تعدّ انتفاضة الأقصى، أو الانتفاضة الثانية، حالة معقدة للغايةبالنسبة للجيش الإسرائيلي، ويمكن تلخيص آثارها وتبعاتها على بنية الجيش ومعنوياته،وإفشال مخططات الاحتلال التوسعية والأمنية والسياسية والاقتصادية، وعدم تمكينه منتحقيق أي منها في الكثير من الشواهد والمعطيات.
لكنبداية الانتفاضة شهدت صدور تقديرات أمنية متناقضة عن الجهات الأمنية المختلفةالتابعة للجيش:
أكدتشعبة الاستخبارات في تقديراتها أن ياسر عرفات "يسيطر على حجم اللهيب"،ويوفر الدعم للمنظمات، ويتحكم في الوضع، ويستطيع السيطرة على مجريات الأمور، بما فيهاوقف "العنف".
فيماتحدث جهاز الشاباك أن عرفات "فوجئ من الانتفاضة، وحاول السيطرة عليها، ثمانضم إليها عندما أدرك أن الأحداث أكبر من قدرته، وساد الاعتقاد بأنه ضعف، وهناكعلامات انهيار في السلطة، ويقولون: "لا يسيطر على النيران، وسيدفع الثمن لوقفالعنف، وفي هذه الأثناء لا يفعل شيئا"، و"لا يسيطر على ما يجري علىالأرض، ولا يعلم بالتفاصيل".
مع مرور الوقت، صدرت تقديرات أمنية عسكرية للانتفاضة من أقطابالمؤسسة العسكرية والاستخبارات الذين عرضوا توقعات قاتمة، برزت منها أقوال رئيسالاستخبارات العسكرية "عاموس مالكا" ومسؤول الملف السياسي في وزارةالدفاع "عاموس غلعاد"، اللذين حذرا من تزايد احتمالات اشتعال حرب فيالمنطقة.
فيما تكهن "موفاز" باستمرار النزاع مع الفلسطينيين لفترةطويلة، إلى جانب رئيس الموساد السابق "أفرايم هاليفي"، الذي اعتبر"أن الصراع الذي تخوضه "إسرائيل" وما زال مستمرا، يدور حول وجودها،وليس حول حدودها فحسب".
وهكذا جاء اندلاع الانتفاضة بصدمة عنيفة لصناع القرار العسكري، وطفتعلى السطح أسئلة عديدة:
هلجاء اشتعالها عمديا أم لا، وإلى أي حد؟
هل كان لأمر جلل كهذا أن يحدث عاجلا أم آجلا، وفي أي حدث؟
هل كان بمقدورنا، أم وجب علينا توقعه؟
مهما كان دور السلطة الفلسطينية في إثارتها، ماذا كان موقفها منذ ذلكالحين؟ وما هو مدى السيطرة الفعلية التي تمارسها قيادتها، وعرفات شخصيا؟ هل تملكإستراتيجية أو خطة فعلا؟
وبالتالي كان واضحا مدى الارتباك الذي اكتنف الرؤية الأمنية الإسرائيليةللوضع على الجبهة الفلسطينية، ومع أن هناك اتفاقا على محاربة الانتفاضة،والاستمرار في العدوان على الشعب والأرض، إلا أنه لا أحد في "إسرائيل"يستطيع التنبؤ متى يمكن أن تنتهي المواجهة، والقناعة الراسخة الآن أنه لا يوجد حلعسكري للصراع، وأن كافة أشكال الضغوط والممارسات لا يمكنها أن تخلق لدىالفلسطينيين من يخضع ويتنازل تحت الضغط.
ومنذاندلاع الانتفاضة، تبين أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تخبطت في فهم أسبابهاوأبعادها، وبرز الضعف الاستخباري في أجهزة الأمن، بعد أن اعتبر مسؤولوها أن حربامحدودة تدور رحاها في المناطق، وأنها ليست اضطرابات عنيفة أو إطلاق نار عشوائي.
وتعزيزالتقديرات أجهزة الاستخبارات العسكرية، أعلن الجنرال "موشي يعلون"، نائبرئيس الأركان، أن "إسرائيل" لم تخض معركة أهم مما تخوضه ضد الفلسطينيينمنذ حرب 1948، وهي النصف الثاني لتلك الحرب".
