من التأميم الى العدوان الثلاثي 3 - سامي شرف
|
اقتباس |
|
|
|
|
|
|
|
|
.....
إن مشروعا بهذا الحجم كان فى حاجة إلى قرار سياسى جرىء ، وكان جمال عبد الناصر يتمتع برؤية إستراتيجية بعيدة المدى، ولم يكن يتخذ القرار المتسرع ولم تكن مواقفه نابعة من رد الفعل ، ومن ثم فقد استوعب كل النتائج التى توصلت إليها الدراسات الفنية المتخصصة لمشروع السد العالى وسعى إلى تحويله إلى "حلم قومى " يستأهل أن تجند له كل الطاقات والخبرات لوضعه موضع التنفيذ وبدأ يضعه فى جدول أعماله فى مناقشاته واجتماعاته مع كل المسئولين العرب والأجانب كما تداول بشأنه فى حواراته المستمرة مع الرئيسين تيتو ونهرو ، وأخذ يبحث عن مصادر لتمويله ، وبدا بعرضه على البنك الدولى للإنشاء والتعمير الذى أكد فى تقريره نشره فى شهر يونيو1955 سلامة المشروع ، وورد بهذا التقرير أيضا" أن مصر اعتمدت ثمانية ملايين دولار لتنفيذ بعض الأعمال التحضيرية للمشروع وتشمل إنشاء خطوط للسكك الحديدية ، ومساكن للعاملين فى الموقع " ، وفى أغسطس من نفس العام أصدر البنك تقريرا آخر يؤكد قدرة الاقتصاد المصرى على تنفيذ المشروع ، وفى سبتمبر1955 أعلنت بعض الشركات الألمانية الغربية والفرنسية والبريطانية تقدمها بعروض للمشاركة فى تنفيذ المشروع فى شكل "كونسورتيوم " .
لقد بدا أن المشروع يحظى باهتمام فى الدوائر السياسية فى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وقد اعتبروه فرصة للربط بين دعم خطط التنمية التى بدأتها الثورة من جانب ، وإقامة نظام إقليمى يضمن المصالح الغربية ويفتح الطريق للتسوية مع إسرائيل من جانب آخر .
وبدأ الاتحاد السوفيتى يدخل كطرف ثالث فى التنافس ـ خاصة بعد عقد صفقة الأسلحة التشيكية ـ ففى سبتمبر عام1955 ، وفى نفس وقت إعلان أنباء الصفقة صرح السفير السوفيتى فى القاهرة أن بلاده مستعدة للمساهمة فى بناء السد العالى ،وحدد هذه المساهمة بالمعونة الفنية والمعدات وأموال يتم تسديدها بسلع خلال خمسة وعشرين عاما ، وأدى ذلك إلى فزع كبير فى الغرب ، وتحركت بريطانيا لتحذير واشنطن من التهديد السوفيتى القادم .
وقد اختار عبد الناصر أن يختبر نوايا الغرب مرة أخرى بعد أن فشلت محولات الحصول على السلاح منه فبدأ الدكتور عبد المنعم القيسونى وزير الاقتصاد سلسلة من الزيارات للعواصم الغربية وجرت العديد من المفاوضات ، أسفرت عن اتفاق من حيث المبدأ أعلنته الخارجية الأمريكية فى 16ديسمبر1955 ويقضى بأن يتولى كل من البنك الدولى والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تمويل مشروع السد العالى بتكلفة تبلغ 1,3 مليار دولار يتم توزيعه كالتالى :
تقديم 70 مليون دولار للمرحلة الأولى فى المشروع ( تقدم الولايات المتحدة مبلغ 56مليون دولار ، وتقدم بريطانيا مبلغ 14 مليون دولار ) .
تقديم 200 مليون دولار للمرحلة الثانية فى صورة قرض من البنك الدولى بالإضافة إلى 130 مليون دولار أخرى كقرض من الولايات المتحدة الأمريكية ومبلغ 80 مليون دولار قرضا من بريطانيا ، على أن تدفع فى صور أقساط سنوية بفائدة 5% تسدد على مدى أربعين سنة .
باقى المبلغ تتحمله مصر بالعملة المحلية .
يضاف إلى ذلك منحتين الأولى من الولايات المتحدة وقدرها عشرين مليون جنيه والثانية من بريطانيا وقدرها خمسة ونصف مليون جنيه .
