "الاتفاق الدائم" المتعلقة بالقضايا الجوهرية للصراع (الحدود والقدس واللاجئون)، والتي عرضها أولمرت على عباس خلال المفاوضات بينهما عندما شارفت ولاية الأول على الانتهاء. وفي 22 حزيران 2009 عرض أولمرت بلسانه هذه العناصر، في سياق مقابلة أدلى بها إلى صحيفة "نيوزويك" الأميركية، موضحًا أنها شملت ما يلي:
- استعداد إسرائيل للانسحاب من 93.5- 93.7 بالمئة من أراضي الضفة الغربية (بدون منطقة القدس والأغوار) وتسليمها إلى السلطة الفلسطينية (وضم المنطقة المتبقية إلى إسرائيل). بالإضافة إلى ذلك يحصل الفلسطينيون على نسبة 5.8 بالمائة من الأراضي في إطار ما يسمى بـ "تبادل الأراضي".
- يحصل الفلسطينيون على "ممر آمن" بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد تجنب أولمرت الحديث عن مسألة السيادة والسيطرة على هذا الممر.
- ترفض إسرائيل مبدأ حق العودة أساسًا لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين. مع ذلك فهي تبدي استعدادها، في إطار تقديم "مبادرة حسن نية إنسانية"، لعودة عدد من اللاجئين (إلى تخوم إسرائيل). ولم يدل أولمرت بأي تفصيلات تتعلق بهذا العدد، لكنه حرص على تأكيد أنه عدد محدود للغاية.
- فيما يتعلق بموضوع القدس عرض أولمرت أن لا تخضع منطقة "الحوض المقدّس" إلى سيادة أي من الجانبين، وأن تُدار بصورة مشتركة من طرف إسرائيل والأردن والفلسطينيين والسعودية والولايات المتحدة.
ووفقًا لما يقوله ألوف بـن، المحلل السياسي لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، فإن اقتراح أولمرت الداعي إلى "تدويل الحوض المقدّس" في القدس القديمة يعتبر اقتراحًا غير مسبوق، من ناحية إسرائيل، لأنه يعني التنازل عن السيادة الإسرائيلية "على حائط المبكى (البراق) والحرم القدسي الشريف وكنيسة القيامة وجبل الزيتون وربما مدينة داود (سلوان)، ولم يسبق أن أبدى أي زعيم إسرائيلي، قبله، استعدادًا لتدويل القدس أو جزء منها. وحتى في مبادرة جنيف، التي توصل إليها يوسي بيلين من الجانب الإسرائيلي، لم يتم الحديث على تسليمها إلى هيئة دولية وإنما على تقاسم السيادة عليها بين إسرائيل والدولة الفلسطينية" التي ستقوم (11).
وفي الوقت الحالي ثمة قناعة إسرائيلية كبيرة بأن رفض الجانب الفلسطيني اقتراح أولمرت هذا يعني أنه غير معني بـ "تسوية تاريخية- جغرافية" مع إسرائيل، ما يسقط فرضية مهمة، إن لم تكن الأهم، من الفرضيات التي وقفت وراء اتفاق أوسلو.
يتبع..............