وضمنهذا البعد الجوهري ذاته المتعلق بالصراع بين الاحتلال والشعب المنتفض من أجلالخلاص من الاحتلال، والمتعلق بقدرة الاحتمال والاستمرار، أكد الجنرال احتياط"عامي أيالون" أن الفلسطينيين أسهل عليهم أكثر أن يتحملوا، بينما نحنالإسرائيليين نعاني من اليأس والإحباط والمتاهة.
وأضاف"داني روبنشتاين"، مراسل هآرتس للشؤون العربية: "لا مؤشرات على تعبفي أوساط الفلسطينيين، بل العكس هو الملموس، فهم يستطيعون الصمود ومواصلةالانتفاضة لفترة طويلة".
لقدعانى المجتمع الإسرائيلي خلال انتفاضة الأقصى من تدهور وضعه الاقتصادي، الذي شهدازدهارا كبيرا قبل الانتفاضة، فتعطّلت السياحة تقريبا، وهي تمثل ثاني مصدر للدخل،وشكلت أعوام الانتفاضة الأسوأ من الناحية الاقتصادية منذ خمسين عاما.
فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1%، وارتفعت نسبة البطالةإلى 10.5%، وارتفع عدد الإسرائيليين تحت خط الفقر إلى 20%، نحو مليون و200 ألف،وانخفض المعدل السنوي لإنتاج الفرد بثلاثة آلاف دولار، من 18600 إلى15600 دولار.
وحسب تقرير القسم الاقتصادي في اتحاد "لاهاف"، أغلق نحوخمسين ألف متجر، وتوقفت عشرات الآلاف من المشاريع التجارية والمتوسطة، وحسب بعضالتقديرات، بلغ مجموع الخسائر الاقتصادية الإسرائيلية خلال السنتين الأوليينللانتفاضة نحو 8 مليارات دولار، بمعدل 11 مليون دولار يوميا!
وقدرت التقارير الأمنية للخسائر الإسرائيلية أعداد القتلى والجرحىبين عامي 2000-2006 بـ1100 قتيل، و6000 جريح، وبلغ مجموع ما ينفق على الأمن عام2004 ما يقرب من 9.5 مليار دولار، ومجموع من خرج للسياحة خارج البلاد أثناءالانتفاضة 360 ألف إسرائيلي، أكثرهم خوفا من العمليات الاستشهادية.
اضطرت الانتفاضة رئيس الوزراء الراحل "أريئيل شارون"للتراجع عن مواقفه بإقامة "مناطق عازلة" ظل يرفضها مرارا، بعد فشل جميعالوسائل العسكرية التي استخدمها من دبابات وطائرات واغتيالات وحصار وإغلاق واحتلاللمناطق "أ" بتوفير الأمن للإسرائيليين، فشارون ظل يعارض مبدأ الفصل"الجيوسياسي" بين الأراضي الفلسطينية و"إسرائيل".
لكن شارون بعد عملية "السور الواقي" عاد واضطر لتكرارالدعوة لما كان قد أعلنه بعد عام من توليه الحكم، في فبراير/ شباط 2002، حين أعلنأن المجلس الوزاري المصغر قرر إقامة "مناطق عازلة"، رغم تغليفها بالغموض،وعدم تحديد مواقعها وطولها أو عرضها، ولم يتطرق لمصير بقية الأراضي الفلسطينيةوسبل فصل المستوطنات عن محيطها، ويمكن القول إنه شعر بالفشل في جلب الأمنللإسرائيليين عن طريق القوة، لكنه بدأ في الوقت ذاته بتكثيف استعمال القوة؛ لأنهلا يملك وسيلة فعل أخرى.
أخيرا.. جاء الاعتراف الإسرائيلي بصمود الفلسطينيين خلال سنواتانتفاضة الأقصى على لسان "أوري أفنيري"، الرئيس السابق لحركة السلام،الذي أكد أن "الجيش لم يستطع إطفاء شعلة الانتفاضة، وحاول استخدام كلالوسائل: المروحيات، والدبابات، والمدافع، والتصفيات، وتدمير أحياء، وإغلاق، وحصار،وهدم بيوت، واقتلاع أشجار، إلا أن الفلسطينيين يواصلون الصمود والقتال بلا توقف،ولم يعد هناك مجال لضربة إسرائيلية قاضية؛ لأن الفلسطينيين شعب لا يكسر".
مزيد من التفاصيل