مجوهرات اولاد الشوارع
هل تستطيع تبرعات رجال الاعمال إطفاء حريق الشوري أو منع تساقط الصخور علي رؤوس فقراء الدويقة
كلماتي دائماً بحجم مشاعري.. ومشاغلي.. وطفولتي تظل سر شخصيتي.. وربما سر جرأتي.. وأحياناً تهوري.. وقد خسرت كثيرا بسبب ضعف موهبتي في التمثيل.. ورفضي المستمر ارتداء ملابس المهرجين.. وطلاء عواطفي بألف لون ولون.. والقبول بدور أنا غير مقتنع به
كنت في سيارة تخترق طريقا سريعا يوشك علي الاقتراب من مدينة جوهانسبرج ــ أشهر مدن جنوب افريقيا ــ لحظة أن طلبت من سائقها التوقف للفرجة علي بقايا مناجم الماس الظاهرة في شكل جبال عالية من التراب الأسمر الناتج عن الحفر في الأعماق.. وهي مغامرة تكلف من يسعي إليها حياته في بلد يسرقون فيه الكحل من العين.. لكنني رغم كل التحذيرات.. أقدمت.
لم أكد أقترب من المكان حتي انشقت الأرض وخرج من بطنها ثلاثة شبان شهروا أسلحتهم البيضاء التي تشبه الخناجر الرفيعة المسمومة في وجهي طالبين كل ما في جيوبي من مال.. وإلا كان الثمن حياتي.. ولولا أن أخرج السائق اليقظ بندقية الصيد التي يضعها بجانبه في سيارته وأطلق خرطوشا مدويا في الهواء كان خنجر واحد علي الأقل قد استقر في صدري أو بطني أو رقبتي.
المثير للدهشة أنني دعيت في اليوم نفسه للفرجة علي أكبر معرض للمجوهرات المصنوعة من الماس المستخرج من جنوب افريقيا صاغتها بيوت فرنسية وإيطالية وسويسرية شهيرة في الذوق مثل كارتييه وشوبار وهاري وينستون.. وكان المعرض في ضاحية سياحية شهيرة تسمي"صن سيتي".. أو مدينة الشمس.. صوروا فيها مشاهد من فيلم"أفريكانو".
صرفت نظري عن المعروضات الثمينة.. ورحت أتفحص الوجوه السمينة.. المربربة.. الملظلظة.. فتأمل الناس عندي أغلي من الفرجة علي الماس.. الماس لا يزيد في عيني علي كونه قطع بلهاء من الزجاج.. مع عظيم الاحترام لمن ينحنون له.. ويقدسونه.
نجوم سياسة ومال ومجتمع وموسيقي وصحافة.. كل منهم يعبر بثقة زائدة عن الأقلية الثرية والشريحة الأرستقراطية التي تملك.. وتحكم.. وتهيمن.. وتسيطر.. وتنهب.. وتمص دماء الأغلبية الساحقة الغاضبة التي تموت من الأنيميا.. والكوليرا.. والمالاريا.. والنحافة.. والاختناق في المناجم التي تستخرج الماس من عروقه الخفية.. النادرة.. كي يتاجر فيه رجال تلك الطبقة.. وتتباهي به نساؤهم.. وبناتهم.. وعشيقاتهم.. وتبرق وتتألق و«تلعلع» به ثرواتهم.
وفي الوقت نفسه لا يترك عمال المناجم المعدمون لأبنائهم الممصوصين سوي الإيدز.. والعنف.. والذبح.. والسجن.. والتشرد.. ومنهم بالقطع الذين شهروا خناجرهم في صدري.. وكادوا يقتلونني ولو كان في جيبي حفنة قليلة من الدولارات لا تزيد علي ثمن زجاجة من الخمر الرخيص.
بعد سنوات طويلة من تلك الذكريات تساءلت : هل أصبحت مصر مثل جنوب افريقيا؟ أم أنها علي نفس الطريق؟.
في مايو الماضي جاءت إلي القاهرة شركة مجوهرات سويسرية تسمي"دي جريزيجونو".. يمتلكها ملياردير يدعي"فوازي جريزيجونو"وزوجته"كريستيان شفنفيل".. صاحبة ساعات"شوبار"المعروفة.
جاءت الشركة إلي فندق سوفتيل المطل علي نيل القاهرة وهي محملة بقطع نادرة وغالية من مشغولاتها التي تخطف عيون وقلوب وعقول النساء.. وتجبر الرجال علي تحرير الشيكات دون النظر لعدد الأرقام.. ولو بدون رصيد.
جاءت الشركة برعاية وكيلها فلوبتير.. ولكن بحماس من رجل الأعمال الشهير نجيب ساويرس الذي قرر غلق مكان في الفندق عليه وعلي ضيوفه كي تباع قطع المجوهرات بالمزاد العلني والخيري لصالح أطفال الشوارع الذين تتبناهم السيدة يسرية لوزة.. ومنعت كاميرات المصورين.. وعيون المتطفلين.. وملاحقة الصحفيين.
حضرت زوجات لرجال أعمال وبناتهم.. وقامت ممثلة تسمي أروي بعرض المجوهرات بخبرة تحسد عليها.. وقدمت يسرا أغلي قطعة في المجموعة وهي تحث المدعوين علي زيادة السعر.. فيكفي أنها تعرضها.. وراحت الأرقام تتصاعد.. وتفور.. وتتنافس.. وتقفز علي بعضها البعض.. وتحطم بعضها البعض.. وركب كل سيدة من الحضور أكثر من عفريت كي تحصل علي قطعة من القطع المعروضة وإلا شعرت أنها فقدت قيمتها.. وهيبتها.. ومكانتها.. وقوتها.. وأهميتها.
