الإنسانية فوق كل شيء

[المستشار الصحفى]

الصحف المصرية والعربية

الإيمان بالإنسانية صورة راقية من صور المروءة والخلق النبيل، فهي في نظر العقلاء والأكياس فوق كل شيء، ومن يقدرونها ويعظمون مكانتها أناس متحضرون، وقمم سامقة تعتز بهم الدنيا، ويزين وجودهم عالم البشر، الذي أوشك أن تنعدم فيه معنى الإنسانية.

إنهم يعظمونها في صدورهم، ويرون لها مكانة عالية في نفوسهم، ويؤمنون إيمانًا جازمًا ويؤكدون أنها لا دخل لها ولا ترتبط ألبته، بما يعترض الانسان كل يوم من حوادث العداء والخصام والبغض والتحدي والمنافسة والصراع بينه وبين غيره من بني البشر.. فلتعادِ من شئت، ولتخاصم من شئت، ولتنافس من شئت، ولتبغض حتى من شئت، لكن تبقى الإنسانية هي الإنسانية.. قائمة شامخة عظيمة تحتل مكانتها من نفسك، ومساحتها من قلبك، فمهما جار عليك الناس، ومهما ظلمك الظالمون، لا يجوز أبدًا أن تنسى إنسانيتك، وتعامل بها كل من حولك، حتى الذين آذوك وأساؤوا إليك.
كثير ما أختلف مع بعض الأشخاص الذين يباينون فكري وتوجهي ومسلماتي وإيماني، وقد لا أخفيك معترفًا أن هذا الخلاف أو الاختلاف، قد يقود أحيانًا للكره والبغض، لكنني لا يسعني إلا أن أنحني لهم حينما أدرك تقديسهم للإنسانية، ويبلغني عنهم موقفًا أعلوا فيه من معانيها وقيمها، طارحين خلف ظهورهم ما تلمسوه من عداء وبغض وخصام.
بل لا أرى حرجًا لو خرجت على الدنيا كلها لأكتب عنهم بقلمي، وأشيد بأخلاقهم وأدبهم ورحمتهم وسموهم، حينما علمونا معنى الشرف، ومعنى المروءة، ومعنى الرجولة الحقة.
والحق أن الدكتور (طه حسين) يُعجبني كثيرًا في هذا الميدان، ولا نخالف الحقيقة لو قلنا: إن الرجل كان إنسانًا بكل المقاييس، وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معان.. كان يبسط يده بالبر والخير لكل الناس وأولهم أعداءه وخصومه.. كان دائمًا ما يثبت حضوره في قائمة المروءة، ولائحة الإنسانية، ليكون أول الأسماء البارزة فيها، والحريصة أن تنال شرفها وسؤددها.
ربما أتيح للرجل أن يتشفى في خصومه، أو أن ينتقم منهم، لكنه أبدًا كان عاليًا راقيًا سمحًا شهمًا عظيمًا رجلاً.
أرأيت ما فعله فيه الرافعي، وكيف كال له السباب والقذف العنيف فيما جرى بينهما من معارك أدبية؟ أرأيت ما سجله عليه في كتابه (تحت راية القرآن)؟ إن كنت لا تدري.. فاذهب هناك لترى كيف سلخة وجزره، هل تتوقع بعد ما تعرفه من هذا السباب، أن يكون في قلب طه حسين بعض لطف أو بصيص من رقة تجاه الرافعي؟ ذلك الرجل الحاد العنيف لقد رماه بالسفه والحماقة وتخلف الذهن والإلحاد والتحذلق والجهل والكفر والاستهزاء بالأديان، وغير ذلك من التهم العتية التي مازالت تحفظها كتبه.
وأمام هذا كله، يبتسم طه ولا يغضب، بل حدث ما هو أروع وأعجب، مما يدلل على سمو الرجل وسماحة نفسه، فحينما انتقل الرافعي لرحمة الله، كان طه وقتها عميدًا لكلية الآداب، وكانت إحدى بنات الرافعي طالبة بهذه الكلية، وعجزت عن دفع المصروفات، فعرف طه حسين ذلك، وطلب من اللجنة المختصة أن تمنح بنت الرافعي المجانية، وأنه على استعداد لدفع المصروفات من جيبه الخاص.! فعل هذا، رغم شراسة أبيها وعدوانه عليه.!
ثم انظر لهذا الرافعي المقاتل حينما مات ورحل عن الحياة، وقد خلف وراءه كثيرًا من العداءات والخصوم.. لقد اهتزت بلدان الإسلام كلها لموته، لكن خصومه الكثر لم يتقدم منهم أحد بكلمة عزاء لأهله، إلا رجلا واحدًا هو الدكتور طه حسين أشد خصوم الرافعي نبلا وشهامة.

مزيد من التفاصيل