جوجول.. ملك السخرية السوداء
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر رحل عن هذا العالم كاتب كبير مازال حيا بين ظهرانينا بروائعه الأدبية التي تأسر القارئ وترتحل به نحو عوالم أخرى يحفها الصدق الإنساني والتصوير الفني البليغ، نعم رحل عنا أديب روسيا الأول جوجول ربما امتعاضا وضجرا من قبح هذا العالم المصاب بداء التآكل الروحي, فقبل تسعة أيام فقط من وفاته "أهدى" لألسنة النار الملتهبة مسودة الجزء الثاني من روايته الشهيرة "النفوس الميتة" بعد إحساس عميق بخبث الواقع ومكره المقنع.
بطاقة عبور
ولد نيقولاي جوجول سنة 1809 من أسرة متواضعة عاصرت عهد الإقطاع القيصري الذي كان يعصف بروسيا وقتئذ، وكان والده مولعا بالمسرح والأدب ولذلك أراد أن يربي ابنه على هذا العشق الذي يستمد عنفوانه من "الإحساس العالي بمسؤولية الحرف وعذابه"، فأرسله إلى مدرسة "بولتافا" ثم إلى كلية الآداب في مدينة نيجين التي قضى بها حوالي سبع سنوات ساعدته على قراءة روائع الأدب العالمي ونتاج السوق الثقافية الروسية آنئذ, وخلال هذه الفترة اشترك في تحرير المقالات لمجلة الكلية وإحياء الأنشطة الثقافية والمسرحية خصوصا لعبه لدور البطل في مسرحية "الجاهل" لـ "فوغيزين".
وقد كان من سوء حظ جوجول أو ربما حسن حظه أنه نشر عمله الأدبي الأول الذي كان قصيدة أو أسئلة عن مصير الإنسان في مجلة "النحلة الشمالية" في مدينة بتراسبورغ فقوبلت بالسخرية اللاذعة, الشيء الذي جعله يشتري نسخ القصيدة من المكتبات ويسلمها للنار كما سيفعل لاحقا قبيل مماته بأيام قليلة، غير أن هذا الحدث لم يكن إلا حافزا قويا يجعل حياة جوجول الأدبية (خلال عمره القصير البالغ ثلاثة وأربعين عاما) حافلة بالروائع التي هزت روسيا من أقصاها إلى أقصاها مؤكدة عمق موهبة هذا الكاتب, وأصالته وحبه لوطنه.
جوجول وبوشكين
لما انتهى شاعر روسيا الأول بوشكين من قراءة قصص جوجول "أمسيات قرب قرية ديكانكا" التي استلهمها من حكاية أمه وما تعرفه عن الأساطير الأوكرانية، كتب يقول "الآن انتهيت من قراءة قصص (أمسيات قرب قرية ديكانكا).. أمسيات أدهشتني، فيها الفرح الحقيقي والصدق دون تزمت أو تصنع.. أسلوبها شاعري، إنها لصفحات جديدة مشرقة في أدبنا".
ولقد جادت قريحة هذا الكاتب الفذ, بمجموعتين قصصيتين وهو لم ينه بعد ربيعه السادس بعد العشرين ليلج بعدئذ إلى عالم المسرح من بابه العريض عن طريق مسرحيته الآسرة "المفتش" عام 1834، والتي أعطاه بوشكين فكرتها مما يبرز وطد العلاقة الإبداعية بين العلمين الروسيين، وهذه المسرحية التي مازالت لحد كتابة هذه السطور تدور أحداثها حول الفساد الذي كان غائرا جدا في المجتمع الروسي والذي ينتج أسيادا وأقنانا تستلب منهم إنسانيتهم، وقد قدمت هذه المسرحية في أول عرض لها على خشبة المسرح الملكي في التاسع عشر من أبريل 1834، ويقال أن القيصر الذي تابع العرض هتف بعد انتهائه قائلا للجميع "ملومون وأنا أولهم".