وفى الوقت الذى كانت فيه المفاوضات حول تمويل السد العالى تتخذ هذا المسار الإيجابى على السطح كانت العلاقات السياسية بين مصر من جانب وكل من الولايات المتحدة وبريطانيا من جانب آخر تتخذ مسارا مختلفا بسبب معركة الأحلاف وصفقة الأسلحة والاعتداءات الإسرائيلية على غزة وغيرها كما أوضحت ، وقد بدا واضحا حرص الدولتين على امتلاك أوراق ضغط على ثورة يوليو تتعارض والإستراتيجية التى انتهجتها الأخيرة بشأن استقلالية قرارها والإصرار على استكمال التحرر من أية ضغوط أجنبية، وجاءت الشروط التى وضعتها الدولتان لتنفيذ اتفاق تمويل السد العالى مؤكدة لهذا الاتجاه ، فقد اقترن العرض السابق بالشروط التالية:
(1) أن تركز مصر برنامجها التنموى على السد العالى بتحويل ثلث دخلها القومى ولمدة عشر سنوات لهذا المشروع مع فرض رقابة على المشروعات الاقتصادية الأخرى .
وضع ضوابط للحد من زيادة التضخم والإنفاق الحكومى ، وفرض رقابة على مصروفات الحكومة مصرية وعلى الاتفاقيات الأجنبية أو الديون الخارجية . وألا تقبل مصر قروضا أخرى أو تعقد اتفاقيات فى هذا الشأن إلا بعد موافقة البنك الدولى .
(3) الاحتفاظ بحق إعادة النظر فى سياسة التمويل فى حالات الضرورة .
وأثارت هذه الشروط غضب الرئيس عبد الناصر ، فقد كانت أشبه بالوضع الذى كان سائدا فى عهد الخديوى إسماعيل ، وأنتج ذلك كله حالة فقدان الثقة فى إمكانية معاونة الولايات المتحدة فى تنفيذ المشروع ، وانتهى الرئيس إلى تقدير موقف اقتنع به بهذا المعنى ، لكنه حرص على تفادى المواجهة لآخر لحظة حتى يتكشف الموقف الأمريكى بوضوح وجلاء وصراحة فى ضوء الرسائل المتكررة التى حملتها القنوات الخلفية والزيارات الرسمية للمسئولين الأمريكيين ، والتى أكدت حقيقة واحدة هى إصرار الجانب الأمريكى على التحكم فى سياسات الثورة ودفعها إلى مسار يخدم الإستراتيجية الأمريكية ومصالح الغرب فى الأساس ، وخاصة فيما يتعلق بالتفاهم مع إسرائيل ، وكان ذلك يجرى بتنسيق محكم مع الجانب البريطانى تكشفت أبعاده فى أكثر من مناسبة وكما كشفته الوثائق الأمريكية والبريطانية التى نشرت مؤخرا .
وفى هذا الإطار استقبل الرئيس جمال عبد الناصر يوجين بلاك رئيس البنك الدولى ، وبعد مفاوضات وافق عبد الناصر فقط على أن يكون للبنك الدولى حقوق معقولة فى تفقد الإجراءات التى سوف تتخذها مصر للحد من التضخم ـ عقد اتفاق أعلن فى 8فبراير1956 يقدم البنك بموجبه قرض قيمته مائتان مليون دولار على أن يتوقف تنفيذه على التوصل إلى اتفاق آخر مع لندن وواشنطن حول الشروط التى أعلنوها لتقديم المساعدة .
وفى الأسبوع الأول من يوليو1956 استقبل الرئيس عبد الناصر السفير أحمد حسين سفير مصر فى واشنطن فى استراحة برج العرب غرب الإسكندرية ، ودار الحديث حول الموقف الأمريكى من تمويل مشروع السد العالى ، وكان أحمد حسين معروفا بميوله الأمريكية، ومن أنصار تطوير العلاقات والتعاون مع واشنطن وقد حاول فى هذا الاجتماع أن يبرر موقف جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكى الذى أتسم بالمماطلة والتعنت وأخذ يسهب فى تفسير الضغوط التى يتعرض لها من الدوائر الصهيونية وبعض رجال الكونجرس الأمريكى ، ولكن الرئيس جمال عبد الناصر كان يدرك فى قرارة نفسه أن الأمر لا يخرج عن حدود المناورة ، وأن أمريكا لن تقدم على المساهمة فى تنفيذ المشروع ، وتمسك أحمد حسين بموقفه ومحاولاته للتفسير والتبرير ، وبعد أن استمع له عبد الناصر مطولا بادره قائلا :
" حسنا ( قالها بالإنجليزية All Right ) سأعطيك الفرصة لكى تثبت شيئا من أجل مصر يا أحمد ، ترجع لدالاس وتقول له إنك قبلت بجميع شروطه ، ثم لاحظ ردود فعله ، وحانشوف إيه اللى حا يجرى بعد كدة ؟ ".
