المسألة المدنية العسكرية في مصر بعد 25 يناير
فترة حكم المجلس العسكري
يبدو أن الانتفاضة الثورية المصرية وطلائعها وقاعدتها الاجتماعية من الأجيال الشابة للطبقة الوسطى – الوسطى المدنية، شكلت مفاجأة وصدمة صاعقة للنظام التسلطي، وأركانه والأخطر أنها شملت الدولة وأجهزتها، وقوى المعارضة السياسية الشكلية، والاستثناءات تبدو محدودة جدًا في إطار الدوائر السابقة.
من هنا بدا بعض من الارتباك السياسي والاضطراب في الرؤية حول طبيعة ما حدث وتكييفه من الناحية الدستورية والتركيبة الاجتماعية، ومن ثم كيفية التعامل مع الحدث الثوري ومحمولاته ومطالبه السياسية والاجتماعية، ترتب على هذا الاضطراب بعض الخلل في الرؤية السياسية والدستورية والأمنية وطبيعة الأهداف السياسية المبتغاة أثناء المراحل الانتقالية ولا سيما الأولى والثانية.
كان التفكير السائد لدى المجلس العسكري يتمثل في الاحتواء السياسي وتحقيق التهدئة، وبث وتوسيع التناقض بين الكتلة الثورية الشابة، وبين غالب الكتل الجيلية الأكبر سنًا على المستوى القومي، وبين الفئات الشعبية المستضعفة والمعسورة، وبين الطبقة الوسطى – الوسطى المدنية في القاهرة والإسكندرية، والسويس والمنصورة.
هذا التصور السياسي السلطوي تأسس على أننا إزاء تمرد شبابي يمكن احتواؤه واستيعابه وإعادة النظام مجددًا مع تعديلات جزئية محدودة، في ظل ازدياد الضغوط السياسية لقوى الانتفاضة عبر أساليب التظاهرات وارتفاع أسقف المطالب السياسية، تم تغيير الاستراتيجية السلطوية إلى تعديلات جزئية تمثلت في التركيبة الوزارية ورئيسها.
من ناحية ثانية شكلت العملية الدستورية في التعامل مع الانتفاضة الثورية أحد أبرز علامات الخلل في رؤية وتكييف الحدث الاستثنائي ومحمولاته ودلالاته، وأسلوب التعامل معه. لم يتم تكييف ما حدث سياسيًا ودستوريًا على أنه ثورة، ومن ثم إعلان سقوط دستور 1971، ووضع إعلان دستوري يحكم مرحلة الانتقال لحين اختيار برلمان ورئيس منتخب على أساس ديمقراطي.
وثارت أسئلة كيف يوقف دستور سقط من خلال العملية الثورية الديمقراطية؟ هل يوقف دستور ثم يتم تعديل بعض مواده؟ كيف تستفتى الجماعة الناخبة على تعديلات دستورية ثم يتم إصدار إعلان دستوري؟
الملاحظات والأسئلة السالفة السرد لا تعدو أن تكون علامة على بعض اضطراب في الرؤية الدستورية والسياسية وذلك على الرغم مما تنطوى عليه من محاولات ترمي إلى حصر العملية الثورية في حدودها الأولية وعدم تمددها إلى ثورة بالمعنى والدلالة التاريخية التي تؤدى إلى تغيير بنيوي وراديكالي في الأنظمة الدستورية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
قام المجلس العسكري منذ الإطاحة بمبارك بالتعبئة للدفاع عن مصالحه الجمهورية ومكانته الاستثنائية أو ما يطلق عليه “جمهورية الضباط”.
ويسعى المجلس العسكري إلى الحفاظ على امتيازاته السياسية، ومكافآته المادية، ومكانته الاجتماعية التي يعتقد أنها جميعًا استحقاقات لقاء دفاع القوات المسلحة عن مصر، كما يسعى إلى تعزيزها بحصانة قانونية رسمية عن أي من أفعاله، ماضيًا أو مستقبلًا، على حدّ سواء.