ويبدو أن الشركة الأجنبية فوجئت بثراء تلك الشريحة الرفيعة من النساء في مصر إلي الحد الذي جعل صاحبها يقول إن ما كسبه في ساعات قليلة لا يقل عما يكسبه عادة في إمارة أو مشيخة تتفجر بالنفط.. ولابد أن الرجل تعجب وهو يري ملايين الجنيهات تنهال عليه بسهولة باسم أطفال الشوارع الذين لم يعرفوا بأمر المزاد الذي كان من أجلهم وهم يقفون في مفترق الطرق يبيعون مناديل الورق التي لا يستخدمونها.. والبالونات الملونة التي لا ينفخونها.
قبل أقل من شهرين قررت الشركة أن تكرر التجربة.. لكن.. دون مزاد.. أو سهرة.. أو أطفال شوارع.. جاءت في يوليو التالي وحجزت مطعم الفندوم الذي يقدم الطعام الفرنسي في نفس الفندق وأغلقته علي ضيوفها دون أن تنسي حق السرية والخصوصية الذي تتمتع به شخصيات شهيرة وثرية ومؤثرة في المجتمع فرتبت لها مواعيد خاصة في أجنحة الفندق كي تتفرج علي مجموعات المجوهرات علي راحتها.. ولاحظت مندوبة الشركة أن الغالبية تدفع الثمن.."كاش".. لكنها لم تعرف : هل هي عمليات غسل أموال؟ أم خوف من الحسد وكشف المستور؟.
ولابد أن هناك من دفع نحو 50 مليون جنيه في صورة مهر مذهل.. وشبكة من الماس وشقة في أغلي مكان.. ومؤخر طلاق لم يكتب من قبل.. دون أن يستمر الزواج سوي شهور قليلة.. فكم تساوي القبلة الواحدة والليلة الواحدة والنومة الواحدة؟.. إن ثمن حضن واحد بارد وممل من تلك العينة يمكن أن يسدد تكاليف زواج مئة شاب وفتاة يبحثون عن جدران صغيرة ضيقة تأويهم.
وهناك من دفع أكثر من 200 مليون جنيه في علاقة سرية انتهت بورطة جنائية وفضيحة اجتماعية دون أن يصدق أحد أن هناك من يحمل كل هذه السذاجة خارج بارعته في البيزنس وتكوين المليارات بنفس السهولة التي تنفس بها. وهناك امرأة أسطورة تزوجت عدداً من رجال البيزنس يكفون لتكوين جمعية من جمعيات الأعمال ونجحت في اصطياد تخصصات مختلفة.. من المقاولات إلي السياحة.. ومن الصرافة إلي التجارة.. وكان متوسط زواجها ثلاثة أشهر.. ومتوسط أرباح نهاية المدة ثلاثة ملايين جنيه.. ولم تنس أن تتزوج من داعية شهير علي سبيل التغيير.
إن هذا الطراز البدائي والعشوائي من البيزنس ولد في حضن الحكومة ورضع من حليبها في أسوأ تحالف شهدته مصر بين الثروة والسلطة.. وهو تحالف يفسد كل من يلمسه.. في لعنة ننفرد بها في مصر.
وعندما تعيش الرأسمالية علي عفن الفساد فإن كل شيء يكون مباحاً.. ولا نجني من ورائها سوي كل العيوب والآثام.. لا نجني من ورائها سوي الأمراض التي أصبحت سمة من سماتنا المصرية.
الإهمال الذي تكبر أعراضه يوما بعد يوم.. فحادث السيارة ينقلب إلي تصادم قطارين.. وانهيار عمارة في الإسكندرية يصبح وباء يجتاح العمارات.. وقبل أن تهدأ رائحة حريق مجلس الشوري تسقط صخرة الدويقة علي رءوس عشرات الغلابة.
والعنف الذي أصبح طبيعة سائدة تحول إلي جريمة منظمة.. عصابات تخطف حقائب النساء.. ومجموعات شرسة تسرق محلات الذهب في عز الظهر.. ومافيا متعددة الجنسيات تخطف سياحا وتطلب فدية بملايين الدولارات حسب سعر الصرف في ظل الأزمة المالية الحادة التي يعاني منها الغرب.
والتشهير بالشخصيات السياسية المؤثرة في مصر والتنكيت عليها والدأب علي تحطيمها نفسيا وقتلها معنويا فلم يعد أحد يري شخصا، محترما.. أو كبيرا.. خاصة أن غالبية الكبار تصرفوا علي طريقة الصغار.
أما الحقيقة السخيفة فهي أن الذين غرفوا المليارات أصيبت قلوبهم فجأة بالرحمة فمدوا موائد الرحمن.. ووزعوا أكياس تموين رمضان.. وساهموا في بنك الطعام.. وتبرعوا لمؤسسات الزكاة.. وساحت دموعهم علي مستشفيات الأطفال.. وغيرها من مظاهر التسول التي باتت لصيقة بنا.. دون أن يتذكر أولئك المليارديرات أنهم يشفطون البحر ويتبرعون بقطرات منه.. يأكلونا اللحم ويلقون بالعظم.. دون أن يستوعبوا أنهم يأخذون حقوقنا ويشربون دماءنا ويجنون علي مستقبل أولادنا.. حتي لو أقاموا المزادات الخيرية لرعاية قلة منهم.. فلا يمكن الحصول علي بركة الله لمن يدفع أكثر في كباريه.. ألاأونا.. ألا دوا.. ألا تريا.
https://www.elfagr.org/TestAjaxNews.a...588&secid=2775