تابع .. كيف تم اختراع الشعب اليهودي
العهد القديم: “أسطورة تاريخ”
يلعب كتاب “تاريخ اليهود منذ الأزمنة القديمة إلى أيامنا” لهيرنيش غريتز والذي ظهر في الخمسنيات من القرن التاسع عشر دوراً كبيراً في صقل الهوية القومية لليهود . “وقد واصل هذا الكتاب المجدد، المكتوب بموهبة أدبية كبيرة، تأثيره في الكتابة التاريخية اليهودية طول القرن العشرين .”، ومن الصعب، كما يقدر المؤلف، “معرفة حجم التأثير في تشكيل الوعي الصهيوني القادم، لكن ليس ثمة من شك في أن دوره كان كبيرا ومركزيا . “وتكمُن قوتُه كما نقرأ في الكتاب في كونه ألهم حتى الفكر الصهيوني في فلسطين .
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب لا يولي كثيراً من الأهمية لوصف تاريخ يهود أوروبا الشرقية، فإن المثقفين القوميين الأوائل في الامبراطورية الروسية قرأوه بتلهف وبسرعة . ( . . .) وقد استخدم الكتاب، لاحقاً، من قبل زعماء المستوطنين الصهاينة في فلسطين كخيط رابط في أعماق الزمن . وفي أيامنا هذه تحمل كثير من المدارس في “إسرائيل” اسم غريتز، ولا يخلو مقالٌ في التاريخ العام حول اليهود من الاستشهاد به” .
ما السبب حول هذه الأهمية التي يحظى بها هذا الكتاب؟
سبب هذا التأثير الواسع، في نظر الكاتب، واضحٌ: “يتعلق الأمر بأول كتاب يبذل فيه مؤلفه جهوداً بمثابرة وباستمالة للنفوس بهدف اختراع الشعب اليهودي . ( . . . ) إنّ غريتز، وليس شخصاً آخر، على الرغم من أنه لم يكن صهيونيا، هو من صنع النموذج الصهيوني لكتابة تاريخ “اليهود” . وقد نجح في في إرساء محكيّ موحَّد خالقاً، على الرغم من التشعبات، استمرارية تاريخية تحافظ لحد اليوم على وحدتها”، ومن أجل إيقاظ الشعور القومي، أي الهوية الجماعية الحديثة، يتوجب حضور ميثولوجيا وغائية . الأسطورة التأسيسية يتم منحها بطبيعة الحال من قبل عالَم نصيّ توراتي يصبح الجزءُ الأكثر تاريخية وسردية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أسطورة حية، وبشكل خاص في عيون مثقفين يهود من أوروبا الوسطى، وهذا على الرغم من السهام التي كان يوجّهها النقد الفيلولوجي .
يكتب غريتز في كتابه السابق الذكر: “تاريخ اليهود”: “اليهود لا يدخلون في هذا البلد(فلسطين)، بغرض البحث فيه عن المراعي، والإقامة فيه في سلام، جنبا إلى جنب مع رعاة آخرين . إن مطالبهم أكثرُ سموّا: إنهم يطالبون بكل أرض كنعان . إن هذه الأرض تحتوي على قبور أجدادهم” .
ويتطرق الكاتب إلى مؤلف يهودي آخر، موسيس هيس، مؤلف كتاب “روما والقدس سؤال القوميات الأخير” (باريس، 1881)، يتحدث عن غريتز بحماس . إذ إنه تعلم أنّه “حتى بعد انتهاء التلمود، فإن التاريخ اليهودي “يحافظ على طابع قومي، ولا يمكن اختزاله إطلاقا إلى تاريخ ديانة أو تاريخ طائفة”، ويرى هيس أن مصدر الصراع ما بين اليهود وغير اليهود يكمُن في كون أن الأوائل يشكلون منذ البدء مجموعة وراثية مختلفة . ويكتب: “العرق اليهودي هو عرق صافٍ أنتج مجموع طباعه وخصائصه على الرغم من مختلف التأثيرات المناخية”، ويذهب أبعد في نظرياته العِرقية إلى الخلاصة التالية: “لن ينفع اليهودَ في شيء إنكارُ أصولهم وخضوعهم للتعميد المسيحي وانخراطهم في كتلة الشعوب الهندية الجرمانية والمغولية . إن الخصائص اليهودية لا تمحي” .
يرى غريتز أنه لا يمكن أن ننكر وجود شعوب بائدة اختفت من التاريخ ووجود شعوب أخرى خالدة . لم يتبقّ شيءٌ من العِرق الهيليني ولا من العِرق اللاتيني، لقد ذابا في كيانات بشرية أخرى . أما العرق اليهودي، فقد نجح في الدوام والبقاء على قيد الحياة، وهي على وشك إذكاء نار طفولتها التوراتية المعجزة . إن “انبعاثه الجديد” (أي العرق) بعد منفى بابل والعودة إلى صهيون علامةٌ على أنه يمتلك قوة كامنة وبطيئة لولادة جديدة .