وكثيرا ما أطلع جوجول صديقه بوشكين على جديد أعماله قبل نشرها وعندما قرأ عليه الفصول الأولى من روايته "النفوس الميتة" قال بوشكين ملتاعا "بالله، كم هي حزينة بلادنا!".
السخرية السوداء
لقد استأثرت رواية النفوس الميتة باهتمام فطاحلة الأدب الروسي فقد اعتبرها الناقد فاتسيريون بيلنسكي خطوة عظيمة, يبدو معها كل ما كتبه جوجول ضعيفا وشاحبا ذلك أنها ومسرحية المفتش يمكن اعتبارهما التجسيد الأكثر عمقا وجمالا ورصانة لإبداع هذا الفنان العظيم.
وهذه الروعة والجمالية الأخاذة التي صور بها جوجول بؤس الواقع الروسي وتناقضاته الصارخة جعلت ديستويفسكي يقول "كلنا خرجنا من معطف جوجول" فهذه الرواية أو "القصيدة النثرية" كما يصفها البعض تتطرق لقضية غريبة حيث يقوم بطل الرواية "تشيتشكوف" بشراء النفوس الميتة أثناء تحصيله للضرائب في ظل غيمة الإقطاع الحالكة التي كانت تلبد سماء روسيا القيصرية, وإن كانت هذه العملية في واقع الأمر إلا نافذة يجعلنا المبدع جوجول نطل من خلالها على هول الفساد الذي استشرى قويا في جميع ربوع البلاد...
وبذلك فالقارئ لهذه الرواية يشعر وكأنه يقوم بإيجاز مقاطع طولية وعرضية عميقة وسطحية لمجتمع منخور من الداخل والخارج موبوء بجميع الأمراض والعلل التي طالت النفوس الحية أيضا. وذلك لأن صاحبها انتهج أسلوبا بعيدا عن التعقيد موسوما بالسخرية المرة والبساطة التي ترقى فعلا بالعمل نحو الآفاق الشامخة, وهذه البساطة والسخرية التي تتخذ لونا سوداويا في كل الأحيان يصادفها المرء على امتداد مسيرته الإبداعية لتظهر بجلاء كبير في هذه الرواية المؤثرة, فهو لا يتخلى أبدا عن سخريته وفكاهته التي يقول عنها بلنسكي "بأن المرء يجب أن يكون غبيا جدا حتى لا يفهم فكاهته". ولنقرأ له وهو يعلق على استخدام الفرنسية لدى الطبقات الراقية في مجتمع روسيا القيصرية – كما هو الأمر لدينا الآن – في أحد مشاهد "النفوس الميتة"، "هذا المجتمع الذي يتكلم أفراده في جميع الساعات اليومية بالفرنسية حبا بوطنهم"!!
ولنتأمل سخريته التي تتعلق أعلى درجات المرارة وهو ينقل واقع التعليم آنئذ ".. كان المعلم يصيح: المواهب والمقدرة لا تهمني أبدا، إن السلوك وحده ما يهمني! وأنا أعطي أعلى درجة في جميع الدروس لمن لا يعرف كيف يكتب اسمه، ولكنه يعرف كيف يتصرف جيدا. وإني لأعطي الصفر لمن تظهر عليه الخفة والطيش، حتى ولو كان أذكى الجميع".. "وكان أيضا يحب أن يتحدث طويلا عن الهدوء الذي كان مخيما على صف سابق علم فيه, فقد كان سماع طنين طيران الذبابة فيه أمرا متوفرا، ولم يكن يشعر بوجود التلاميذ داخل الصف حتى ساعة قرع الجرس"!!.