وأسقط فى يد أحمد حسين واستفسر من الرئيس عما إذا كان لا يريد أن يعدل من الشروط الأمريكية .
فقال له عبد الناصر : " لا تعديل فى الشروط ، وآنت مفوض تفويضا كاملا ومعا Carte blanche وتقول لدالاس :
" إننى قبلت بشروطكم وبأن يتجدد الالتزام الأمريكى تجاه السد العالى سنويا ، لكنى أحذرك يا أحمد إياك أن تقول أو تفعل أى شىء يمس كرامة مصر؛* وهذا لسبب واضح تماما هو أننا لن نحصل على السد العالى من الأمريكان . " .
وتوجه أحمد حسين إلى واشنطن عن طريق لندن ، وعلى خلاف اتفاقه مع الرئيس جمال عبد الناصر أدلى بتصريحات دلت على تخاذل لا مبرر له على الإطلاق فقد قال :
" إن مصر تقبل بجميع المقترحات المقررة بشأن السد العالى ، وأنها ترجو مساعدتها فى بناء السد العالى ، وتعتمد على هذه المساعدة وتطلبها . " .
كنا فى هذه الأثناء فى صحبة الرئيس جمال عبد الناصر فى زيارة رسمية ليوغوسلافيا عندما أدلى أحمد حسين بهذه التصريحات، وأعرب الرئيس عن ضيقه؛ إذ شعر أن مصر قد أهينت، وما كان لأحمد حسين أن يصرح بكلمة قبل أن يقابل دالاس حسب التعليمات ويفاجئه بموقفه .
ذكّرت الرئيس بما لدينا من معلومات مسبقة بشأن أحمد حسين، وتزايد ارتباطاته فى هذه الفترة 1955 /56 مع بعض الجهات فى أمريكا، وقد رأيت هذا التصريح بمثابة تسريب للموقف المصرى بشكل مفصل ويحمل معنى التخريب فى سياستنا؛ خاصة وأن الرئيس قد حذره من عدم الإقدام على أى قول أو فعل يترتب عليه المساس بكرامة مصر ، فلماذا تطوع أحمد حسين بهذا الموقف ؟ ولماذا فى لندن بالذات ؟ ولماذا قبل اجتماعه بدالاس فى واشنطن ؟ خاصة وأنه سمع تقدير محدد من الرئيس جمال عبد الناصر يعرب فيه عن اعتقاده الجازم بأن أمريكا لن تقدم السد العالى لمصر .
كان رأى أحمد حسين الذى عبر عنه فيما بعد ، أنه قصد المناورة وممارسة الضغط على الجانب الأمريكى؛ خاصة وأنه ألمح فى تصريحاته إلى استعداد الاتحاد السوفيتى لتقديم المساعدة فى بناء السد العالى . والحقيقة أنه لم يجر أى اتصال من جانب مصر مع الاتحاد السوفيتى حول هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد إلا بعد سنة 1957 ، وكل ما حققه التصريح هو إعطاء الفرصة لدالاس لأن يعد نفسه جيدا .
وما أن وصل أحمد حسين إلى واشنطن حتى تتابعت الأحداث على النحو التالى :
*عندما تسلم دالاس تصريح احمد حسين سارع بإبلاغ أيزنهاور* الذى كان متواجدا فى كامب دافيد أثر إصابته بأزمة قلبية ، ولإحساس دالاس أنه سيواجه حرجا شديدا إذا ما أبلغه أحمد حسين رسميا قبول مصر للشروط الأمريكية ، أبلغ أيزنهاور بأن المصريين لا يتجاوبون معه البتة ، وأنه يقترح سحب عرض المساعدة فى بناء السد العالى ، ورد أيزنهاور بأنه يفوضه للتصرف بحرية مطلقة وفق ما يراه .
..............."
|
|
|
|
|
|
د. يحى الشاعر