صحيح أن غريتز لم يكن صهيونياً ولكن كان من السهل استخدام أيديولوجيته من قبل الصهاينة .
“كانت غائية الأمة المختارة، عند غريتز، أخلاقية أكثر مما هي سياسية وكانت تحمل في طياتها بقايا غبار الإيمان التقليدي في تفككه”، وقد كان غريتز، كما هو شأن كل مؤرخي القرن التاسع عشر، من أنصار الفكرة القومية، فكان يرى أن تاريخ “أمته” مثير للحماس ولا يوجد له نظيرٌ في مكان آخر .
ثم يستعرض المؤلف كُتّاباً آخرين لم يكونوا يولون للقومية اليهودية أهمية كبيرة . ومن بينهم بارون، مؤلف كتاب “تاريخ “إسرائيل”” . وكان بارون حين يتحدث عن تدمير الهيكل وعن المنفى يصفهما برنة محايدة، مشوبة أحيانا برنة من الرضى: “من الآن فصاعدا لم يعد من الضروري الإقامة في أرض “إسرائيل” أو تحت سلطة “إسرائيل” كي يعتبر المرء يهودياً” .
يحرص بارون في مؤلفاته على إيجاد نوع من التوازن ما بين العرقية المركزية والوعي بأصل مشترك والروحانية الخاصة، التي هي في صلب تحديد اليهودية، من جهة وبين الكونية الإنسانوية التي حملها الشعب اليهودي، في نظره، في منفاه نحو “الشتات”، من جهة أخرى .
يجب أن نتذكر أن “الإثنية” اليهودية، عنده، ليست ثقافة دينية بسيطة، ولا ثقافة علمانية حقيقة، ولكنها نوع من “نمط حياة” توجد فوق نظام المعتقدات والعقائد الدينية .
إن عدم إيلاء بارون أهمية كبيرة للسيادة السياسية والعودة إلى “أمة قديمة”، أي غياب ثيولوجية قومية واضحة بما يكفي في عمله، حرّك انزعاجا بل وحتى نقدا من قبل مؤرخ مهم آخر . ويتعلق الأمر هنا بالمؤرخ إسحاق بايير . وهو مؤلف كتاب “التاريخ الاجتماعي والديني لليهود”، سنة 1938 . وهو يعبر عن موقفه الجذري بالقول: “مؤرّخُ المنفى اليهوديُّ عليه أن يكتشف في الحقبة التوراتية القوى الداخليةَ التي أتاحت لليهود أن يتأبّدوا في الظروف المختلفة والمتغيرة للحقب التالية . إن بارون يجد في الفصول الأولى من تاريخ “إسرائيل” نفس المخطط الدائم الذي يوجد حلاً، لاحقاً، تاريخ الشتات إلى يومنا . وهكذا سدّ طريق الإدراك العضوي”، ويلخص المؤلف هذا الفصل الذي يفيض بالمرجعيات والاستشهادات والأسماء بما يلي: “إن التوراة التي تم اعتبارها قروناً عديدة من قبل الثقافات الثلاث للديانة التوحيدية، اليهودية والمسيحية والاسلام، ككتاب مقدس أملاه الرب، دليله على الوحي وعلى تفوقه، طفقت شيئاً فشيئاً، مع بزوغ أولى براعم الفكرة القومية الحديثة تستخدم ككتاب ألّفه رجال في الماضي من أجل إعادة تكوين ماضيهم” ويضيف “وكما حاول هذا الفصل أن يبرز فإنه مع توسع كتابة التاريخ المتعلقة بتاريخ نشوء الصهيونية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن التوراة لعبت، بشكل واضح، دورا كبيرا في تشكيل الأمّة اليهودية الحديثة . لقد انتقلت من رفوف الكتب الثيولوجية إلى رفوف التاريخ، وأما أتباع الأمة اليهودية فقد قرروا قراءتها باعتبارها وثيقة صادقة حول المسارات والأحداث التاريخية . أكثر من هذا تم رفعها إلى مصاف “أسطورة تاريخ” ولا يمكن التشكيك فيها لأنها تشكل حقيقة واضحة . وهكذا أصبحت مكانا لقداسة علمانية لا يرقى إليها الشك، نقطة انطلاق ضرورية لكل تفكير حول مفاهيم الشعب والأمة” .
تأليف: شلومو صاند / ترجمة وعرض: بشير البكر - نشر في صحيفة الخليج الإماراتية