الفساد ... الفساد
ويستمر هذا الناقد المجتمعي الساخر الذي لم تنجب روسيا مثله في كشف مهازل الاستبداد والفساد الذي كانت تسبح في بركه الراكدة شراذم المجتمع القيصري المنهوك القوى.. وكل هذا في رحاب ملحمته "النفوس الميتة" التي لم ترق بطبيعة الحال لإسناد ذوي المصالح والإقطاعيات وبهذا الصدد يقول "لربما أكون قد أغضبت بعض من يدعون الوطنية، الذين يقبعون قرب النار مهتمين بأعمالهم الصغيرة التافهة, ويزيدون ثرواتهم، ويبنون سعادتهم على حساب الآخرين، ولكن ما إن يقع حدث يسيء في رأيهم إلى الوطن. وما إن يصدر كتاب يعرض لحقائق قاسية, حتى يهتزوا ويجن جنونهم كالعناكب حين ترى ذبابة عالقة بخيوطها ويصيحون:
ما الفائدة من كشف هذه الأمور؟
إن هذا كله يتعلق بنا فقط.. وماذا سيقول الأجانب؟
إنهم سيكوّنون رأيا سيئا عنا.. يا للمصيبة! لقد انعدمت الوطنية" وعن صور النفاق الاجتماعي والتملق المقيتة الضاربة أطنابها في تربة روسية متعفنة يقدم لنا في هذه الرائعة الأدبية لوحة من التهكم الذكي يذكرنا مباشرة بالتهكم السقراطي "يجب أن نذكر بأننا إذا كنا متأخرين في روسيا عن الأجانب فقد سبقناهم كثيرا في سلوكنا مع أشباهنا، ولسوف يحيا الفرنسيون والألمان قرونا قبل أن يدركوا خصائصنا وميزاتنا, فهم سواء تحدثوا مع مليونير أم مع بائع سجائر يتخذون نفس الوضع ولو تملقوا الأول وجثوا عند أقدامه، أما نحن الروس، فلسنا كذلك، إذ أننا نعرف كيف نعدل من تعابيرنا حسب البيئة التي نكون فيها, فحديثنا مع ملاك في حوزته مئتيْ عبد غيره مع من يملك ثلاثمائة أو خمسمائة أو مليون" والواقع أن بوشكين لم يجانب الصواب حينما قال: "ليس ثمة كاتب مثل جوجول قد وهب المقدرة على وصف الحياة في وضعيتها وابتذالها، لقد صور بأسلوب ساخر حار تفاهة الإنسان، وصور الأشياء البسيطة التي تقتحمها العين ولا تلمحها، فجعلها مبارزة حية".
أهم أعماله
مسرحية: المفتش العام
مسرحية: خطوبة
مسرحية: بعد عرض مسرحية جديدة
رواية النفوس الميتة
المعطف (قصة قصيرة)
الأنف (قصة قصيرة)
شارع نيفسكي (قصة قصيرة)
الصورة (قصة قصيرة)
مذكرات مجنون (قصة قصيرة)
عربة (قصة قصيرة)
ملاكو أيام زمان (قصة قصيرة)
مات جوجول ونفي تورغنيف
"هل الجحود حالة مغربية، أو خاصية إنسانية؟" ولقاسم الأستاذ مصطفى القرشاوي هم البحث عن جواب لهذا السؤال المؤرق، ونجد من خلال وفاة جوجول في الحادي والعشرين من فبراير 1852 الجواب الهارب منا مثل ضوء محمد برادة، فعندما مات هذا المبدع الفذ لم يسمح لأي صحيفة بنشر نبأ وفاته وهذه هي قمة الجحود والإقصاء إلا أن تورغنيف أبى أن يمتثل لهذا الأمر السخيف فقال:
"مات جوجول
أي نفس روسية لا تحضرها
هاتان الكلمتان"
ليجازى بعدئذ بالنفي لأنه نشر النبأ، وبالرغم من ذلك فقد كانت روح جوجول الساخرة مرفرفة باستمرار في جميع الأنحاء الروسية بل في العالم أجمعه لما تنطوي عليه كتاباته من حس فني في التصوير وإبداع كاريكاتوري في التهكم الأسود من خبث الواقع وخذلانه، مات جوجول فعلا ولكن "المفتش" و "النفوس الميتة" ستظلان وإلى الأبد نموذجا مثاليا لتعرية الفساد ومقاومته.. هذا الفساد الذي يهتف الجميع بضرورة استئصال جذوره!!
عبدالرحيم العطري