القصبة العتيقة بالجزائر العاصمة
متحف تاريخي مفتوح على العالم
تتميز الجزائر بتاريخها العريق و افتخارها بآثارها التاريخية التي خلفتها الحضارات القديمة التي تعاقبت على هذا البلد منذ العصور الغابرة ، فهي غنية بالمواقع الأثرية المنتشرة في أكثر من منطقة ، لعل أبرزها "القصبة العتيقة ، بالجزائر العاصمة ،هذا الحي العتيق بأزقته الضيقة ومنازله الأسطورية ذات اللون الأبيض المطلة على البحر ، هو في الواقع عبارة عن واحدة من أهم القلاع الصامدة و الشاهدة عل تاريخ المنطقة الغني بالأحداث ، الذي تروي تاريخ الجزائر مع الحضارات الإنسانية التي تعاقبت على هذا البلد ، كانت و لازالت هذه المدينة الضاربة في عمق التاريخ و التي عرفت بألقاب شهيرة أبرزها "لؤلؤة الجزائر" أو "عروس البحر الأبيض المتوسط" من أهم المعالم الأثرية البارزة في الجزائر ،
كانت تسمى في القدم بقلعة الجزائر ، والمعني الحقيقي "للقصبة" هي المدينة المحصنة و المحاطة بالأسوار لها ستة أبواب رئيسية و هم: باب الجديد ، باب دزاير ، باب عزون ، باب الواد و باب البحر تحكمها قوانين معيشية خاصة لا يمكن لأحد تجاوزها ، حيث أن هذه الأبواب تغلق عند غروب الشمس و تفتح مع طلوعها لتتحول القصبة إلى سوق لمختلف النشاطات التجارية و الدكاكين المختصة في الحلي و التحف و الملابس و أيضا الخضر و الفواكه ، و بنيت قصبة الجزائر وفق الطراز العثماني في القرن السادس عشر بين عامي 1516-1592 لتكون بذلك مقر للوالي العثماني و قاعدة عسكرية من أجل الدفاع عن الجزائر العاصمة وحمايتها من أي تدخل أجنبي .
تشكل القصبة موروثا ثقافيا و حضاريا هام ، فبقدر ما هي مكان تاريخي تفوح منه ذكريات الماضي البعيد ، إلا أنها في نفس الوقت تضم بقايا قلعة و مساجد و حمامات عثمانية تعبق بأريج التراث و التاريخ ، فضلا عن العديد من القصور العثمانية الرائعة التي مازالت شاهدة على هذا الموروث الثقافي و المعلم التاريخي ، فهذه المدينة العريقة التي تعتبر من أقدم الأبنية الحضارية و الأثرية التي ازدهرت و تطورت في العهد العثماني تركت بصمتها في العمارة الهندسية العثمانية الجزائرية لعل أبرزها قصر الداي (الحاكم العثماني) أو دار السلطان كما هو متعارف عليه حاليا و هو أحد الروائع المعمارية العثمانية التي تتميز بدرجة عالية من الجمال و الجاذبية ، و هناك أيضا قصر مصطفى باشا و قصر خداوج العمياء بناه يحي رايس أحد ضباط البحرية العثمانية في سنة 1570 م ، الذي أهداه الداي محمد بن عثمان لوزير ماليته حسن الخزناجي كمكافأة لإخلاصه، و هذا الأخير ، أهداه بدوره لابنته "خداوج" التي كانت فاتنة الجمال و معجبة بنفسها تقضي ساعات طويلة أمام مرآتها المرصعة بالجواهر والياقوت تتأمل جمالها حتى أصيبت بالعمى لإفراطها في النظر إلى المرأة ، و هناك أيضا قصر عزيزة شقيقة خداوج ، و دار الصوف وغيرها من القصور الجميلة ، فضلا عن العديد من المساجد و في مقدمتها نجد مسجد "سفير" نسبة إلى سفر بن عبد الله أحد كبار قادة البحرية العثمانية و هو أول مسجد بناه العثمانيين في حي القصبة سنة 1534 م ، و أيضا مسجد كتشاوة و هو تحفة معمارية عثمانية بناه الوالي العثماني حسين باشا سنة 1792 م ، لكن أغلبيتها هدمت و اندثرت خلال الفترة الاستعمارية بالجزائر أو حولت لثكنات عسكرية و كنائس .
تتميز أزقة قصبة الجزائر بممراتها الضيقة و المبلطة بأجود أنواع الحجر ما يسمى بالحجر الأزرق ، و أيضا بعيونها المائية المنتشرة عبر أزقتها والتي تشد الناظر إليها من خلال هندستها المعمارية المميزة وبهاء ألوان "الزليج" ( البلاط) الذي يلفها من كل الجوانب ، والتي وصل عددها إلى أكثر من 200 عين ، إلا أنه لم يبقى منها إلا ستة عيون صامدة وهي: عين سيدي رمضان ، عين مزوقة ، عين سيدي محمد ، عين بئر جباح ، عين بئر شبانة وعين سيدي بنالي ، كما تعرف منازل القصبة الأسطورية بصغر حجمها و تسمى "الدويرات" و هي عبارة عن قصور صغيرة و بسيطة بنيت بطراز معماري إسلامي خاص تتميز بهندستها المعمارية التي تمزج بين الطراز المعماري العثماني و الأندلسي في أن واحد ،
فبالرغم من قدم أحيائها إلا أنها مازالت محافظة على طابعها التاريخي من خلال النقوش الموجودة على جدران المنازل و النوافذ و أيضا المحلات و الأزقة التي تحكي ألف حكاية و حكاية، أبرزها أنها كانت معقل للثوار خلال الثورة التحريرية المجيدة، نظرا لطابعها الهندسي الذي تتميز به و أيضا أزقتها الضيقة و المتشعبة التي لا يعرفها إلا سكانها مما يصعب على السلطات الفرنسية اختراقها ، كما شهدت القصبة العتيقة العديد من المعارك مع العدو مثل معركة الجزائر الكبرى سنة 1957 و التي أستشهد خلالها علي لابوانت و حسيبة بن بوعلي .
صنفت القصبة العتيقة ضمن التراث العالمي من طرف اليونسكو سنة 1992 و وصفتها بأنها من أجمل المواقع الأثرية المطلة على البحر ، مما شجع السلطات المحلية إلى إعادة ترميم مبانيها من أجل بعث الروح من جديد لهذا الصرح التاريخي و المعلم الأثري .
جميلة خياري