(2) حول اتفاقية سيناء
.....
..
وعلى أساس المنطق الإقليمى فإننى أجازف وأقول بما يلى:
" أقول إن مصر دخلت إلى ساحة الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى - ليس دفاعاً عن شعب فلسطين فقط وإنما قبل ذلك كله دفاعاً عن شعب مصر وأمنه ومصالحه".
إن الحركة التاريخية لمصر كانت تتوجه دائماً - إستراتيجياً وحضارياً - نحو المشرق وقد حدث ذلك فى كل عصور التاريخ المصرى: العصر الفرعونى والعصر الإسلامى والعصر الحديث: من تحتمس ورمسيس، إلى صلاح الدين والظاهر بيبرس، إلى محمد على وجمال عبد الناصر.
إن توجه مصر نحو الشرق لم يكن اختراعاً جرى العثور عليه بعد ثورة 23 يوليو، وإنما ذلك التوجه حركة تاريخية بعيدة استوجبها الأمن المصرى والمصلحة المصرية.
وربما كان أصدق تعبير عن هذه الحركة، وهو تعبير لم يكن مصرياً ولا عربياً لأن صاحبه هو الكولونيل سيف الفرنسى الذى أصبح اسمه سليمان باشا الفرنساوى... الرجل الذى اختاره محمد على رئيساً لأركان حرب جيوشه المصرية، وكان تعبيره بالنص هو:
- إن الدفاع عن مصر لا يمكن تأمينه إلا شمال حلب، وعلى العموم فإن الشام هى المفتاح لمصر".
وربما من هذه العقيدة الإستراتيجية المؤكدة تاريخياً والمحققة علمياً أن فلسطين على وجه التحديد احتلت دائماً مكاناً خاصاً بالنسبة لمصر، وفى عصور متعددة كانت فلسطين جزءاً من مصر أو تحت إدارة مصرية أو حليفاً لمصر لسبب أساسى ظاهر هو أنها كانت طريق مصر وجسرها فى حركتها التاريخية نحو المشرق.
وتأخذنا حوادث اليوم عن حوادث الأمس فننسى أحياناً.
ننسى أن الفكرة الصهيونية الأولى فى بداية القرن التاسع عشر لم تكن موجهة إلى فلسطين لذاتها، وإنما كانت موجهة لفلسطين من أجل مصر... أو على الأقل فإن صهيونية القرن التاسع عشر استغلت مخاوف الغرب من مصر بعد ظاهرة محمد على لكى تعزز مطالبها فى فلسطين.
اختار محمد على - كما تختار مصر عادة فى عهود قوتها - طريق المشرق وخرج إلى الشام يدق بعنف أبواب الإمبراطورية العثمانية المتهالكة التى كان الغرب ينتظر تقسيم أملاكها خصوصاً فى الشرق الأوسط.
وتكالب الغرب كله على محمد على يمنعه من تحقيق انتصاره لأنه قد ينشىء دولة قوية فى الشرق تجعل الإرث المنتظر من وفاة الإمبراطورية العثمانية سراباً ضائعاً ينجلى فإذا وراءه قوة مشرقية ضخمة.
وهُزم محمد على...
وكان "بالمرستون" رئيس وزراء بريطانيا فى ذلك الوقت هو قائد التحالف الغربى الذى ساعد على هزيمته.
وكان "بالمرستون" هو الذى جلس يستمع باهتمام إلى مشروعات الرواد الأول للحركة الصهيونية، وبينهم أسرة روتشيلد.
وتقول الوثائق البريطانية، وتنقل عنها معظم كتب تاريخ القرن التاسع عشر - أن روتشيلد طرح على بالمرستون شفاهة وكتابة مشروعه الذى عرضه كما يلى:
" إن مصر هى البقعة الوحيدة فى الشرق الأدنى التى تستطيع بناء دولة حديثة لأن أساس الأمة الدولة موجود فيها من أقدم العصور.
وعندما تقوى مصر وتملك إرادتها، فإنها تنجذب طبيعياً وتاريخياً إلى المشرق، وهذا يجعل من قوتها خطراً داهماً على كل الذين يطمحون إلى السيطرة عليه.
ولقد أثبتت تجربة محمد على حقيقة هذا الخطر، ولهذا فإنه من الضرورى حجز (بالنص حجز) مصر عن المشرق، والوسيلة الوحيدة لحجز مصر عن المشرق هى العمل على إنشاء دولة يهودية فى فلسطين تقفل على مصر طريقها وجسرها إلى الشام ".
واقتنع بالمرستون بالفكرة وتحولت الفكرة إلى خطة، وباشرت بريطانيا منذ ذلك الوقت ضغوطها على الباب العالى من أجل فتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
هكذا كان الهدف "حجز" مصر قبل خطف فلسطين.
لكننا أحياناً ننسى التاريخ.
لا ننسى التاريخ فقط، ولكننا ننسى الحاضر أيضاً.
ننسى الحقائق السياسية الجغرافية وننسى التعبيرات المعلن عنها تطالع عيوننا وتقرع آذاننا.
ننسى كلام دافيد بن جوريون حين يقول فى الخمسينات:
- لقد بدأت على هذه الأرض كبقع... مستعمرات متناثرة.
ثم جمعنا البقع وحولناها إلى رأس جسر متماسك على شرق البحر الأبيض.
وعلينا أن نتوسع باستمرار لنضمن الأمن والازدهار لرأس الجسر، وأمامنا المسافة الممتدة ما بين الفرات والنيل نتمدد عليها باستمرار كلما أتيحت لنا ظروف ملائمة".
ثم لماذا العودة إلى القرن التاسع عشر أو إلى النصف الأول من القرن العشرين.
أمامنا اليوم... اليوم بالذات دليل.
هل حصلنا من إسرائيل بواسطة كيسنجر على تعهد بالانسحاب حتى من حدود مصر الدولية؟
لا أظن!
وإذا كان هناك شىء لا أعلمه، وهذا جائز، فكيف يمكن التوفيق بينه وبين هذا العمل المستمر والبناء والإنشاء شرقى الخط الممتد من العريش إلى رأس محمد وبالذات فى رفح - مشروع ميناء يميت الذى يدخل مرحلة جديدة هذا الشهر أكتوبر 1975 - إلى جانب ما يجرى فى شرم الشيخ!
ثم ما يجرى فى الضفة الغربية وقطاع غزة.
البقع المتناثرة من المستعمرات تحولت إلى رأس جسر.
ورأس الجسر يتمدد باستمرار فى اتجاه الفرات والنيل.
الحاجز بين مصر والمشرق يتسع... ويقوى!
كيف يقوى هذا الحاجز؟
النوايا لا تتبرقع!
فى أول جلسة من جلسات لجنة الهدنة بعد عقدها فى رودس سنة 1949 قال رئيس الوفد الإسرائيلى فيها لرئيس الوفد المصرى، وهو بنفسه السيد محمود رياض الذى أصبح فيما بعد نائباً لرئيس الوزراء فى مصر ووزيراً للخارجية، وهو الآن أمين عام الجامعة العربية - قال له بالحرف الواحد:
- لا أعرف لماذا تقاتلنا... إننا نستطيع تحقيق تكامل مفيد لكلانا: لديكم المواد الخام ولدينا الخبرة لتصنيعها... إن إسرائيل مهيأة لتكون مصدر الخبرة التكنولوجية للمنطقة وقاعدة الصناعة فيها".
|