وبالنسبة إلى المجلس العسكري، هذا يفضي على وجه التحديد إلى تأكيد حقه في السيطرة المطلقة على ميزانية الدفاع، والمساعدات العسكرية الأمريكية، واقتصاد المؤسسة العسكرية الرسمي والمشاريع التابعة له، كما يمارس حرية التصرّف المطلقة في استخدامه الأصول والموارد الناشئة عنها جميعًا. فضلًا عن ذلك، يرغب المجلس العسكري في الحفاظ على النفوذ الفعلي لجمهورية الضباط في جهاز الدولة وفي الجزء المملوك للدولة من الاقتصاد المصري، وعلى الفرص التي يوفّرها هذا للتمدّد إلى القطاع الخاص أو القطاع المختلط على نحو متزايد.
وقد ظهرت جمهورية الضباط في الأصل في أعقاب إطاحة النظام الملكي على يد القوات المسلحة المصرية في العام 1952، وخصوصًا بعد تثبيت العقيد جمال عبد الناصر رئيسًا للبلاد عن طريق الاستفتاء الشعبي في العام 1956. وقد جرى نزع الصبغة العسكرية جزئيًا عن مجلس الوزراء إلى حدّ كبير في عهد خلفه أنور السادات في السبعينيات، واستمر هذا الاتجاه في ظلّ التهميش السياسي الظاهري للقوات المسلحة المصرية خلال رئاسة حسني مبارك.
وعلى النقيض من تصوير القوات المسلحة المصرية في عهد عبد الناصر على أنها عامل تغيير اجتماعي في “الثورة من فوق”، التي أطلقها الرئيس آنذاك، حيث أشرفت على إعادة توزيع الأراضي و”مَصْرَنة” القطاعين الصناعي والمالي في الخمسينيات، وثم على السياسات الاشتراكية بدءًا من أواخر العام 1961 فصاعدًا،
أدّى دمج القوات المسلحة ضمن نظام مبارك إلى تخلّيها الكامل عن مهمتها الأيديولوجية السابقة، فتم استقطاب كبار الضباط إلى النظام الرئاسي القائم على التمتّع بالنفوذ والمحسوبية، وجرت استمالة القوات المسلحة ونزع الصبغة والدور السياسيَّين عنها. لكن بدل أن تنأى المؤسّسة العسكرية بنفسها عن الساحة، باتت خفية بفضل حضورها الطاغي: حيث تغلغلت جمهورية الضباط في الحياة المدنية لدرجة أصبح معها وجودها أمرًا اعتياديًا وطبيعيًا، ليس في نظر الآخرين وحسب، بل أيضًا، وهذا الأهم، في نظر أفرادها أنفسهم.
ولكن الأخطر فتمثّل في نقطة التحوّل التي حدثت في العام 1991 عندما أطلق مبارك حملة كبرى لخصخصة المشاريع الاقتصادية التابعة للقطاع العام، على خلفية شطب جزء كبير من ديون مصر الخارجية، وإعادة التفاوض بينها وبين صندوق النقد الدولي على اتفاقية العام 1987، في أعقاب حرب تحرير الكويت،
لم تؤدِّ الطريقة التي أُديرَت بها الخصخصة إلى “رأسمالية الدولة” ولا إلى اقتصاد سوق حرة حقيقي، بل إلى تطوّر رأسمالي مشوّه، وقد وفّر ذلك فرصة لكبار الضباط في القوات المسلحة للوصول إلى حيِّز كبير من الاقتصاد المصري الذي بقي مملوكًا للدولة، ويتم هذا الاحتواء للضباط ليس فقط من خلال التعيين في مجالس إدارات تلك الشركات، بل أوجدت الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة في الفترة التالية فرصًا جديدة للضباط السابقين المتواجدين في الإدارة المدنية، للحصول على الثروة أو لزيادة أملاكهم وموجوداتهم.
