كان يوما حافلا لمصر في جنيف ، حيث يحاكم العالم ملف مصر في حقوق الإنسان ، وقد بذلت السلطات المصرية جهدا كبيرا من أجل تحاشي الإحراج في هذا اليوم العصيب ، بدءا من تهديد سبع منظمات حقوقية مصرية إذا قررت المشاركة "ماذا وإلا" فاضطرت إلى نشر بيان علني تعتذر فيه عن المشاركة ، ومرورا باختيار شخصيات محسوبة على التيار الإسلامي وأخرى على المنظمات الحقوقية من أجل المشاركة لتجميل "صورة" الوفد المصري ، غير أن أتعس ما كان في المشهد هو الوفد الرسمي المصري نفسه ، الذي بدا دفاعه في القاعة وكأنما يسخر من عقول من فيها ، ولدرجة أن مساعد وزير الخارجية يتبجح باتهام الحاضرين بأنهم يعلقون على بلد آخر غير مصر ، وذلك طبيعي لأن الفترة الماضية عرفت انتشار أسلوب "البلطجة" الإعلامية والسياسية والقانونية وغيرها ، غير أن البلطجة على "العالم الخارجي" عواقبها وخيمة.
الوفد المصري قدم مجموعة من الأكاذيب والسخافات التي يقشعر البدن من فجرها واجترائها على الحقيقة ، مثل الهروب من الاستحقاقات المروعة الحالية لاتهام نظام الرئيس الأسبق محمد مرسي بأنه كان يريد أن يزوج الفتيات في سن تسع سنوات ، ويلغي قانون الخلع ، أو الادعاء بأنه لا يوجد أي صحفي مسجون أو معتقل لسبب يتعلق بأدائه مهمات عمله ، بينما العالم يوجه نداءات متتالية من عدة أشهر للإفراج عن "صحفيي" الجزيرة وغيرها .
وفي تقديري أن أخطر وأهم ما كان في هذا اللقاء هو "تلبيس" القضاء المصري الكارثة بكاملها ، والهرب من المسؤولية بتشويه القضاء المصري ولو بدون قصد ، فكلما أبدت الدول والوفود تعليقها على انتهاك الحريات العامة وسجن النشطاء قال الوزير والوفد المصاحب له أن هذه كلها أحكام قضائية وإجراءات قضائية ، وكلما امتد الحديث للإعدامات بالجملة وأحكام السجن القاسية للغاية بحق المتظاهرين ، يكون جواب الوزير والوفد المصاحب له بأن هذه أحكام قضائية وقضاؤنا مستقل ، لم يقولوا "شامخ" ، ربما لأن اللفظة ليس لها مقابل دقيق في الدول المتحضرة ، وكلما اعترض وفد على اتساع نطاق الحبس الاحتياطي وبأمد غير محدد ردوا بأن هذه أحكام القضاء المصري وإجراءاته ، باختصار القضاء المصري"شال الليلة وحاسب على كل المشاريب" ، بل زاد الأمر سوءا عندما تصدر ممثل النيابة العامة في اللقاء ودافع عن الحكومة وقال أنها ستعدل قانون التظاهر ، رغم أن هذا ليس اختصاصه ، والمفترض أنه يمثل العدالة وهي سلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية ، فللحكومة ممثلون يتحدثون نيابة عنها ، والقضاء "المستقل" لا يتطوع للدفاع عن الحكومة أو تبرير إجراءاتها ، وقد كان هذا الموقف بالغ السوء وجاء عكس كل ما أعاده وكرره وزير العدالة الانتقالية من أن القضاء مستقل .
لم يكن أداء الوفد المصري مقنعا بأي مستوى ، ومحاولاته البحث دائما عن "شماعة الإخوان" ـ النظام السابق ـ فشلت ، بل ربما جعلت الإخوان يربحون تعاطفا مجانيا من قطاع جديد من النخبة المصرية ، بعضهم سخر علنا على مواقع التواصل الاجتماعي من تلك "اللعبة" ، وبدأ يدرك أن الإخوان تحولت إلى "شماعة" للنظام الحالي للهرب من مسؤولياته وأخطائه وخطاياه ، كما كان لافتا أن كل الدول "المتحضرة" والديمقراطية ، سواء في آسيا أو أوربا أو أمريكا اللاتينية انتقدت الملف المصري بقوة ، بينما الدول "الموصومة" إما أبدت "ابتهاجها" بتقدم مصر في ملف حقوق الإنسان ، كما فعلت الإمارات ، وإما تفهمت مثل "الشقيقة" بوركينا فاسو ، أو تلك التي تبحث بانتهازية عن جسور للتواصل مع النظام الجديد كما فعلت إيران .
يمكن القول بأن "الخاسر" الأكبر في تلك المحاكمة كان هو القضاء المصري ، الذي أرادت الحكومة أن تهرب من فضيحتها الحقوقية فحملت الأوزار كلها له وألقت بالتبعات كلها عليه ، وهو الأمر الذي يستدعي من المخلصين في القضاء المصري سرعة إعادة النظر في "موقع" و"دور" القضاء في النظام الجديد ، وسرعة إصلاح الأوضاع ، قبل أن يصل بنا الحال إلى مستوى دول مثل كوريا الشمالية أو كوبا ، حيث لا يتذكر أحد في العالم أن فيها قضاء من حيث الأصل.
[email protected]
twitter: @GamalSultan1
المصـــــــــــــدر