كان الدمج في نظام مبارك يعني أن مبارك هو الذي يتولّى “مجمل سلطة القرار السياسي، وليس مجرّد السيطرة على جهاز الدولة”، وبقيت القوات المسلحة لاعبًا أساسيًا في “نظام الحكم متعدّد الأطراف المتصارعة” المؤلّف من قوى مؤسسية وسياسية متنوّعة بإشراف الرئاسة، ومنها الأجهزة الأمنية والاستخبارية، والجماعات الاقتصادية الرئيسة، والحزب الوطني الديمقراطي، وخصوصًا عقب صعود نجم جمال مبارك، نجل الرئيس، ومَن حوله من وزراء ورجال أعمال.
إن عملية دمج كبار الضباط من قبل مبارك، التي ضمنت ولاءهم وإذعانهم له، أبعدتهم في الوقت نفسه عن واقع مصر الاجتماعي والسياسي، وقلّصت قدرتهم على المبادرة أو الإبداع، لكنّها لم تقلّص من رغبتهم في حماية سلطاتهم المكتسبة وامتيازاتهم المتراكمة.
ويظهر ذلك الإرث جليًا في سلوك المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تسلّم مقاليد الحكم التنفيذية والتشريعية الكاملة من مبارك في 11 فبراير 2011.
ويتألّف المجلس في العادة من وزير الدفاع ومساعديه الأساسيين (للشؤون المالية والقانونية وغيرها)، ورؤساء أركان فروع القوات المسلحة الرئيسة، ورؤساء الاستخبارات العسكرية وغيرها من المديريات، وقادة المناطق العسكرية الخمس. ولقد عمل المجلس الأعلى جاهدًا لإقناع الضباط وضباط الصف والأفراد بأنه يمثّل مصالح القوات المسلحة ككلّ، وليس فقط مصالح كبار الضباط أو الشريحة العليا منهم.
لكن، في الواقع، سعى المجلس إلى الدفاع عن الموقع المتميّز للمؤسسة العسكرية، التي تمتطي جهاز الدولة واقتصادها من خلال شبكات الضباط العاملين والمتقاعدين التي تتكوّن منها جمهورية الضباط.
غير أن المجلس العسكري وجد صعوبة جمة في تقديم رؤية اجتماعية أو برنامج اقتصادي أو خطة سياسية متكاملة للعملية الانتقالية، وتعثّر مرارًا حين حاول أن يصوغ تحديدًا واضحًا لمصالحه أو أن يبتكر صيغًا دستورية لحمايتها.
لم يكن المجلس رافضًا تمامًا للسماح بحدوث انفتاح سياسي وإعلامي، كما لم يكن قادرًا بشكلٍ كامل على التنبّؤ به أو الحيلولة دون حدوثه، لكنه كان أيضًا عاجزًا عن تصوّر أية سياسة تتطلّب إصلاحًا جوهريًا أو تغييرًا هيكليًا إذ يعتبر أن ذلك ينطوي بالضرورة على تهديد ضمني له، فكيف به أن يشرع بمثل هذه السياسة.
بل على العكس تمامًا، عندما وجد المجلس العسكري نفسه في مواجهة عملية انتقالية غير مألوفة ومقلقة، لجأ إلى قيمه الأبوية وإرثه السلطوي، فاتخذ المواقف المتحفّظة والدفاعية أكثر فأكثر كلما شعر بوجود تحدٍّ مباشر لمكانته أو مصالحه الأساسية، وهذا يفسّر الكثير من ارتباكه وتردّده وتغييره المتكرر للمسار طيلة تعامله مع العملية الانتقالية.
ولعلّ ما سبق يفسر سلسلة المحاولات التي قام بها المجلس العسكري لتحويل السلطات التي تولاها في فبراير 2011 إلى مبادئ “فوق دستورية” من شأنها إضفاء الطابع المؤسّسي الثابت على امتيازاته وحصانته ضمن ترتيبات رسمية، ووضعها بشكل دائم فوق الدولة المصرية.
كانت آخر هذه المحاولات الإعلان الدستوري المكمّل الذي أصدره المجلس العسكري في 17 حزيران/يونيو 2012، بهذه الخطوة، أعلن المجلس عن نيته الانتقال إلى الموقع القيادي الأول. في ظاهر الأمر، فإن السلطات المُطلَقة التي أسبغها المجلس العسكري على نفسه صالحة فقط إلى أن يُصاغ دستور جديد يحدِّد صلاحيات الرئاسة والبرلمان ويسمح بإجراء انتخابات عامة جديدة، لكن عمليًا،
رتّب المجلس العسكري “المجالات المحجوزة” التي يسعى إلى تكريسها كصلاحيات واستثناءات دائمة في الدستور الجديد، وقد وضع المجلس نفسه في منزلة بارزة تمكّنه من فرض الشروط، وخصوصًا عبر تمكين نفسه من طلب إعادة صياغة المواد الدستورية التي يعترض عليها، وجعْل انتخاب برلمان جديد يتوقّف على إقرار الدستور الجديد.
وجاء الإعلان الدستوري المكمّل على الفور في أعقاب القرار الذي اتخذته المحكمة الدستورية العليا – التي يرأسها قاضٍ عسكري سابق عيّنه مبارك في العام 2009 – باعتبار انتخاب ثلث أعضاء البرلمان غير قانوني وقانون الانتخابات الجديد الصادر في أكتوبر 2011 غير دستوري. على ذلك، أصدر المجلس العسكري مرسومًا إضافيًا أمَرَ بحلّ البرلمان برمّته، وبذلك ألغى الإعلانان الصادران عن المجلس العسكري كل شيء أُنجِز تقريبًا خلال الأشهر الستة عشر السابقة من المرحلة الانتقالية.
وهكذا، فرض فعليًا المجلس العسكري من جانب واحد مرحلة انتقالية ثانية، من دون التشاور مع الأحزاب السياسية ومرشّحي الرئاسة كما فعل في الماضي. وحدها الانتخابات الرئاسية جرت وفقًا للإجراءات والجدول الزمني اللذين حدّدهما المجلس العسكري في 30 يناير 2012.
وبعد يوم من نشر الإعلان الدستوري المُكمِّل، أعلن المجلس العسكري إعادة تشكيل مجلس الدفاع الوطني، الذي كان قد أحياه قبل أربعة أيام، وأصدر القواعد والإجراءات التي تحكم عضويته. كان مجلس الدفاع حتى ذلك الحين غير فاعل، فقد أنشئ أصلًا في عهد عبد الناصر ثم أُسِّس رسميًا في دستور العام 1971 كأداة للسلطة الرئاسية،
لكن لم يصدر قانون يحدّد نظامه الأساسي، ونادرًا ما اجتمع أو مارس أي سلطة واضحة، ويسعى المجلس العسكري الآن إلى تحويل مجلس الدفاع إلى آليّة مؤسّسية يمكنه من خلالها ضمان استقلاله الدائم عن السيطرة المدنية، وفي الوقت نفسه ممارسة الرقابة والتدخّل، وفقًا لتقديره، في مجالات السياسة المدنية.
طبقًا للدستور، يترأّس رئيس الجمهورية مجلس الدفاع الوطني، لكن المجلس العسكري حشد كل الظروف ضدّه بإعلانه أن المجلس سيتكوّن من 16 إلى 17 عضوًا، منهم 10 إلى 12 من صفوف المجلس العسكري، وقرّر كذلك أن مجلس الدفاع لا ينعقد أو يتّخذ قرارات إلا بحضور أغلبية أعضائه. هكذا، فإن مجلسًا عسكريًا مصغّرًا سيقود فعليًا الدولة المصرية بشكل دائم.
وتأكيدًا على استقلاليته وحرمان مرسي بشكل استباقي من سلطاته أكثر من ذلك، أعلن المجلس العسكري تاليًا أنه عيّن جنرالًا مديرًا للرئاسة، ثم أكّد المجلس أن رئيسه طنطاوي سيحتفظ بمنصب وزير الدفاع في الحكومة القادمة وبصلاحيات القائد العام للقوات المسلحة المصرية، وبذلك قنّن المجلس العسكرى الوصاية على حكم مصر.